Print
ميسون شقير

جديد نسرين خوري.. حين يؤثث الشعر نفسه بالتفاصيل اليومية

31 ديسمبر 2021
عروض



في المسافة ما بين الرقة والرهافة، وبين الذكاء والقدرة على تحقيق المفاجأة والدهشة، تأتي قصائد الشاعرة السورية نسرين أكرم خوري، كحالة مكاشفة لأعماقنا الهشة، ومحاكاة لحواف الحرب الخشنة، في مزيج فريد من البساطة اليومية ومن العمق، ومن الاعتماد على التفاصيل المعاشة، وبنفس الوقت مزيج من الانفلات منها إلى مدلولات تتجاوزها وتؤسس بها عالمًا موازيًا أقل وحشة وأكثر قابلية للتفكك، وأكثر قدرة على الاستمرار:

في كلّ زيارةٍ إليها

أمرّ في شوارعها بحسرة عدّاءٍ بُتِرَت ساقه

أتحسّس الوسام الوحيد المغروز يسارَ صدري

وأعود.

ما بين الحرب وظلالها السوداء، تتوزع قصائد المجموعتين "بجرة حرب واحدة" الصادرة عن دار التنوين (2015)، و"أركل البيت وأخرج"، الصادرة عن دار نينوى والحائزة على منحة آفاق للكتابة الإبداعية (2019)، بشكل ينضح بصرخات بلاد أنهكها الموت، وبصرخات امرأة تعود وتلجأ إلى الشعر في الدفاع عن إنسانيتها المصلوبة، ولكن لا وجهة للشاعر إلا الريح، ولا صورة للحرب إلا بشريط أسود. نسرين، القادمة من حواري حمص، تقدم الحرب في مجموعتيها كما عاشتها، طازجة، بصور لا زالت برغم كل هذا الموت العبثي، حية ترزق:

اصطحبَ معهُ إلى الحرب

صورةً مبتسمة

لامرأةٍ تنتظره وتنتحب.

(**)

كان يراسلها من هاتفه الذّكي حين قتلته رصاصةٌ،

وأطلقت قلبًا صغيرًا أحمرَ على شاشتها.

لم تعلم أنّه كان قلبًا حقيقيًّا أكثر ممّا يجب.

(**)

كي تردّ عليهم

صاروا ينادونها:

يا "لا أحد".

مذ دفنوا اسمها

الموشوم على يده.

تعتمد خوري في مجموعتيها على تبني حالة السؤال التي يجب أن يتركها النص في روح متلقيه مباغتا حادا وغير قابل للهروب، وهكذا جاءت مجموعتاها كي تشعل فينا السؤال عن كل ما نعيش، عن الحب، وفقده، عن الجسد وسخريته، عن الغربة، عن الحنين، عن الضياع والانتماء، عن سؤال الأنوثة وعن كل ما ضاع منا من أسئلة على الطريق حين كنا مشغولين فقط بالوصول:

أحرص على طيّ ثيابك

بعناية جنديٍّ ينظّف بنادقه.

*

زرٌّ من قميصك الأزرق

انفلت

مثل رصاصة طائشة.

وببراعة وشفافية تبني عالمها الشعري الكثيف من الرموز اليومية غير الكثيفة، متعففة عن التفاخر بالصنعة اللغوية، وعن التبجح بالصور المتكررة المصطنعة، مراهنة على قدرتها على أنسنة الأشياء وعلى تنطيقها، ومراهنة أيضا على إمكانيات الشعر اللامحدودة في صنع مرايا تحيطنا وفي تحطيم هذه المرايا لنفسها كلما لاحت صورة جديدة تجعل قلوبنا تقف على رؤوس أصابعها من فرط اللذة:

الفتنة المرفرفة على حبل غسيل جارتي

أكثر بلاغةً

من كلّ هذا التعرّي الّذي يحصل داخل اللغة.

وكما يقول جان كوكتو فإن الشعر الحقيقي "هو تزاوج الوعي باللاوعي"، من خلال تصعيد حالة الصراع مع أنفسنا التي لا تتوقف، والتي تعيد نفسها كلما خبت، وتأتي قصائد نسرين أكرم خوري كثقب في جدار حياتنا السميك، ثقب يسمح لنا بالتلصص بحرية على أنفسنا، وبالولوج إلى عوالم كنا قد خبأناها حتى عن ذواتنا وعن وعينا، مثلما خبأناها عن الآخرين:

يستخدم البحر

موجة أو اثنتين

لحلّ مشبك ثوب سباحة

أعجبه

*

الطريقة التي يعالج بها الزبد الأمور

تشبه ما أجهد لفعله في الحفلات

هيه أنا هنا

ثم .. لا أحد.

*

كتبت قصة عنوانها "البحث عن عروة"

أحكي فيها عن رجلٍ أنقذ حياتي مرّةً

ولمّا أزل أزعق في مناماته.

*

الغرق لمن لم يجرّبه بعد

تجربة مثيرة للغاية

تقضي عمرك بعدها

تفتّش عن صرخةٍ نسيتها لدى رجلٍ غريب.

 

إن خوري تبني قصائدها في المجموعتين على المحورين الثقافي والنفسي، وتراهن على رأسمال من الرموز اليومية الفردية والجماعية لعالم معقد متصارع مع ذاته، ومع الشاعرة نفسها في حركة طاعنة التأرجح بين الاستسلام والرفض، تفتح في القارئ أسئلة الإنسان المعاصر حول العزلة التي بنت غربته عن ذاته، العزلة التي زرعتها الحرب فينا كشجرة سرو تحرس باب المقبرة:

مرّةً وحيدةً دخلت مقبرة

كان فيها عددٌ كبيرٌ من الصّلبان

لمستُ أحدها

ذاك المتدلّي من عنقي.

وكما يقول فرويد فإن "مأساة الإنسان تكمن في حاجته إلى الشعر"، وتصر مجموعتا نسرين أكرم خوري على تأكيد حاجتنا إلى هذا الكائن الخرافي الذي يسمى الشعر، خاصة ونحن الذين جرحت الحرب أسماءنا مثلما جرحها الحب، وثقبت الرصاصات ظلالنا مثلما ثقبتها الخيام والمنافي وجوازات السفر، فلم نعد نملك ما يستر أرواحنا إلا رداء الكلمة الرقيق بصفته حارس صحراء اليأس وصبار الحزن فينا، وسيد بذرة الدهشة التي تعيد إنتاج أسئلة يعج بها هذا العالم، الأسئلة التي تلجأ إلى الشعر ليس لكي يغلقها بإجابات جافة، بل كي يرفع نبرتها المنخفضة، قليلًا:

كلّما بدّل أبي نوع تبغه

نقص من العالم رجالٌ قد أقع في غرامهم.

وفنيا جاءت معظم قصائد المجموعتين رشيقة قريبة من القارئ تختاله وتجعله يحس كأنه الكاتب، وكأنها تعمر بالخراب المعشش فينا حياة كاملة من أنفاس ووهج وغبار. شيء من المرارة العميقة ينبع من داخلك عندما تنهيها، وشيء من اللذة يسري كنهر بين أصابعك يأتي بعد المرارة مباشرة كأنك تكتشف العالم للتو، أو كأنك لا تريد أبدًا أن تكتشفه، ورشة داخلية معمرة بالتناقضات وبالتفاصيل اليومية البسيطة التي تؤسس لحالة في غاية العمومية والخصوصية معًا وفي غاية العمق لكنها تطفو على السطح كجثة:

أبدأ الأيّام بمحاولات الكتابة

أنهي الأيّام بمحاولات الكتابة

أرجوكم لا تخطِئوا فهمي

لا رغبة لدي بأن أصير كاتبة

أرغب فقط بنصوصٍ يحبّها عين نون، صاد عين، ياء عين، راء عين

أمّا العالم فليكتفِ بإحصاء خياناتي.

وبضمير المتكلم الذي يصل إلى العالم من خلال شدة الحالة الشخصية التي يقولها ومن خلال حقيقتها وضبابيتها وتناقضاتها، بهذا الضمير القابل للتفرد والجمع، والقادر على محاكاة الذات والكون تؤثث خوري عمارتها الشعرية التي تصلها بكل سكان هذه الأرض:

لإشارات الاستفهام

الموزّعة أعلى علّاقات ثيابك

جوابٌ واحدٌ: لي.

وبما أنه "لا فكاك عن اليوتوبيا، فهي حقيقة الغد"، على حد قول فيكتور هوغو، فإن مجموعتي نسرين أكرم خوري تحاكيان الشعر، بكل الأجنحة والأشواك، وتحاولان، بكل وعيها لهذا الخراب، أن تعيدانا إلى أنفسنا سالمين، حين تعبرانا كسهم قتيل، سهم من الدهشة والمرارة ولذة الاكتشاف والنسيان، ومن تلك الرعشة الشعرية التي تصعقنا كسيف.

"لم ينجُ أحدٌ سواي"

صرخ آخر رجلٍ في المدينة

إذا لا أصدقاء يغشّون في لعبة الورق

لا امرأة تنكر حبّه

لا كرات يضربه بها أولاد الحيّ

لا ربّ عمل مقيت

لا خطط لوضع أهله في مأوى عجزة رخيص

لا ديون

لا مشاجرات

لا شيء

..

قال: لم أعد وحيدًا

وراح يضحك عاليًا

اللعنة.. من سيطلق النّار على رأسي الآن؟!

الكثير من الشعر يسكن الروح بعد قراءتها، الكثير من الوجع والكثير من الجمال، الكثير من بتلات الورد والكثير من الأشواك، وأعلم أن الكثير من الشعر الطافح بالدهشة لا زال ينتظرنا مع جديد نسرين أكرم خوري.