Print
عمر شبانة

رواية "فاكهة للغربان": اليمن الاشتراكي وفلسطين الحاضرة في عدن

24 مارس 2021
عروض
تبدأ رواية "فاكهة للغربان" لليمني أحمد زين (منشورات المتوسط - إيطاليا)، بصوت نورا، بل بصرخاتها المستغيثة، ولكن غير المسموعة، ولا المستجابة: "صرختُ بكلّ ما تدّخره حنجرتي من قوة.."، نورا هذه الراقصة سابقًا في إحدى الفرق الشعبية التراثية، مشلولة القدمين حاليًّا، وذات الماضيَين؛ ماضٍ قبل رحيل الإنكليز، وآخر بعده، أي بعد استقلال عدن والجنوب اليمني، وتنتهي الرواية بصوت نورا نفسها أيضًا، ولكن وهي تبدو منتشية وتتصوّر قدميها وقد تحرّرتا من الأربطة "وتقومان بحركة راقصة تُبقيها في الهواء لثوانٍ، قبل أن تهبط وتروح تواصل الأداء".





وفي كلا المشهدين، نحن مع القائد الحزبي صلاح، في المشهد الأول وهو يتعرف إلى نورا، ويستمع منها عن علاقتها مع القائد الغائب/ الحاضر طوال الرواية (جياب، الذي سنكتشف أنه جرى اغتياله من قِبَل فصيل من فصائل الثورة اليمنية/ الجنوبية)، وفي المشهد الأخير صلاح وهو يغادر منزل نورا بعد فتحها النافذة، ومحاولتها المشي. ومنذ الآن، نقول إن الرواية هي رواية نورا (وآخرين)، بقدر ما هي رواية عدن في بُرهتَين؛ قبل الاستقلال وبعده، وتخاصم البُرهتان واحدتهما الأخرى.

عدن، المدينة التي ارتكبت أحلامًا تفوق طاقتها على التَّحمُّل، كما يقول منصور هايل في "هذيان الحطب"، أو هي المدينة التي لن يتبنَّى فيها فوّاز طرابلسي "صفة الإنسانيِّ لأيِّ قياديٍّ في التجربة الجنوبية، لما سادها من عنف وتصفيات" (من كتابه "جنوب اليمن في حُكْم اليسار"). فالرواية، إذًا، محاكمة لمرحلة شديدة التعقيد شهدها جنوب اليمن، منذ الستينيات حتى خلافات وصراعات وحروب الرفاق في الحزب، سواء أكانت حروبًا سياسيّة أم عسكرية، وضحايا هذه الحروب من الأطراف كافّة، خصوصًا من "الجماهير الجاهلة" الملتفّة حول هذا الطرف، أو ذلك، وعلى قدر من الديماغوجيا، و"الإيديولوجيست" المتشنجة، ما يضعنا حيال رواية تنطوي على قدر من التسجيل والتوثيق، وإن كان الجانب التخييليّ هو الغالب عليها.



خيوط الرواية المتشابكة
في الرواية، ثمّة راوٍ/ساردٌ، يسرد ويروي على لسان كل الشخوص (الأبطال)، ذوي الطبيعة المأساوية، في الغالب، ويعطي لكلّ من شخوصه مساحة من السرد و"الحكي"، ليحكي حكايته وطبيعة علاقته مع بقية الشخوص. ومن هنا تتشكل خيوط الرواية المتشابكة، كعلاقة نورا بكل من جياب وصلاح. جياب القائد الفذّ الغائب والمغيّب بالاغتيال، لكنّه الحاضر الدائم بين صلاح ونورا، صلاح القائد الذي يتذكّر ويحلم بميتة متفرّدة.
ثمة كثير من التفاصيل تستحق التوقف والمعالجة، ومحطات ومراحل، وأساليب وتقنيات تستأهل الوقوف لديها، لكن مثل هذه الوقفات والمعالجات تتطلب دراسة لا مجال لها هنا، فنكتفي بإلقاء أضواء على أبرز الملامح والمعالم، خصوصًا في محاكمات ذات دلالات عميقة، وحواريّات ومونولوجات داخلية تتضمن ذكريات الشخوص وأحلامهم الخاصّة بهم وبالمدينة ذات التاريخ العريق.
ومن الشخوص يبرز صلاح ونورا وجياب في صورة أساسية، لكن لدينا شخصيات أخرى ذات أهمية في تمثيل الجانب الفلسطيني الخارج من بيروت وحصارها عام 1982، ممثلة في سناء ونضال اللذين يرويان "حكاية" بيروت ونضالاتها وحضور الفصائل الفلسطينية فيها، وكثير من السلوكيّات للفدائيّين تجاه اللبنانيّين، وقوى اليسار اللبناني، وحكايات سناء مع "عنصرية اللبناني تجاه الفلسطينيّ"، ومقولة "لبنان للُّبنانيّين"، التي تقصد عدم أحقّية الفلسطيني بالوجود في لبنان. في حين تشيد الرواية، على لسان بعض شخصياتها (سناء تحديدًا)، باستقبال عدن وحميميّتها تجاه الفلسطينيين القادمين من بيروت.

نضال يجسد شخصية معروفة في حركة فتح، يهتم، بل يعتز بذكوريته وعلاقاته النسائية، وبطريقة فاحشة لا تليق برجل "الثورة" والنضال والمناضل، لكنه يصعد في القيادة من دون أن يدري أحد بأي كفاءة يصعد، وهذا في حركة كفاحيّة لقضية عادلة تقودها مجموعة من الانتهازيّين نحو الهاوية التي قادت إلى اتفاقيّات العار في أوسلو، وأوصلت الشعب الفلسطينيّ إلى الخراب والدّمار والذلّ الذي يعيش فيه.
تتنقّل نورا مع فرقة الغناء والرقص من موسكو إلى دول أوروبا الشرقية، حاملة رسالة عدن الاشتراكية، وتتلقى الحب والفرح من الجمهور الذي يتلقى رقصاتها بالحب والابتهاج. هذا ما تخبرنا به بحزن وألم كبيرين في واحد من مشاهد ذكرياتها الأليمة قبل ختام الرواية. الختام الذي ترى فيه نفسها في قمة النشوة، وتستعدّ للطيران، لكن أنّى لها أن تطير بقدمين مربوطتين بالقماش الأبيض لتعذيب لا نعرف، نحن القرّاء، مصدره؟ تعذيب يتسبب في شلل الفتاة الراقصة! ربما يكون الفصيل الذي تسبّب في غياب جياب الحبيب، حبيب نورا؟ ربما.



رواية سياسيّة
نحن هنا حيال رواية سياسيّة يقودها رجل (صلاح) عن طريق امرأة (نورا). لكنّها رواية عدن التي عرفنا حروبها في الثمانينيات والتسعينيات، من عهد عبدالفتاح إسماعيل ورفاقه الذين كانوا يعلنون الثورة، ويسعون إلى دولة اشتراكية، لكن الظروف حالت دون أحلامهم وطموحاتهم، فتحولت دولة عدن إلى دولة زائفة. كان الشيوعيّون فيها يرتادون فيلّا لاحتساء الويسكي وتدخين السيجار الفاخر، ولم يعد فيها من الشيوعية والاشتراكية سوى الشعارات.
اللافت في الرواية، قبل أيّ شيء، غياب اليمن الشماليّ، والعاصمة صنعاء، عن أي حضور، وكأنّ اليمن هي عدن وحسب، فما الذي يعنيه هذا الغياب، والتغييب، ونحن حيال رواية يمنية؟ ولماذا تحضر حروب ومعارك عدن، في حين تغيب معارك الشمال والجنوب، صنعاء وعدن؟ وهل المقصود، فقط، هو إدانة حروب الاشتراكيين في ما بينهم، والإشادة بعهد الإنكليز الاستعماري؟ ليس هذا طبيعيّا، فنحن حيال عهدين، الإنكليز وما بعدهم، وإدانة للعهدين معًا.
من اللافت أيضًا الإشارة إلى الإسلاميين، عبر شخصية بقطاش، الذي يرفض طلب والده قراءة سورة يوسف من القرآن، وتفسير ذلك، هل لأنه شيوعيّ ولا يجوز أن يقرأ القرآن؟ أو أن قصة فرويد وتحليله النفسيّ للآيات هو ما منعه من قراءتها، حيث لا يريد التفسير الجنسيّ لهذه السورة. وهي إشارة من إشارات شتى إلى بدء ظهور الجماعات الإرهابية (باسم الإسلام)، تنفي عنه كونه دينًيا "إرهابيًّا"، لكنّها تشير إلى هذا الظهور بشكل مؤكد.

يبقى القول حول العنوان، "فاكهة للغربان"، فما المعنيّ بالفاكهة، وما المقصود بالغربان؟ وكيف اجتمعت الفاكهة والغربان؟ هل أراد المؤلّف القول إن الفاكهة ضحيّة للغربان؟ إن الشهداء هم ضحايا الإرهابيّين ـ الغربان؟ هذا واحد من المعاني المباشرة التي تقود الرواية إليها، في الحصيلة الأولى التي تصل إليها هذه القراءة، وربما تستطيع قراءات أعمق الوصول إلى المعاني الأعمق.
هي رواية محبوكة جيدًا في بناء شخصياتها، في لغتها، في حوادثها، في أفكارها ومحاكماتها للواقع الذي كان يجري في اليمن (الجنوبي)، وأعتقد أنها تخلو من المبالغات التي تعاني منها الروايات العربية عمومًا، فهي على قدر من الاختصار والاختزال يسمحان باعتبارها رواية متميزة في جوانب شتى، وإلى ذلك ففيها لغة خاصة لا تتكرر في رواياتنا، وعلينا الاهتمام بهذا الصوت المختلف عن أصوات الرواية العربية.