Print
صدام الزيدي

"رسول الناس".. جسرٌ شعريّ بين الأرض والسماء

25 مايو 2021
عروض


عن دار نشر "شهريار" العراقية، صدر حديثًا للشاعر والمترجم العراقي المقيم في الولايات المتحدة، فضل خلف جبر، كتاب شعري بعنوان "رسول الناس" متبوعًا بعنوان فرعي "عابِدُكَ ورسولُ الناسِ إليك"، احتوى 38 نصًا في 130 صفحة، بلوحة غلاف للفنان التشكيلي العراقي صدام الجميلي. ويهدي الشاعر كتابه إلى "جميع من فقدوا نعمة الوطن من مُهجّرين ومُهاجِرين. والمقتلعين من جذورهم بقوة الكراهية، وكل غريب في وطنه".

قصائد المجموعة الشعرية (كتبت بين 2013 و2020) وهي قصائد مدجّجة بالمظالم وأنهار الدم والشتات والتهجير، كُتبت بلغة هادئة وساخرة حينًا، تذهب في رحلة من (شاعر) الأرض إلى (الخالق الرحيم) السماء، إذ يقوم الشاعر بدور الوسيط في نقل أوجاع وهموم وعذابات الناس، وليس له من طريقة سوى الشعر، وبالتالي فهو يؤدّي مهمة إنسانية من خلال خطاب مغاير تمامًا للخطاب السائد. 

في تقديمه للكتاب عدّ الناقد حاتم الصكر محتوى "رسول الناس"، انقلابًا على الخطاب الشعري السائد، مبينًا أن هذا الرسول ذو رسالة منعكسة من القاع إلى السماء تخاطب الرب الرحيم الخالق، ولكن بعتب ولهفة، لأن رسول الناس (إذ يأتي من فم الجائع وشهقة المغدور)، يجمع أحزان الناس "في مصهرٍ كونيّ"، ليعرضها في شكواه. وهنا، لا "نبيّ جبران" ولا "رسول بوشكين"، بل واحد من الناس، يخاطب إلهًا يفتقد رحمته، وينقل إليه شكوى البشر.

وينوِّه الصكر بأبنية شعرية يؤطّرها الخيال، في سياق القصائد، إذ نقرأ تضرّعات وشفاعات ومظالم، توهمنا بالصبر والتعقّل، لكن دلالاتها ومغازيها "تضجّ بالصراخ" من أجل هذا العالم، الذي تتحوّل فيه حياة البشر إلى جحيم "لا يهدأ عذابه أو يخفّ"، فتشعر وأنت تتابع موتيفات القصائد المنتزعة من تقويم الألم اليومي المدمّر، بأنك ترى ما يجري من أنهار الدم والظلم والفاقة، في بلد الشاعر (العراق)؛ البلد الذي "حضارته تفوق حاضره وتزدريه".

 

"أقسى أنواع الغربة"

ويستعيد الناقد الصكر، في سياق قراءته لمحتوى "رسول الناس"، ما تحدّث عنه التوحيدي، بـِ (أقسى أنواع الغربة)، وهو ما تكتبه وتتكبّده وتنقله إلى الإله الخالق الرحيم، قصائد الكتاب: قصائد نثر مدجّجة بالصور واليوميات، تنجز تلك الرسالة، التي يقول العنوان الجانبيّ للديوان، إنها (من: عابدك ورسول الناس إليك)، ويهديها الشاعر جبر إلى (المُهجّرين والمُهاجِرين)، وإلى غرباء فقدوا كل شيء في غربتهم الغريبة، وهم غرباء الأوطان، أساسًا.

ويلفت الصكر الانتباه إلى أن الناس (في قصائد الديوان) هم أبطال هذا المشهد الشعري الذي تُذكِّرنا تضرعاته ومخاطباته، بتضرعات متعبّدين عبر التاريخ ابتلوا بالدواء، وتلمّسوا الدواء، صابرين، برغم ذلك (الجحيم اليوميّ) الذي لا يُحتمل، وبسببه، أيضًا.

كما ينوّه الصكر، بـ"الإشارات المنتزعة من التراجيديا العراقية"، وبلغة الشاعر، أيضًا: "لغة تبدي الهدوء، والسخرية أحيانًا"، ولكن، بكثيرٍ من الوجع؛ فالرسالة (الشعرية) المنعكسة من القاع إلى السماء، المتضمّنة خطابًا من العتاب واللهفة الشديدين، إذ تأتي من الفم الجائع ومن الشهقة المغدورة، في رحلة افتراضية، تمتدّ مجازًا إلى "رصيف دابادا"، قادمة (في رحلة يقطعها الشاعر جبر) من "الناصرية"، مدينة صباه وفتوته، إلى "الشرقاط"، حيث مدينة الروائي المغدور "حسن المطلك". أما محطة (رصيف دابادا)، فهي إشارة لعنوان رواية الفقيد مطلك، كما جاء في قصيدة/ رسالة الشاعر جبر إلى محسن الرملي، الكاتب والمترجم، شقيق مطلك. ويبقى الموت بالمرصاد، أيضًا، إذ (يتربص بك الدماغ الناسف والروح المفخخة).

في نص بعنوان "من أجل أرواحنا"، يقول الشاعر جبر:

"لتزرع شجرة أملٍ من أجل أرواحنا التي بدأ زيتها بالنضوب

من أجل أطفالنا الذين لا ذنب لهم سوى أنهم محكومون بأدراننا

من أجل وطنٍ لا نستحقه"..

إلى أن يقول:

"كلنا بحاجة إلى كتفٍ نسند إليه قلوبنا المتعبة

كلنا بحاجة إلى كلنا

من شرق القلب إلى غربه

ومن شمال الروح إلى جنوبها".

 



"
طائرُ الحلَلَّسِ" نازع الأقفال

مرّة واحدة في السنة، تدخل "أغنية طائر الحلَلَّسِ" قلوب الناس، فتلمس أعماقهم الخفية (الأعماق التي كان مغلقة بأقفال الريبة، وحذر الآخرين)، وبالتالي، تتملّك الرحمة والطيبة قلوب الجميع، فتعود العلاقات الإنسانية بمودة بين المتخاصمين، وبين الجار وجاره، وبين الزوج وزوجته، وبين الذين عصفت بهم الكراهية واشتعلت بينهم نار الحقد والضغينة. لمرّة واحدة فقط في العام، يحدث هذا، إذ ينجح "طائر الحلَلَّسِ" في نزع الأقفال بين القلوب:

"فتهرب الخفافيش والوحوش الكاسرة

تهرب الأحزان والأزمات

تهرب الأحقاد والغضب الجارف

تهرب الكراهية والازدراء

يهرب كل شيءٍ قبيحٍ

وتنمو بدلًا عنها 

رياحين الحب وليلك الطمأنينة

وأشجارُ فاكهةٍ كما لا عين رأت".

لمرّة واحدة، كل عام، تنمو الفراديس في كل قلب، فيفرح الناس بـ"فراديس قلوبهم"، وبالتالي، يشرعون أبوابها "لكل القاصدين"، فما الذي تفعله أغنية طائر الحلَلَّسِ "الفائقة"، التي تبعث في أرواح المتعبين إيقاعًا سماويًا كما لو أن ملاكًا يهبط أرض العراق حاملًا معه قبس حكمةٍ أزليّة؟.

أما "ليلة أم الحلَلَّسِ"، ففي الموروث الشعبي المتداول في جنوب العراق، يتم إحياؤها بروح صافية ومُحِبّة لكل ما حولها، فهي الليلة التي تسبق العيد، وفيها يتم تنظيف البيوت بالكامل، استعدادًا للاحتفال بالعيد. ولعل جبر، بافتتاحه كتابه الشعري بهذه القصيدة، أراد أن يعمّم الحب والسلام بين بني البشر، كي لا تطغى على صفحات يومياتهم، روح الكراهية ونزعة الحقد وممارسات الظلم والفساد، إذ يحمل السواد الأعظم من صفحات الديوان، الشكوى والعذاب والمكابدة في مناجاة مغايرة تنشد رحمة وعدالة الخالق الرحيم، أن يجعل من كل الأيام والليالي "حلَلَّس" بشكل دائم.

حتى الشياطين، "تهرب إلى ظلمات جحورها"، كما أن اليابس يخضرّ، والميت يحيا، والغاضب يهدأ، والحزينة تفرح.

لمرّة واحدة في السنة، يصفو الإنسان وتكفّ يده عن الظلم، وفيما عدا ذلك، تظلّ الشكوى مريرة، عن مآلات "وطن يتمزّق كجسد مستباح"، في سياق محاولة شعرية جديدة تقلب منطق الخطاب السائد، سؤالها الأهم، الصاعد بعتب ولهفة، من الشاعر (نيابة عن البشر) إلى الخالق في السماء: "هل أعطيت الحياة ليسلبها بعضنا من بعضنا الآخر"؟، وهو التساؤل المكلوم، الذي استهلّ به الدكتور الصكر، سطور مقدمته الموجزة حول قصائد ديوان خلف جبر.

و"مثل جملٍ في سمِّ الخياط"، (عنوان إحدى القصائد)، يركض (الإنسان) باحثًا عن ظلّه. ومثل غزال جريح، يطارده الصيّادون ويتربّصون للإيقاع به في كل ما لا يتوقعه. ومثل جملٍ (ضائع) يركض في طريقٍ لا تستدلّ عليها خارطة الـ(GPS):

"لستَ خائفًا لكنك مرتبكٌ

لستَ بطلًا لكنك تريد البقاء على قيد الأمل

لستَ حياديًّا لكنك تفكر بمن سيموت لاحقًا

لستَ متهوّرًا لكنك مجبولٌ على تفسير الأحداث

لستَ أفلاطونيًا لكنك تريد أن تعيش الحياة ببساطتها

فلماذا يتربّصُ بك الدماغُ الناسفُ والروحُ المفخّخة"؟.

 

 

تنزع قصائد "رسول الناس"، إلى حياة تحرسها الآلهة، لأن البشر يفتقدون إلههم المرجوّ، ولتكن حزمة آلهة: لكل شكوى ولكل حاجة ولكل مأزق ولكل مظلمة ولكل فاقة ولكل عذاب ولكل شيء دمرته أحقاد البشر ومزّقته سكاكينهم، في حق بعضهم بعضًا.

على أن الأمر يحتاج إلى حزمة آلهة، وفقًا لنص يتوسّط الديوان، مكتوب بلغة مغايرة، وساخرة في آن، تنشد تدخّلًا إلهيًا عاجلًا، يوقف القبح والدمار وأنهار الدم. ولهذا، يقترح الشاعر مزادًا افتراضيًا ضمن ثورة شعرية لـِ "تفقيس الآلهة"، وهنا يمكن لكل واحد من الناس: "تبنّي إله بحجم قطةٍ صغيرة/ أو فيلٍ كبير/ بكرشٍ أو بدونه/ ناعم الملمس أو خشن/ بابتسامةٍ خلابة أو تكشيرةٍ مرعبة"، إلخ... من المواصفات الفورية والقدرات الخارقة، بما في ذلك إتقان الغناء والرقص طويلًا، و"دغدغة المشاعر المتبلّدة" عند الطلب، بطاقةٍ يدوية، وحينًا آليّة. ويمكن وضعه في جيب أو في خزانة البيت أو بالسيارة. فالآلهة متوفّرة (في مزاد شعريّ- افتراضيّ) وهي جاهزة لإنصاف المظلومين والاقتصاص الفوري من ظالميهم. وثمة تقنية برمجة ذاتية لدى الآلهة (المعروضة في مزاد جبر الشعري) وهي خاصية مستحيلة (إلا في خيال شاعر نصب نفسه رسولًا للبشر، يحاول الهرب بنفسه وبهم من مصهر الحياة إلى نصرة الخالق)، ومن أهم ميزاتها أنها برمجة فورية - تفاعلية، تتعقّب الخصوم وتعاقب مرتكبي المظالم، تنشر السلام والعدل وتوقف أنهار الدم، في بلد غارق في مآسيه وانتحابات شعبه المهجّر بطريقة أو بأخرى:

"لا يمكنك تصديق ذلك

حتى تقتني واحدًا أو مجموعة من هذه الآلهة العجيبة

حينها ستدرك كم ضاع من عمرِك

خارج حدود الجنّةِ

والجنّةُ على بعدِ كبسةِ زرٍّ واحدٍ

والزر على بعدِ أمنيةٍ واحدةٍ

فبادر بالاتصال الآن

........................

لا تتأخر كثيرًا

فالجنّةُ لا تفتحُ بابها مرتين"!. 

غير بعيد، في قصيدة تالية، يسأم الشاعر من انتظار آلهة افتراضيّة تتطلّب مزادًا تنافسيًا، فيقرّر الذهاب إلى الصين، ليعرف، كيف بإمكان مليار صينيٍّ، العيش في بيت واحد، "دون أن يأخذ بعضهم برقاب بعض". كما يرغب في إخبار كافافي، أن البرابرة قد وصلوا أخيرًا، "بكامل عدّتهم وعديدهم"، ولسنا في حاجة لانتظارهم. ويتمنى لو أن بإمكانه محو ملايين الكتب السقيمة، المعبوءة بفيروسات الكراهية، وجراثيم النفاق. وأن يكتب على جبهات الساسة المفسدون، تواريخ صلاحية، "يُلقون بعد نفاذها" في حاويات المهملات. وأن يجمع "أحزان البشر"، في "مصهرٍ كونيّ". وأن ينشر المحبة والإخاء بين الناس، فهو رسولهم، وهم أبطال قصيدته. شاعر يريد أن يقول ما يريد قوله "دون قلقٍ شديدٍ"، من أن تُصوّب إليه خناجر الأصدقاء، قبل بنادقِ الأعداء.

ونشير إلى أن الشاعر والمترجم فضل خلف جبر، يقيم في الولايات المتحدة، منذ عام 1998، وهو فائز بجائزة مجلة "الأقلام" للشعر في نسختها الأولى، 1993. صدرت له، قبل ديوانه الأحدث "رسول الناس/ عابدك ورسول الناس إليك"، الدواوين التالية: "مدري ياهو"؛ "من أجل سطوع الذهب"؛ "طق إصبع"؛ "آثاريون"؛ "حالما أعبر النشيد".