Print
دعد ديب

"دفاتر الورّاق".. المكان المتشظي بين الذات والواقع

26 مايو 2021
عروض



"في الزحام تخفّ حدّة الخوف"- هذه العبارة المطرّزة بالحكمة التي ترد في رواية "دفاتر الورّاق" لجلال برجس الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر لعام 2020، والتي أعلن أمس الثلاثاء عن فوزها بجائزة بوكر، مفسّرة لسلوك جحافل الهاربين من قراهم إلى وحل المدينة ومن مدنهم إلى غربة العالم، فالخوف الذي يشلّ العقول والقلوب هو التيمة التي انطلق منها صاحب "أفاعي النار" لينسج عبرها عباءة السرد في منجزه السابع، محاولًا أن يضع الكائن بمواجهة خوفه؛ خوفه من الآخر مرة وخوفه من نفسه مرة أخرى، الخوف اللاجم للحياة الذي يقود إلى العزلة والوحدة، متقصيًا أسبابه ودوافعه، تلك المفاهيم التي أكدّت عليها دراسات ما بعد الحداثة التي جسّدتها رواية "دفاتر الورّاق" خاصة ما انعكس منها في أزمنة الاغتراب والازدحام التي أظهرت عزلة الفرد وغربته حيال التقنيات الحديثة والتضخم والاكتظاظ الذي يسود العالم، وفي بعدها عن المركزية واعتنائها بالهامش على صعيد الإنسان والجغرافيا، حيث مناطق العشوائيات والأرياف المدقعة بالفقر التي تنضوي فيها الشخصيات المقصية في المجتمع، فئة المنبوذين والمهمشين، وخاصة خريجي المياتم اللقطاء ومجهولي النسب الذين دمغوا بتهمة لم يقترفوها والمستقبل الغامض الذي ينتظرهم من تشرّد وفاقة وانحدار إلى الدرك السفلي في قاع المجتمع حيث يكون نصيب الفتيات من هذا الهوان أضعافًا مضاعفة، إضافة للتهاوي الذي ينحدر إليه المثقف وهو يواجه طغمة الفساد التي تبتلع كل شيء، والشلل المستشري الذي أصاب المجتمع وفئاته الثورية التي طالها السجن والاستلاب وتم حرمانها من الحياة الطبيعية لتخرج مأزومة تعجز عن التآلف مع المجتمع - كشخصية الأب جاد الله المناضل الذي أكل السجن زهرة شبابه وعرّض أولاده للجوع والحرمان كتعبير عن جيل كامل محبط ومقهور، والإضاءة على عالم المسحوقين والبدو والرعاة الذين أصبحوا نواة مهمشي المدينة بعد ذلك.

نصادف الازدواجية التي يعيشها البطل إبراهيم والقرين الذي يأتيه على شكل انتفاخ بالبطن في فانتازيا الشيزوفرينيا، فاللامنطقي الغريب يقود المنطقي في السرد في نوع من التحوّل الشبيه بالمسخ، والبطن التي تنتفخ وتتكوّر وتشكّل أمرًا معيبًا وفاضحًا له على شكل تناقض بين ما هو في الواقع من جبن وانكفاء، والمكبوت في داخله الذي يتوق للانعتاق والفعل رغم مخالفته الصريحة لأعراف المجتمع وقوانينه الجاحدة التي قذفت به إلى مهاوي الفاقة والإنكار، والثنائية التي يعيشها بطل العمل بين حقيقته الواقعية والكائن الذي يتلبّسه، لها صوتان، صوت الزاهد المستكين لأقداره الظالمة وآخر يبرز من ذاته مؤنبًا إياه على جبنه وخنوعه لواقع جاحد لحقوقه ولا يعطيه حتى الفتات، باقتراحات لحلول على نمط روبن هود الشخصية المستلة من الدراما كلص يحمل مبادئ لإعادة توزيع الثروة في المجتمع عبر الشخصية السوبرمانية وهي تقتحم بيوت الحظوة المالية، ومن خلالها يسلّط الضوء على شرائح أثرّت وتوغّلت ضمن مافيات الفساد، لا سيما عندما تفشل الأنظمة والتركيبة المجتمعية السائدة في إيجاد حلول ناجعة لها، فعلم الجريمة يعنى بالجانب السيكولوجي للشخصية واضطرابها الداخلي الذي ينفصل فيه عن الواقع ويرى حلولًا فردية في زمن بهتت فيه الحلول الجمعية حيث البطن المنتفخة توجّه انتقامها إلى (مسؤول التنمية الاجتماعية الذي رفض منح قرض لجارته الستينية أنيسة مما جعلها تتوسل القمامة كحلّ أخير لها – صاحب المنزل الذي يهدّده بالطرد – المتنفذ الذي أخلى كشكه وأقام مكانها متجرًا للأجهزة المحمولة الحديثة) وسواهم من الفلاشات الكاشفة لمحن إنسان العصر، حيث ملامح الحقد الطبقي والصوت الآخر من جرس القسوة المضادة.


والشخصية الثائرة التي تخلّقت من ذاته تتقمّص شخصيات أبطال أعمال روائية خزّنتها ذاكرته ومهارته الفائقة على المقدرة بتمثّل تلك الشخصيات وتقليدها؛ سعيد مهران في "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، "الدكتور جيفاغو" لميشيل باسترناك، مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، كوازيمودو بطل "أحدب نوتردام" لفيكتور هيجو، في ردّ فعل انتقامي لكل الشخصيات المهمّشة والمظلومة، فإزالة كشك الكتب لصالح إقامة معرض للأجهزة الجوالة يعطي فكرة عن عالم الاستلاب الجديد المتفوق واستبدال المعرفة بتقنيات عالية ومستوردة تفيد عالم  الاستهلاك الذي تديره أياد مجهولة لا نعرف إلى أين تقودنا، في إضاءة على الأصوات السردية المتعددة التي حفلت بها الشخصية الواحدة برؤية دلالية على داخلها المتشعب في خلفيتها الثقافية. كما طوّع الكاتب عمله لأسلوب الرواية البوليفونية أو ما اصطلح عليه بتعدّد الأصوات السردية، إذ عطل سلطة الراوي وجعل شخوصه تتحدث بلسانها عن حياتها الخاصة،  ومن تقاطع محكياتها تتجسد اللوحة السردية في ذهن القارئ مرتبًا للأحداث التي غطت الماضي والحاضر السردي، متشابكة مع توزع المكان بين مادبا وعمان وموسكو، والشخوص الموزعة بين الريف والمدينة، حيث المكان – البيت والذات هي من يدور فيها الحدث المتشظي عبر الأزمنة المتداخلة والتنقل بين الماضي والحاضر في استثمار للإضاءة على ماضي الشخصية وتفسير سلوكها الراهن، فلكل تشكيل اجتماعي أحزانه ومآسيه، لتشابه التركيبة المتماثلة للمجتمع العربي بشكل عام، حيث لكل منها همومه ومشاكله وكوابيسه.

امتاز العمل بوحدة العالم الروائي عبر الأسلوب السردي المتعدّد واللغة الشفافة العالية على غرار "ترقص كأنها تروض نحلا عند فم وردة - امرأة حين رأيتها شعرت ببرق يهوي في سماء روحي فشعرت بأن للحب يدا قادرة على انتشال غريق يلفظ نفسه الأخير في بحر هذه الحياة المالح"، في سبك للبناء الفني للمعمار الروائي، حيث الانتصار للفن على حساب الجملة التقريرية للشعارات السياسية  المحتشدة بالإيديولوجيا، والتي يتبعها بالضرورة فعل القراءة في تبادلية التأثر والتأثير، فالشخصية المحورية إبراهيم تقرأ في أوراق ناردا، وناردا تقرأ في أوراق الأب جاد الله، في تقنية قصة ضمن قصة في سيناريو الصحافية المكتوب للجريدة، ولكنه بذات الوقت حكاية الأب وأسرته وتاريخ الشقاء الذي يحف بالعائلة عبر تداخل الأصوات التي تقول الحكاية (إبراهيم المطرود من محله ومن بيته – ونموذج الأب من  أصحاب الشعارات الذي أصابهم المعتقل بشلل عن الحياة - ليلى وأقرانها من مجهولي النسب- صوت ناردا من خلال قراءة مذكراتها التي تركتها على ضفة البحر).

وامتاز في العنونة "دفاتر الورّاق"، فالورق شكل ثورة في عالم الكتابة والتدوين وحفظ الأثر الفكري من خلال اللغة، والاستهلالات التعبيرية الأخرى كعتبات نصية للولوج إلى المعاني العاكسة للمناخ النفسي العام والتي تقود لمسحة الشجن التي تسكن الكائن بعبارة العجوز العابر "كلما كبر صمتك كبر حزنك"، وعبارة "ضميري يطاردني، فهو الذي يتعقبني، ويقبض علي، ويحاكمني، ومتى سقط الإنسان في قبضة ضميره، فلا مفر له" لفيكتور هيجو وكأنها صوت مضمر آخر فيه اعتراض أخلاقي على الطريقة التي تحولت فيها الشخصية المحورية، كما يعنون الفصل الرابع بتوشيحة لتولستوي بما معناه كل إصلاح يعالج بالعنف لا يعالج الداء، الحكمة في الابتعاد عن العنف وكأنه صدى مناقض للحلول التي يقترحها القرين.


نعرج بعدها على الغلاف الذي يمثل كائنًا يجر ثقلًا ما وهو يصعد على صفحات كتاب وكأني به يجر الصخرة السيزيفية إلى أعلى الجبل، وهذا الجبل هو الكتاب، ذلك المفتوح على الرجل وما يجسده من اندماج بين الفن والعلم والتناسب بين الإنسان والمفاهيم الكونية.

صدر لجلال برجس في أدب المكان "شبابيك مادبا تحرس القدس" (2017)، و"حكايات المقهى العتيق"- رواية مشتركة (2019). ونال عن روايته "مقصلة الحالم" (2013) جائزة رفقة دودين للإبداع السردي عام 2014، وعن روايته "أفاعي النار" (في فئة الرواية غير المنشورة) نال جائزة كتارا للرواية العربية (2015)، كما وصلت روايته "سيدات الحواس الخمس" إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية 2019.

يقول جلال برجس "إن الكتابة فعل تعرية"، كلما أزلت طبقة بانت تحتها طبقة أخرى وأظهرت حيزًا من الجوهر الكامن مستلهمًا فحوى رواية غونتر غراس "تقشير البصلة" حيث كلما رفعنا طبقة منها صدرت رائحتها النفاذة الدالة على الكينونة الحقيقية في الوصول إلى الزوايا الخبيئة والعميقة، يقابلها فعل القراءة ككساء من الوعي والانتباه لحقائق الوجود والعالم ونفاذ إلى أدق تجلياتها.