Print
صقر أبو فخر

أدونيس في "دفاتر مهيار الدمشقي".. ملك يرثي مملكته

31 مارس 2021
عروض
سأشهد، بكل غبطة، بأنني مغرم بشعراء الحداثة جميعهم، لكنني منصهر بشعر أدونيس، ومتسربل بكلماته، ومندغم بموسيقى قصائده وأفاعيلها الجمالية. وكان الشعراء الكبار، أمثال بدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وحسين مردان، ونزار قباني، وخليل حاوي، وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومحمود درويش، وأنسي الحاج، ومحمد الماغوط، فضلًا عن عمر أبو ريشة، وعبدالرزاق عبدالواحد، ومحمد مهدي الجوهري، وعبدالكريم الكرمي (أبو سلمى)، يأخذوننا من حيرتنا الصاخبة إلى الشعر وزخارفه اللغوية والغنائية وأصواته الغاضبة، فيما كانت قصائد أدونيس تذهلنا، ثم تُطلِقُنا نحو أنوار بعيدة مجهولة، وتفتح أمام أعيننا آفاقًا بلا نهاية من الجمال واللذة والقلق والخيال. كان محمود درويش، وقبله خليل حاوي، ونزار قباني، يمنحنا مقادير من الراحة والمتعة والاكتفاء والإشباع، خلافًا لأدونيس الذي كان شعره يُشعل فينا الأسئلة عن معنى الوجود والحياة والموت والأبدية، وعن مبنى الشعر والتصوف ومكانتيهما في لجة هذا الكون الناقص. وإذا كانت جريدة "الغارديان" البريطانية وصفت أدونيس بأنه "أعظم شاعر عربي معاصر"، فأنا لا أجازف في القول إنه أعظم شاعر عربي في القرن العشرين، وفي العقود الجارية من القرن الحادي والعشرين.



حين قرأتُ ديوان "أغاني مهيار الدمشقي"، في أوائل سبعينيات القرن المنصرم، قلتُ: هذا هو الشعر، وقد أصبتُ. تقول الناقدة والأديبة والكاتبة الباحثة، خالدة سعيد، في كتابها "جرح المعنى" (2018) إن أدونيس افتتح، مع ديوان "هذا هو اسمي" (1970)، مسار الخروج من تقاليد الشعر؛ أي منذ ما لا يقل عن نصف قرن من معاركة الكلمات والأفكار والمعاني.
وتضيف خالدة سعيد: منذ "أغاني مهيار الدمشقي" (1961)، بدأ الخط النبوي الرسالي الرائي في شعره، وبات الشخصي الجسدي منحلًّا في نسغ النصوص" (ص10). والجرح لدى أدونيس هو لغز البداية (...)، وهو يغدو أصل العالم والتاريخ (خالدة سعيد، "جرح المعنى"، ص27). ويقول أدونيس في ديوانه المدهش "مفرد بصيغة الجمع" (1977): "لم تكن الأرض جسدًا، كانت جرحًا [...]. أخذ الجرح يتحول إلى أبوين، والسؤال يصير فضاءً. أُخرج إلى الفضاء أيها الطفل. خرج عليّ يستصحب شمس البهلول/ تاريخًا سريًا للموت [...]. يجوهر العارض ويغسل الماء [...]، أُخرج إلى الأرض أيها الطفل. خرج العاشق إلى عشيقته يجامعها للمرة الأولى، يتقدمها إله يهيئ السرير، ترافقه إلاهة تفك زنارها".
هذا هو الشعر؛ أليس هو إعادة خلق لبدايات الخليقة التي انسلت إلينا، وتسللت إلى وعينا، في صورة أساطير الألوهة الأولى، وحكايات نشوء الكون في حضارتنا الخصيبة الممتدة من سواحل البحر المتوسط إلى سواحل البصرة؟ وبداية الكون عند أدونيس جُرح فغر بين السماء والأرض، فامتلأ بالهواء. وعلى هذه الهيئة كانت جمرات قصائده المشتعلة التي فيها بداية الخلق والخليقة والخالق معًا، وفيها مصير ما خلق الخالق وما آلت إليه مخلوقاته.



ملك ونبي وخالق
في "أغاني مهيار الدمشقي"، صار أدونيس ملكًا: "ملكٌ مهيار. ملكٌ والحلم له قصرٌ وحدائقُ نارْ. ملكٌ مهيار، يحيا في ملكوت الريح، ويملك في أرض الأسرار". ويقول الملك: "أتجه نحو البعيد والبعيد يبقى. هكذا لا أصل، ولكنني أُضيء. إنني بعيد والبعيد وطني". غير أن أدونيس في ديوانه الجديد "دفاتر مهيار الدمشقي" (بيروت: دار الساقي، 2020، أربعة أجزاء) صار نبيًا خالقًا... كان يرى هاوية، لكنه راح الآن يحدق في الجحيم. والتحول من النبوءة إلى الخلق جعل شعره في "الدفاتر" آيات إلهية بديعة تتضمن ثراء تراجيديًا مذهلًا كالتجربة الصوفية التي هي محاولة دائبة للوصول إلى اللامرئي عبر غياب المرئي بحسب خالدة سعيد. وهذه المحاولة فيها مكابدة وعناء، ومن صفاتها الغرابة والتخييل واللامعقول والإبهام، وهي صفات الشعر أيضًا. وهذا الديوان بجزأيه منسوج بإحكام كأنه قصيدة واحدة بأصوات متعددة، وكل صوت يبدأ بكلمة سوداء، وكل عبارة فيه تتموج مثل غيوم في يوم مطير. أما اللغة فقد شفّتْ ورقّتْ حتى ذابت وصارت عطرًا... إنها لغة بلا زخارف وغير مرصعة بالزينة التقليدية، كأن الكلمات مثل ضوء بهي تكسّرَ في موشور ماسي، ثم انتشرَ في جميع الجهات.
يتلاعب أدونيس بالحروف والألفاظ كأنما هو الذي يبتدعها، أو يعيد ابتداعها، وليس أحدٌ غيره. كلمات وحروف وعبارات وألفاظ كالومضة، أو البارقة، وهي تتخذ شكل الخاطرة أحيانًا، حيث لا تنفك متأملة الوجود وعبث الأيام. وفي هذه النصوص، يتبادل الشعر والحكمة مواقعهما باستمرار، ويتناوبان على حبر الكلمات والأفكار. والشعر لدى أدونيس، خصوصًا في "دفاتر مهيار الدمشقي"، هجرة دائمة، وترحّل وسفر، فيما الكلمات آثار متروكة ومنثورة ومفرودة على خريطة الكرة الأرضية كلها، وهي لا تخرج من أي مكان، لكنها تغمر بألوانها جميع الأمكنة، وتتبدد في الأرض وهي تحاول التقاط ما يجري على هذه الأرض: حال بلاده، وحال العرب، والحرية والمنفى والحلم والشعر والمخيلة، والحب والجسد ومعنى الوجود والغيب والذاكرة والتاريخ والحضارة والتقدم والديمقراطية والدم والنار والسجن والقبر والورد والغيم والضوء والمطر والشجر والبحر واللغة. ولا يهدأ مهيار حتى يجول في الأمكنة، ويلوذ بمدينة حلب، ويزور المتنبي، وأبو العلاء المعري، الذي يخاطبه "يا أخي يا أبا العلاء".



دفاتر الأزل وذاكرة الطفولة
ما برحت قريته "قصّابين" الجاثية بالقرب من مدينة جبلة السورية ساكنة في صوته، حتى بعد أن غادرها منذ خمس وستين سنة. في هذه القرية التي كان يعود إليها دائمًا، وكلما أمكنته الأحوال، ابتنى منزلًا وجعل فيه مكتبة، وفي جواره مثوى. وما برحت فيها آثار والده التي لا تُنسى، ورائحة والدته التي لا تندثر، وذاكرة الأرض والانبثاق الأول للمعرفة الحسية المباشرة.

يقول أدونيس في دفاتره: "مرّ على غياب أبي أكثر من نصف قرن. لكن، لماذا أشعر كأنه حي، وكأنه يموت كل يوم؟". وها هو، بعد نحو ثمانين حولًا، يتذكر الحرب العالمية الأولى: "كنا نبحث في الحقول عن أعشاب تحلّ محل البرغل والقمح والخبز. للمرة الأولى بدأت أتعرف على الأرض والطبيعة".
ثلاثة عناصر حاضرة بكثافة في نصوص أدونيس الجديدة المسطورة في "دفاتر مهيار الدمشقي" هي: الوالد والوالدة والطبيعة. الوالد موجود في ذاكرة الأرض والزيتون والبذار والحصاد والفلاحين، ووالدته موجودة في موسيقى العنادل والحزن وقناديل المساء والاستلقاء على زندها في الليالي المقمرة، وكذلك الطبيعة بفصولها، وأشجار التوت، وأثلام الأرض المفتلحة، والعرزال والسواقي: "كانت قريتنا آنذاك تتنهد بين ماء يكاد ينضبُ، وحقلٍ لا يكاد أن يثمرَ ما يساوي تعبَ زرعه. كانت أصوات العنادل، قبيل الغروب، تملأ أرجاء بيتنا بموسيقى ترتسم أمام عينيّ لابسة ثوبًا بألوان الشجر. وكان البيت، عندما يسمعُ موسيقى هذه الأصوات، يصعدُ سلم الفرح مرتطمًا بالحزن".
لنقرأ شذرات من "دفاتر مهيار الدمشقي":

* "لا تأخذ الأرضُ معناها إلا بقدر ما تنفصل عن السماء [...]. شعوري، هذه اللحظة: الأرض التي أسير عليها أكثر بُعدًا من السماء".
* "الذاكرة هواء التاريخ [...]. ليس للهواء بيت".
* "الانسان لا شيء [لكن] هذا اللاشيء هو وحده بين الكائنات القادرة على ابتكار جميع الأشياء".
* "غائب، غير أنه لا يتوقف عن الكلام. حاضر، غير أنه لا يصغي".
* "الكلام الذي يُبتكر به المعنى قد لا يعود له أي معنى".
* "هل صحيح أن الموسيقى تصل في سفرها داخل الجسم إلى مناطق لا تقدر الكلمة أن تصل إليها؟ ولماذا، إذًا، لا يمكن إثبات ذلك إلا بواسطة الكلمة؟".
* "عبثًا تبحثين أيتها الحرية عن ملجأ تلوذين به".
* "الدم يرسم الدروب".
* "في سيرهما ينحني كلاهما للآخر: القبلة هي الانحناء الوحيد الذي يمكن أن يُسمى علوًّا [...]. كتاب بألف صفحة عن الشفتين تختصره قبلة واحدة".
*"من أين تجيئك القدرة على الكتابة، أنتَ يا مَن لا قدرة لك على الحب؟".
* "يشكو دائمًا من المنفى كما لو أن هناك مكانًا آخر".
* "ما الفرق بين شاعر تُحبه وآخر لا تحبه؟ الثاني يجد في الشارع ما يلهمه، والأول يجد ما يلهمه في التاريخ الذي صنع الشاعر. ما أدقّ الفروقات: شاعر/ شارع".
* "كيف لمن لا يعرف من أين أتى أن يعرف إلى أين يمضي؟".
* "يخترع تاريخًا بحجم الكون، ويعجز أن يشق طريقًا بحجم القدم".
* "هناك حلف بين رجال السياسة جميعًا يقوم على اليقين المشترك بأن العالم لا فائدة منه إلا إذا كان فاسدًا".
* "ما الحكمة من خلق كائن لا يثق به خالقه؟".

* * *


شرارة الشعر لدى أدونيس لا تترمد البتة، وها هي جمرات شعره تتوهج هنا في "دفاتر مهيار الدمشقي" بألق وتسامٍ. ومنذ قصيدته "قالت الأرض" (1954)، حتى دفاتره اليوم (2020)، أبدع أدونيس 25 ديوان شعر، وكتب 18 كتابًا، وأصدر مسرحية واحدة (أشجار تتكئ على الضوء)، وترجم 12 كتابًا. أَلم يتعب ساحر الغبار وهو يجول في ملكوت الريح، ويردد أن "منطق الغبار لا يعترف بجدل الريح"؟ ثم ينثني ليقول: "تعبتُ من كتابة لا تتعب. أَلم تتعبي، أنتِ أيتها الكتابة، من كاتب لا يتعب؟".
ها هو أدونيس الذي يدلف اليوم إلى عقده العاشر باندفاع الشبان، ما برح يسهر مع المطر، وينام مع الرمل، ويسمع "نحيبًا من جهة الفرات"، ويتساءل: "أهو نحيب الماء، أم نحيب الشجر، أم نحيب الرمل؟"، ثم لا يلبث أن يتلوى وجعًا حين يصطدم ببشر "جائعين ـ لا إلى النجوم، ظامئين ـ لا إلى رحيق الأبد: جائعين إلى الخبز، ظامئين إلى الماء".