Print
دعد ديب

رواية "الغميضة".. وجه وأقنعة

1 أبريل 2021
عروض

يقول إدوار الخراط إن فن الرواية يمتص كل الفنون الأخرى، من سينما ومسرح وشعر ونثر، وما إلى ذلك، بمعنى قابلية الرواية لأن تستوعب في متنها سائر الفنون الأخرى، وتمثلها في حناياها. وما العتبة النصية التي افتتح بها وليد علاء الدين منجزه الأخير، رواية "الغميضة" الصادرة عن دار الشروق عام 2020، المتضمنة لعبارة تحذيرية حول تجنيس الرواية بأنها مسرحية مخبوءة برواية، ويعطي قارئه كل الصلاحية بخصوص تحديد ماهيتها، سوى تأكيد منه على ذات الفكرة في قدرة الرواية، كجنس أدبي، على احتواء عوالم الأعمال الفنية والأدبية الأخرى، وهضمها وإعادة إنتاجها وفق رؤية السارد.



وليد علاء الدين في منجزه الثالث، بعد روايتي "ابن القبطية"، و"كيميا"، يعلن انتماءه إلى عالم الإنسان الفرد، في ختام العمل، وفي بدايته، باستهلاله الإهداء "إلى وجه الإنسان وهل هناك غيره"، في فلسفة الوجه والقناع، فلسفة المفرد والمثنى والجمع، تلك الثيمة التي تحتل مساحة العمل بغالبيته، بعد أن يدخلنا في لعبة مفترضة بريئة في محل لبيع الدمى تقع عبر أرفف الألعاب المصطفة، بين طفل وطفلة تتضمن الاختباء والتنكر، مما يثير فزع الطفلة، التي لم تستوعب وجه المهرج، أو البلياتشو، أو النقاب، وكل ما يخفي الوجه الحقيقي لصاحبه، رغم أن الكائنات الطبيعية، مثل الفأر والصرصار، وأشباههما، كلها لا تخيفها ولا ترعبها، لا يفزع الطفل مما يعرف، الفزع يأتي مما يجهل، القناع هو الفزع؛ الماكياج قناع؛ والمهرج قناع، لندخل مع الأطفال متاهة الأحلام، الطفل صار يفكر بأن الحلم يحمل رسالة، تجلى في رده على الطفلة التي تخاف من الأحلام بقوله لها فكري وعندها لن تخافي.

الطفل والطفلة يتجولان بين الحكايا، ليتتابع خطاب العمل عبر حكايات تتنقل في حلم الطفل، حلم بحكاية وحكاية بحلم، كمشاهد مسرحية متتالية رابطها الخط الحواري بين شخوص أقصوصة، تتكلم أحيانًا، وتصمت حين تتذكر أنها حكاية بداخل حكاية، بتصعيد فلسفي لفكرة القناع، فهو بعد أن يكاد يقنعنا بشفافية الوجه الواحد وصدقه يعود ليقلب قناعتنا رأسًا على عقب، بأنه ما من وجه واحد مرافق للإنسان، الوجه الذي نقابل به عدوًا مخالف للوجه الذي نقابل به حبيبًا؛ والوجه الذي نغضب به مناقض للذي نبتسم ونفرح به، الوجه الراضي مخالف للوجه المعترض، وإن كان لذات الشخص، مما يؤكد أن بالتعدد تنوعًا وإثراء واغتناء للمعنى، وهو صفة إنسانية بحتة، وبينهما يقع المزدوج الذي يروي ويتمثل ما يرويه، حيث كل حكاية يرويها يقوم نفر من الناس ويمثلها قبالة الجمهور المتخيل، من شيخ الدلالين؛ إلى التاجر المعمم؛ إلى الحسناء سالبة اللب؛ بطريقة تذكرنا بالراوي في المقاهي الشعبية الذي يروي قصة عنترة وأبو زيد الهلالي، فينتبه السارد إلى التداعي لدى المتلقي، وينقذ المشهد بدخول شاب يحمل لابتوبًا حديثًا، ليتهم صاحب الحكاية بأن حكاياته سرقة من بطون الكتب، من (ألف ليلة وليلة)، ويتابع سرد القصص مستحوذًا على اهتمام الجميع، وخاطفًا لاهتمام الجمهور، وحجب الأنظار عن المزدوج، وخاصة مع وجود بحوزته ماكينة صرف إلكترونية، وبطاقة ائتمان، أي يؤذن بأفول عالم قديم، ومجيء عالم حديث مختلف، والحلول محله، الفكرة التي توحي بنهاية الرجل ذي الوجهين، التي يصادر التطور التقني وجودها، المحتال من يقابلك بذات الوجه في كل مرة، فصاحب الوجه الواحد كمن يلبس القناع، وصاحب الوجهين إما أنه فشل في الوصول إلى حالة إنسانية معبرة، أو أنه اختار ألا يصل إلى تلك الإنسانية، أما المتعدد فهو الذي يعكس حالات الإنسان المتعددة.

يقول علاء الدين في أحد حواراته إن عمله تجريبي، والتجريبية بنت الحداثة وما ورائها، تلك التي أبجديتها تقويض اليقينيات الثابتة والتشكيك بكل المسلمات، ومع هذا نجده خجولًا في مقاربته للمقدس كفكرة، عندما تناول النقاب كقناع على لسان أحد الشخصيات، ولم يتجاوزه إلى سواه، وهل يعتبر فريضة، أم زيًا، أو عادة اجتماعية، ومع أنه أوضح حجم الضخ الاجتماعي والفقهي المسيطر، خاصة على جمهور أمي الثقافة والتربية، إلا ما ندر، مما يوحي باتساع المسؤولية المجتمعية الملحة للتنوير، وأهمية وجود مشروع نهضوي لفتح العقول وإطلاقها في رحاب التفكير الحر.
هذا التناقض بين العقلية الأصولية المؤيدة برؤية قطيعية الانتماء للتراث والتاريخ، وبين الرغبات الطبيعية للإنسان السوي، محصلتها ذلك الشرخ النفسي الكبير، والتشوه في فهم الفرد لكينونته.
تسيطر العامية على مجمل خطاب العمل، ويحق لنا السؤال لماذا كل هذا الإسراف في استخدامها، وهل نضبت العربية الفصحى عن إيجاد نظائرها اللغوية، أم هي الفكرة في تبسيط المعنى، وجعله قريبًا من متناول العامة، ومفهومًا من الغالبية العظمى، مع أن المطلوب من الأدب رفع الذائقة الجمالية للجمهور، والنهوض بوعيه، أكثر منها التوافق حول ما يريده، أو يرتاح إليه، مع العلم أن اللهجة العامية تضيق من انتشار العمل نتيجة صعوبة فهمها في بيئات عربية أخرى، ولاختلاف استخدام المفردة بين مكان وآخر، رغم أن اللهجة المصرية تسجل انتشارًا أكبر من سواها نتيجة انتشار الأعمال الدرامية في سائر أرجاء المنطقة العربية.
التوسع في العتبات النصية، والعنوان المستوحى من ألعاب الصغار، الذي يماثله تعبير الطميمة، أو الاستغماية، وسواها، إضافة إلى الإهداء لوجه الإنسان، ولتوفيق الحكيم وحماره في عمله الشهير "حمار الحكيم"، الذي يكثف فيه صورة الجهل المطبق، والتساؤل المطروح فيه بين الجهل البسيط والجهل المركب، والاستعارة المسرحية بكافة تلاوينها، وهذه المشهدية التي يتنقل بها، وتتيح له إمكانية أكبر للتنقل في وحدات متتالية، تزيد من امتدادات تعميق وتنويع النص والفكرة، مما كان له أن يفيض عن صفحاته المئة وسبع ويزيده غنى واتساع وقوة.
"الغميضة" عمل اعتمد مشاهد التقطيع، كموتيفات متلاحقة في عروضه الممسرحة، متكئًا على حلم يقظة لطفل احتملت تهويماته المرور والتنقل بين الماضي والحاضر، واستحضار تاريخ الأمراء والجواري واللباس والأزياء، التي ترجع لبعض الفترات التاريخية، ليجري تقاطعًا بين خطاب الحاضر، الذي ما زال في امتهانه لواقع المرأة وتغييبه لحضورها وتعليمها، وإن اتخذ أشكالًا جديدة، إلا أن الصراع ما زال مستمرًا، وما اندماج وجه عزة الصبية بوجه الطفلة سوى تأكيد لفكرة الوجه الواحد البريء، أي الحل الذي ارتآه وجهًا لوجه من غير أقنعة.