Print
سوسن جميل حسن

"لا تقتل ريتا".. من روايات الديستوبيا السورية

28 ديسمبر 2021
عروض

 


أصبح هناك مدوّنة روائية مكتنزة عن الحالة السورية، بصرف النظر عن مسمّياتها، أهي ثورة أم انتفاضة أم حراك أم أزمة أم حرب أم...؟ في غالبيتها تشغل الحرب والعنف والسياسة والدين والطائفية والهوية وقضايا مجتمعية متنوعة، مادتها وتشكل متون السرد، أمّا رواية "لا تقتل ريتّا" / دار جامعة حمد بن خليفة، للروائي السوري منذر بدر حلّوم، بعد روايات ثلاث سبقتها، "سقط الأزرق من السماء""، أولاد سكيبة"، "كأن شيئًا لم يكن"، فعندما ينتهي القارئ منها، يشعر أنه ما زال في أجواء كابوسية تلعب بنبضه وقلبه، فلا هو قادر على العودة إلى الواقع، ولا هو قادر على احتمال كوابيسه. هي هذيان رجل من تلك البلاد، يلوذ بالحب كلّما داهمه رهاب الموت العبثي، والتيه في دروب المعنى، بل يمكن اعتبارها تميمة أخيرة من تمائم الحب من أجل الحياة.                                                   

الرواية التي تنتمي إلى تيار الوعي تتدفق على مائة وأربعين صفحة، كثّفت وجعًا إنسانيًّا في أعتى صوره، بلغة شاعرية مضمخة بالحنين والخيبة والإحباط والمشاعر المتنوعة التي تتفجر كالبركان، فأحمد رجل سوري غادر بلاده على وقع الحرب، آملًا في عودة قريبة، أو بالأحرى واعدًا المرأة التي تحبه ويحبها أنه سيرجع قريبًا ولأجلها، بينما يصل إلى موسكو ليلفي نفسه غارقًا في لجة الكوابيس الليلية والنهارية، والذاكرة المشحونة، معلّقًا بخيوطها وبهاتف جوّال إلى هناك، لم يعرف سببًا لوعده سوى إيمانه بالحب، ثم يبدأ التداعي الذي يشغل يوميّاته في ذلك المكان الذي انتهى إليه، والمصير الذي واجهه، حتى إنه يعيش بين أوهامه وصور ذكرياته وأهلاس حاضره مفصولًا عن الواقع، فيتسبب بحادث سير انتهى به إلى المستشفى الذي هرب منه قبل أن تأتي الشرطة للتحقيق معه، وهو لا يملك إقامة.

عندما نعلم أنّه عندما صار في "بطن الطائرة" وربط حزام الأمان، كانت روحه تصرخ: لا أريد، دعوني أغادر هذا الحديد، لا تقلعي، لا تقطعي شراييني، فيمكننا أن نفهم ونتفهّم أيّ غربة يعيشها السوريون، وأي خيارات قسرية زجتهم الحرب في أنفاقها الظالمة.

يصل أحمد إلى موسكو بدون خطة ولا وعد، ليس لديه غير دافع وحيد: الهروب من بلاد لم تعد كالبلاد، ليلفي نفسه متشرّدًا لا مأوى لديه غير محطة القطار ينام فيها، وهناك تقع المصادفة العجيبة، بينما كان يترنّح بين النوم واليقظة، ويتذكّر رفيقه القوقازي داتو، أيام الدراسة الجامعية في موسكو، يظهر داتو أمام عينيه، فقد كان يتابع أخبار الموت في سورية على شاشة المحطة، ويتعرّفا على بعضهما بعضًا، فداتو يلاحق ريتا زوجته التي جمعتهما علاقة حبٍّ جامحة منذ أيام الجامعة، تركته وهربت مع عازف غيتار كما يقول، وهو ينتظرها في المحطة ليقتلها، فيتعثر بهذه المصادفة التي منها تنطلق الرواية، رواية بطلاها اثنان مهزومان، أحدهما في الحب بعدما هُزمت بلاده، وآخر في بلاده بينما ما زال يؤمن بالحب. 
                     
اصطحب داتو أحمد إلى سكنه في مبنى مهجور، في قرية على تخوم موسكو اشتراها تجار حرب الشيشان وبنوا عليها فيلّاتهم، "سيكون مسكنًا له ما بقي في هذه المدينة العملاقة التي لا تأبه للدموع". يعمل داتو في البناء لصالح تلك الورش، ويعرض على أحمد العمل معه فيما لو اضطرته الظروف، لكنه يستطرد: لكن يديك ناعمتان، يدي مثقف لا تصلحان لشيء، فيرد عليه أحمد: بل تصلحان لصناعة الوهم. في هذا إشارة إلى الدور الذي لعبه المثقفون بالنسبة للأزمة السورية.

تصير حكاية داتو قضيّته الرئيسية، هاجسه الموازي لهواجسه المسكون بها من قبل أن يغادر بلاده إلى اللحظة، وقضيته الأولى التي تشغله لتحقيق هدف وحيد، أن يمنع داتو من قتل ريتّا، لتطرح الرواية أسئلتها حول، الحياة، الحب، الحرب، القتل، الرجولة، المرأة، الوطن، موزعة على أربعة أبواب: باب الرحيل، باب الأبواب، باب الريح، باب المفاتيح.



يسكن أحمد مع داتو في ذلك المبنى المهجور، يقيم صداقة مع غراب يحط على النافذة يطلق عليه اسم سان، ليدلق أمامه حمولة من الوجع أثقلت روحه: "كلّما تأجّجت في قلبي النار، تجدّدت ذاكرة الأمكنة حيث على كلّ حجر رصيف وعند كلّ بائعٍ، حكاية وسؤال"، يحادثه مثلما لو كان أنيسه في الأيام الكابوسية التي يعيشها بعد أن غادر مثقلًا بذاكرة الحرب التي لم تُبقِ من الحياة إلّا النذر القليل، تحصد الجيل القادم، شباب يحملون السلاح ويموتون، وأطفال يموتون قبل أن تنبت الأحلام في رؤوسهم، مرتبط بتلك البلاد التي لم تغادره عن طريق هاتفه الجوّال، الذي يستدرج ريما، حبيبته، إلى السرد كشخصية أساسيّة في الرواية عن طريق التراسل معها بواسطة فايبر أو واتس آب، لتسير الرواية مثلما لو أنها بركان نشط يقذف بحممه فيحرق كل ما يشي بالحياة، رواية تصور واقعًا ديستوبيًّا يفوق الخيال، مثلما لو أن أحمد الذي يلّقب بالسوري منذ الفترة التي كان يدرس خلالها في جامعات تلك البلاد أيام الاتحاد السوفييتي، حيث سيعود إلى ذلك المكان  في مشوار استباقي ليحمي ريتّا من مصيرها ويحمي صديقه من قتل نفسه بعدها، لأن داتو القوقازي الخائب في حبّه، لا يستطيع الصمود أمام مجتمعه الذي يفرض عليه هذا الخيار من أجل إثبات رجولته، مجتمعه الذي صار محكومًا بالسلفية المعادية للحياة، ففي طريقهما بالطائرة لزيارة والده في القوقاز، يسأله أحمد إن كانا سيشربان النبيذ عنده فيقول: لقد فجروا الخمارة الوحيدة في بلدتنا، وقتلوا رجلًا عندما علموا أنه كان يبيع الخمور في بيته. والصغيرات اللاتي سيربين أولادهن في المستقبل تحجّبن، كما إنهم قطعوا الدوالي وراحوا يزرعون مكانها الخشخاش. داتو ناقم على الحرب فقد عانت بلاده من ويلاتها، يقول: عالم قيمه منهوبة بالمال والبارود. يقول والد داتو إنه لم يعد يريد أن يكون مسلمًا، بعدما قتل السلفيون أولاده وفرضوا شريعتهم على الباقين. وهو يرى في بقاء أحمد بعيدًا عن وطنه هروبًا من الواجب، بينما أحمد لا يعرف من يقاتل، فهناك فريقان، واحد يقتل باسم الوطن وآخر باسم الله.

وتنهمر الذاكرة زخّات متلاحقة، تغمره الصور القادمة من هناك، تأخذه الذكريات إلى طفولته في قريته المطلة على البحر، والأحلام البسيطة التي كانت تعمّر ليالي حرمانهم وفقرهم حينًا، وحينًا إلى مشاويرهما، ريما وهو، حيث كان هناك رجل في قريتهم يرعى عشرين طفلًا بلا أهل، إذ "أخطأتهم الأنقاض في بلدتهم المدمّرة" وحيث شبان يتحدثون عن غدهم في مقهى رصيف، ويضحكون بين لعلعة رصاص وأخرى، يتراؤون له كما لو أنهم يلقون التحية إلى الغراب، وهو بينهم يمسك بكرسيّ من أجل أن تعود ريما إليه، بينما يذهب الشباب ويقول أحدهم، ادعوا لنا قد لا نعود. وهناك أيضًا، في بلد الموت كانت سورة الفاتحة تسرح في الزواريب، ويسمع صداها على جبل بعيد، ثم في كل مكان، حيث صار السلاح بين الأيدي، والكل يقاتل الكلّ. يعيش الوهم كحقيقة، ويتابع ما انقطع في خياله من شطحات وهلوسات في رسائل إلى ريما، من دون أن تعرف عمّ وعمّن يتكلّم، بالأخص داتو الذي ينوي أن يقتل ريتّا التي تكذب.

تمضي الفترة التي لا نعرف كم امتدت، فلا تاريخ للبداية ولا للنهاية، المعلوم الوحيد هو الحرب التي تلاحق السوري القادم لا يعرف لماذا ولأجل ماذا وإلى متى، وأحمد مسكون بهواجس الموت والحرب والقتل والتهجير وسؤال المصير، تتداخل الأزمنة، بل الحاضر تحديدًا في واقعه الجديد، وتتداخل الصور والرؤى والأهلاس، ويصير العالم احتمالًا قائمًا على التشظي، تشظي روح فقدت توجّهها وانتماءها، لا المكان مكان، ولا الزمان زمان، فقط تلك اللجّة التي تصهر العالم في حمأتها الحارقة، وليست قصة ريتّا أكثر من مسار لتدفق الرواية ومحاولة للانتصار للحب في وجه القتل، حيث تنتهي مثلما ابتدأت، بلا يقين، بل بشطحات خيالية وهواجس وتوهان بين النوم واليقظة، فريتّا لم تهرب مع عازف الغيتار، بل ذهبت إلى تلك المنطقة القطبية حيث تعيش أخوية ينقطع أعضاؤها عن العالم، وهي حامل، وأحمد لا نعرف إن عاد فعلًا وهو في طريقه إلى المطار، وداتو لم يبقَ منه غير صورة يراها أحمد مقطوعة بشريط أسود كلما نظر إليها، وفي المبنى المهجور يتأمّل أحمد روحه الشاردة في براري تمتد نحو الجنوب البعيد، "يمدّ يدَه وينقر زجاج باب المطبخ في بيت ريما، في يمناه وجلُ اللحظة وفي يسراه أرغفة ساخنة من الفرن القريب، ويرى ظلّ ريما وترى ظلّه، ويُفتح الباب.... ويسقط الخبز الساخن من يد أحمد، ويلتمّ صغار معفّرون بالتراب حول الأرغفة، يأكلون ثمّ يعودون إلى موتهم".

هذه هي سورية، مدينة الكوابيس، في رواية ديستوبيا مسكونة بالقلق والوجع والخوف والإحباط والخيبة والندم والانسداد والدمار والانهيار، حتى لم يعد هناك ثغرة يمرّ منها ضوء في نهاية النفق، رواية يمكن اعتبارها مقطعًا من سيرة طويلة، سيرة وطن وسيرة فرد، يحكيها راوٍ متكلّم لا يدّعي أنه عليم بكل شيء ولو أنه تدخّل في بعض الأمكنة، القليلة، في السرد ليشرح أو يوضّح، لكنه كان أمينًا في سرد تغريبة عجائبية تقبض على الأنفاس.