Print
وارد بدر السالم

"التاريخ الثقافي للقباحة".. طرق تعامل المجتمعات مع ظاهرة القبيح

27 مايو 2021
عروض




سيبدو التاريخ الثقافي للقباحة واقعيًا، مُتسِعًا بآفاق غير محدودة من المعارف والإشارات المباشرة له، حتى ليبدو القبيح علامة من علامات الماضي البعيد شكلًا ورؤى مثلما جسّدتها الفنون والسرديات والعلاقات الرسمية والاجتماعية، وفيما بعد عالجته الفنون والسينما والمعارض والنوادي والاحتفالات التجمعات البشرية. لكن معظمها كان مبنيًا على الأساطير والخرافات الشفاهية التي تناقلتها الشعوب بين الأجيال، إضافة إلى قلة الوعي الاجتماعي في ملاحقة مظاهر القبح العامة، وتوسيع رقعة نطاق الجمال بمختلف تجلياته النفسية والشكلية والروحية.

مثل هذا التصوّر لا يبتعد عن الحقيقة الفعلية التي نقرأها في هذا الكتاب الماثل بالشواهد والأدلة التاريخية. لذلك عنيت الأفكار الفلسفية قديمًا بنقيض القبح وتهميشه بل والهجوم عليه، حتى قبل أن تولد فلسفة الجمال وتتشعب مضامينها وفلسفتها ومنظّروها. يومها كان الجمال الموضوع المثالي للسرد والشعر والرسم والنحت والفكر الفلسفي، وبقدر ما للجمال - كنقيض- من فسحة واسعة في الدراسات والنظريات الفلسفية والملفات الأدبية والفنية، فللقباحة ما يوازيه من اهتمامات دراسية ونقدية ومفهومات ذات صلة بحثية تاريخيًا. فكلا النقيضين على تماس مع بعضهما فنيًا كما يبدو من سياق القراءة لهذا الكتاب، بل يمكن أن نفلسف القبح على أنه، في الفنون والآداب مثلًا، حالة ملهمة في المتن الجمالي العام. فلا يوجد قبيح في الفن والأدب إلا بمقدار الإبداع والتخطي والابتكار الفني، وإلا فهو سيء في نهاية الأمر. ولعل وجودهما، الجمال والقبح، في الفن والآداب والمعابد قد خلق الكثير من التنوّع في التلقّي الفلسفي والجمالي لكليهما، وأحيطا بهالة كبيرة من الدراسات والأبحاث والسرديات الكثيرة، لا سيما الجمال المجرّد بمفهوماته الداخلية والخارجية، على أنه أرجئ الحديث عن القبيح إلى أوقاتٍ لاحقة، قبل التنظيرات الجمالية والأفكار لما هو جميل يشي بالتكامل.

وعندما قال ألبرتو مانويل بأنه كتاب مستفِز، فقد كان يقصد "التاريخ الثقافي للقباحة"، الذي أصدرته دار المدى 2020 بترجمة د. رشا صادق، مشيرًا إلى استكشافات المؤلفة غريتشن. إي. هندرسن التي ذهبت إلى التاريخ البعيد منقّبة وباحثة، تحت سؤال ضمني بين الفصول الثلاثة الطويلة: هل القباحة ضدُّ الجمال؟ وهل القبيح ليس جميلًا؟ وكيف نفرز القباحة من الجمال؟ وما هي طرق تعامل المجتمعات مع ظاهرة القبيح أفرادًا وجماعات؟

في حشدها الاستطلاعي النافذ من المعلومات والشواهد المعمارية والفنية والشفاهية والأسطورية، الذي ضمّه كتابها المثير عن تاريخ القباحة العالمي، استغرقت الكاتبة دارسة وباحثة ومنقّبة في الأراشيف العالمية السردية والفنية المدونة، منذ أعياد الرومان القدماء إلى غرغولات العصور الوسطى، مرورًا بالمسوخ البشرية ووحش ماري شيلي (فرانكشتاين) حتى معرض الفن الانحطاطي النازي، عبورًا إلى القرن العشرين بمظاهره السينمائية وأفلام الخيال العلمي والمتوارث من الأحداث التي كان (القبح) أيقونتها، لتكشف الكثير من الفضاءات المحيطة بالقبح وعوالمه، عبر الفنون القديمة والآداب التي وضعت القبيح في الموضع الدوني من الحياة، وهي تتقصّى المعارض والكتب والقديم من الآثار الأدبية والفنية وأحداث المجتمعات القديمة. ولعل مثل هذا الاستفزاز التاريخي الذي يطبع صيغة الكتاب بعمومه، هو ما يجعل كاتبًا مثل مانويل أن يذهب بعيدًا وراء الكتاب الباحث والمنقّب، في هذا التاريخ المشوق الذي يناقض العصور الجمالية برمتها، تلك التي تبارى كبار الكتّاب في أسطرتها بالبحث عن أسرارها وخلودها الفني والأدبي.





الحقيقة ليست قبيحة

ظلّ السعي لاكتشاف ومناقشة وجهات النظر في القبيح وصفاته المتعددة، محليًا وأسطوريًا في وقائع الشعوب القديمة، هو ما يميز هذا الكتاب بثقافته ومرجعياته وتحليلاته وإحالاته (الجمالية) الكثيرة، في محاولة استقرائية - فنية لأن يكون القبح متعاضدًا في هامشيته التاريخية المفترضة مع الجمال بطريقة ترى هندرسن أنه (تاريخ ثقافي ممتع وسلس، يزوّدنا بالمعلومات ويحرّض القارئ على رؤية الأمور من منظور مختلف) و(يجعلنا نحاكم معاييرنا الشخصية حول الجمال) بما يعني إشراك القارئ متنوع الثقافة في هذا السونار التاريخي الكشّاف، ليكون في مجرياته الشائكة التي وصمت القبيح بنعوت كثيرة، واستخلصت منه في نهاية الأمر جمالاتٍ ثانية في طرائق العرض الفني والأدبي، بما في ذلك العروض المسرحية والعروض الطقسية الشعبية، وما جرى في بلاط السلطات الدينية والسياسية لتحقير وتقزيم القبح أيًا كان نوعه وشكله.

ومع مجريات السرد التوثيقي تثبت الباحثة بأن الحقيقة ليست قبيحة دائمًا. والكثير من مصادر القباحة هي مصادر جمالية، في قدرتها على تشكيل وعي إنساني يتمكن من أن يقول الحقيقة، في التحدّي المتوارث للأذواق بمفاهيمها الجمالية والفلسفية التي انشغلت قرونًا في فرز الجميل عن القبيح، من دون إثارة أسئلة تتعلّق بالجدل الدائم بين هذين الوصفين. على أن للجمال أولويته القصوى دائمًا في المدونات الفكرية والفلسفية والفنية. غير أن هندرسن تريد أن تؤكد أن حقيقة القبح هي جميلة أيضًا بمعيارية الخضوع إلى النقد الجمالي والثقافي من رؤية عكسية أخرى، غير التي اعتدناها في قراءاتنا الكثيرة عن فلسفة الجمال منذ عهد أرسطو وحتى اليوم. فالقبح وإن بقي متوارثًا نفسيًا، فهو يشكل علامة من علامات الضد التي لا بد وأن يكون لها وجود تاريخي في التدوينات السردية لاحقًا "المسخ. الحسناء والوحش. أحدب نوتردام. فرانكشتاين".

وضمن هذا تتساءل هندرسن: هل القباحة بحث ثقافي؟ أي هل هناك معيار إبستيمولوجي يفتح الباب الثقافي على هذا التصنيف ويؤسّس له بعد بحوث إجرائية عميقة؟ ومثل هذا التساؤل لا يكتفي بتشخيص منظر القبح العابر، عبر العصور والتواريخ المتتالية، لكنها تنطلق من فكرة تهمّ المبحث وهي (لإعادة إحياء لحظات ثقافية تكشف عن تغيّر مفاهيم القباحة) هادفة إلى (التنقيب عن مترادفات "القبيح" لإحياء وإغناء الجذور الإبستيمولوجية للكلمة)، ولعلها تفرز تلك المترادفات في سلسلة إجرائية بحثية في الفن على وجه الخصوص عبر المعارض الفنية التي تقام في العواصم القديمة، وحتى البحث عن المفردة أو المصطلح ومترادفاتها ومعانيها المباشرة وغير المباشرة. فإذا كان الجميل يعني (التجانس) من وجهة نظر فنية؛ فإنّ القبيح هو (المشوّه، الوحشي، المنحط، الأعوج، البهيمي، المسخ، الناشز، غير المتناسق، المعاق، الهجين) على أن هذه المتردافات التي رافقت (القباحة) منذ عصور قديمة هي التي كوّنت "جذور الجمال" في الطرح الفني في التنقيب عن تاريخ القباحة، وتنتقل لما هو أبعد من الجدل الفلسفي التقليدي، أو مجرد التضادّ الخالص مع الجمال. وإذا بقي الجميل يحتفظ بتعريف قاموسي متشابه، فإن للقبيح تعريفاتٍ كثيرة غير ما ذكرناه من ذلك القاموس الشائك، للتأكيد على متواليات زمنية نظرت اليه باستعلاء وتقدير، من دون الوعي إلى أن القباحة ستؤسّس لاحقًا إلى مفهومات الجمال بشكله الفني الخالص.


لا نهاية للقباحة

تطالعنا المؤلفة بما هو أهم من تشكيلة معلومات متناثرة في بحث طويل عن مضامين القبح بالمعنى السوسيولوجي، على اعتبار أن القبيح لا يفترق عن الجميل معنى فنيًا، حتى يقود البحث ضمنًا إلى أكثر من مترادفة وتعريف، ليست كلها ثابتة، على أساس أن (الجمال محدود) أما القباحة ( فلا نهائية)، ومحدودية الجمال كما نرى من وصف المؤلفة، تزايدت بسبب اهتمام الفلاسفة منذ القرون الوسطى بهذا الموضوع، ونبذ ما يسمى بالقباحة في بوهيمية العروض المسرحية والنوادي الليلية والمعارض خلال القرن الثامن عشر وحتى ما قبله حينما كان أرسطو يقول بأن (النساء ذكور مشوّهون). أو اقتراحه الغريب أن (يُمنع الأهل من تربية الأطفال المشوّهين).

ولا شك أن ما هو "هجين" تاريخيًا ضمن الواقع أو الأساطير الكثيرة التي تتداولها الشعوب، سيُعد قبيحًا كونه افترق عن التركيبة الثقافية الجمالية. فالمسخ الحيواني- البشري يوصم بالقباحة حتى وإن كان ذا سلوك طبيعي ضمن الحيّز الحياتي الذي يشغله. والكثير من القباحات التي صوّرتها الفنون، ليس لها رصيد جمالي بفكرة الجمال التي شكّلت أساس الفن، ومن ثم الثقافات المحلية التي أخذت تنظر للقبيح على أنه هامشي، وسطّرت له مفردات ومصطلحات كثيرة، تشفُّ عن مستوى فردي أول الأمر "الأفراد القبيحون"، ومن ثم "الجماعات القبيحة" المرتبطة باللون أو العرق أو الدين أو الجنسانية أو الإعاقة.. وهذا ما أعطى مبرّرات للآخر؛ المستعمر؛ المتعسكر؛ المتعالي.. أن يضعهم في مستويات دونية من المجتمع. ويجنّدهم ويتاجر بهم "السود، المعاقون، الهنود الحمر، المجانين، المتسكعون، العميان، الصلعان، العوران، الصم". وهذا من فصول القباحة التاريخية التي عاشتها بعض الشعوب الضعيفة، لتشكّل في أوضاعها تلك ثقافة القبح، التي يرى فيها البعض بأن مثل هذه العيّنات يمكن أن تشكّل النماذج الأولى للقباحة تاريخيًا، شكلًا وفعاليات بشرية غير متكاملة في هذه الإزاحات اللاإنسانية؛ لتكون صدى واضحًا لثقافة محرّضة ضد الجمال، وعدّ القبح في مكان هامشي من الحياة والوظيفة الاجتماعية، لتصل الباحثة إلى أن الحديث عن  القباحة في العالم القديم ( يعني اختصار آلاف السنوات والثقافات التي تمتد عبر مصر واليونان وروما وعالم حوض البحر المتوسط الأوسع..)

ينسحب القبح أيضًا على الروائح العفنة في المدينة والبيوت والمرافق العامة، فالحاسة الشمية قادرة على فضح القبيح؛ مثلما ينسحب على الأصوات التي يخرجها الإنسان من جوفه، أو أصوات الموسيقى البوهيمية غير المتكافئة مع أنغامها، أو الصراخ المثير. أو التجشؤ.. وما إلى ذلك من ملاحظات تحاول أن تدحض الجميل، وتؤسس لنظرية القباحة.. ولكن هل هذا كل شيء؟




خلاصات القبح

بين الخرافة والأسطورة والواقع والمخيال التاريخي ادّعى هيرودوتس (أنّ البابليين كانوا يقيمون مزادات لتزويج بناتهم يحصل فيها مَن يدفع أقل على عروس بشعة..) وما يشاع في تلك الأزمنة بأن أية مدينة تُبتلى بمصيبة.. (يسوق أهلها أقبح شخص بينهم ويضحّون به.. كي يصبح كفّارة وأضحية عن المدينة المنكوبة..) ولقوة الخرافة السائدة بين شعوب تلك العصور، تحول الواقع تقريبًا إلى ما يشبه الخرافة. وبات القبيح يشار اليه "الأعرج. الغبي. صاحب الانف المتضخم. السوقي. الوقح والأعور" مثل ثيرسيتس الذي تنطبق عليه بعض هذه الملامح، وهو من شخصيات حرب طروادة. ومثله السيكلوب ذي العين الواحدة. وكل هذه الصفات البشرية التي تصيب البعض عُدّت من ثقافة القبح إذ (غالبًا ما تقوم الأجساد القبيحة بالكشف عن الثقافة السائدة أكثر مما تكشف عن الشخصيات بحد ذاتها..) فالشخصيات التي تزول مع الوقت، تُبقي آثارها بأية طريقة. وتبقى أضدادها الثقافية في الذاكرة الشبحية طورًا، وطورًا فيما يتجسد في المعابد على شكل وصايا أو حكم أو أقوال، تشير إلى الكريه والقبيح، كما تؤكد مثل هذا المنحوتات والرسومات المعلقة على الجدران، أو ما تركته السلالات المتعاقبة من آثار، تُعالَج الآن كجماليات فنية ليس من السهولة وصفها بالقباحة، حتى وإن كانت أشكالها قبيحة. فالجمال الذي استوعبه الإغريق عبر الأجساد البشرية؛ رجالًا ونساءً؛ هو ما يؤكد أن الإغريق وغيرهم من الحضارات القديمة أسسوا لهذا الكيان الجمالي من وجود خالد في المنحوتات المرمرية التي شهدت ولادات عصر الجمال الفني. وبالتالي فإن القبيح والمشوّه بقي مثلما هو، حتى العصور الحديثة التي تعاقبت، لتجد أن الكثير مما تركه الزمن القبيح قد يرقى إلى جماليات فنية بكر.

لكن هذا يستوجب من الكاتبة والمؤلفة الباحثة أن لا تُسقط متواليات زمنية متتابعة، لا سيما عندما اشتركت (خصائص) القبيح مع غيرها بصورة تالية، وتغيرت النظرة الدونية إلى القبيح الناشز إذ (تبدّل الخطاب الديني من مفهوم الساقطين أو الملعونين إلى استخدام مضامين "البدائي") ومثل هذه التبدّلات المرتبطة بالكنيسة عادةً، تبعتها تبدّلات في النظرة إلى ثقافة القبح (وصف لونجينوس مثلا كيف يُحبس العبيد بهدف كبح نموهم كي يظهروا جذابين جماليًا..) لكن هذا الجمال ارتهن إلى حد كبير بنظرة الآخر إلى هذه المجموعات، فقد (هاجم البابا أوربان الثاني الشعوب الوثنية واتهمها بأنها أعراق وسخة وملوثة بقذاراتها) وظهر مفهوم (الوحش) الأوروبي فـ (الأعراق المتوحشة هي جماعة واحدة فقط من القبيحين في التاريخ)، لذلك تم إحياء فرانكشتاين سينمائيًا في القرن العشرين، وغيره من ذوي العاهات، ليشيروا إلى مراحل تطورية من تاريخ القباحة العالمي. ففي شمال أوروبا (وظف الفنانون العلامات البصرية للدلالة على جماعات قبيحة..) كالعاهرات والجلادين والمهرطقين والمجانين، لتكريس الصورة النمطية للقبح، وبوصفهم القبيح (عامل عزل) لكنه (قد يكون أيضًا نداءً لحشد المجتمع كي يواجه مخاوفه..) وصولًا إلى "انتهاك الحدود المحسوسة" كالأبنية القبيحة التي (تنقل عدوى القباحة إلى ما يجاورها..) والسحر، وأكل التراب كمذاق قبيح، والشعر غير المقصوص على وفق الموضة، والندوب القصدية في الجسد، وجثة المحكوم بالإعدام، وجمع القمامة، والعيون الشريرة التي (لعبت دورًا بارزًا في التاريخ الثقافي للقباحة) لأن القباحة (تنبع من تهديد ثقافي لا من تفضيل جمالي).

خلاصات كثيرة في هذا السفْر المعرفي شائك المتواليات الأرشيفية والمعرفية، بالشواهد الفنية والصحافية والكتبية والمنحوتات والآثار لكل الحضارات التي عدّت القباحة وصمة في الحياة. لكن - كخلاصة أكيدة- لا يختلف عليها اثنان بأن (الفن السيء هو فن قبيح في نهاية المطاف) كما تختتم به المؤلفة هذا الكتاب الجمالي رفيع المستوى. ونحن نختتم هذه القراءة بما قاله ستيفن بايلي في كتابه (القبيح.. جماليات كل شيء) من أنه (قد تكون فظائع اليوم تحفة الغد).