Print
وارد بدر السالم

"أحفاد سقراط".. في الفلسفة ومبدأ الدهشة

10 يونيو 2021
عروض



لسنا على يقين من أن الفلسفة بدأت من (ضحكة امرأة) تسبب بها طاليس المالطي، عندما سقط في حفرة وكان وقتها ينظر إلى السماء، فضحكت إحدى النساء وقالت لهذا العجوز شارد الذهن: أنّى لك أن تعلم كل شيء عن السماء يا طاليس وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك.. ولكننا على يقين من أن هذا المالطي كان في طريقه لتأسيس (مبدأ الدهشة) عندما أبهرته حركة النجوم والشمس والقمر ونشأة العالم والتكوين الفيزيائي لمجموع الكون. فكانت الدهشة أول التفاتة إلى صيرورة العالم ومركّباته الكثيرة في السماء. وربما كانت السماء، لا الطبيعة، هي الوحي الأول للفلاسفة، لا للعلماء، بوصفها الغامض وحركتها التي كانت، وما تزال، تبعث على الانبهار والحيرة والكثير من الغموض. فمن تلك الدهشة الفطرية ظهرت معظم سرديات الفلسفة ونظرياتها وهي تقتحم الحياة بصورتي الشك واليقين، في محاولة لتفسير الكون ومعالم الحياة وحركة السماء غير المستقرة بما فيها من أفلاك وأجرام وكواكب وظواهر فلكية.

وإذا ما كانت ضحكة امرأة طاليس هي بذرة الفلسفة ونشأتها الأولى، فإن الزمن الفلسفي التالي جاء بأسماء كثيرة حاولت أن تضع السلوك الفلسفي مقابل السلوك الإنساني المعقد، وتفريعاته المرتبطة بالكون والطبيعة والنفس البشرية، التي تتحمل الكثير من إسقاطات العالَم ونظرياته الطوباوية وتفسيراته المتعددة لنشأة الكون، وما يرتبط به من حقائق علمية أو حتى خرافات وأساطير وشفويات مجتمعية وأحداث سماوية غير ثابتة وطبيعة متحركة. فتتالت سرديات فلاسفة متباينة لأرسطو وأفلاطون وكانط وأبيقور وجان هرش وكارل ياسبرز وكيركغارد وسارتر وسبينوزا والكندي ونيتشه، وكل الأحفاد الفلاسفة الذين جاءوا بعد ضحكة تلك المرأة الإغريقية، ليؤسسوا النظام الفلسفي من وجهات نظر غير متشابهة كثيرًا، ويوجهوا الحياة بالتحليل والحكمة والإرشاد والشك واليقين، في محاولات متصاعدة لتفسير ما يمكن تفسيره من ظواهر وبيانات متعددة، وما فيها من إجراءات محيرة ترتبط بالإنسان الكوني الذي يعيش تحت وطأة تجارب لا تنتهي.


ومع أنّ التلقي بشكله العام (ينفر) من الأطروحة الفلسفية، ربما لصعوبتها وكونها سرديات متخصصة بأفكار ميتافيزيفية تعالج الكون والنشأة والغموض المحيط بهما، مثلما تعالج الوجود الإنساني غير المفهوم كليًا، غير أن كتاب "أحفاد سقراط - قصة الغرام بالفلسفة من أرسطو إلى ميرلو بونتي" (2021) للباحث العراقي علي حسين، من الكتب التي تشغل قارئها بجمال الفلسفة وتكوينها المتتالي ونظرياتها الخالدة. ومع البساطة المعقولة التي يتيحها الكتاب للقراءة والتبصّر والفهم المباشر لها، إلا أنها البساطة المقبولة التي جعلت الباحث، يتجول في التاريخ الفلسفي بعمق ويعالج سيرة وآراء أكثر من 25 فيلسوفًا ومفكرًا، بما تيسر له من فهمٍ موضوعي لسيرة الفلسفة عالميًا ترافقها سهولة أدبية مقنعة، ويُعيد الفلسفة إلى الوسط الشعبي ويجعلها قابلة للهضم بمعرفة دقيقة وبحث معرفي ومصدري متشعب، وهو (يروي) قصة الغرام بالفلسفة لأساطين الفلاسفة الذين عرفتهم البشرية، وتمعنت بأفكارهم المختلفة والخلاقة التي كافحت وناضلت في أزمانها الكثيرة، لتكون علامات فارقة في التاريخ الإنساني.

وعلي حسين، المقالي المعرفي والباحث المثابر الذي تهمّه القراءة قبل الكتابة، أصدر عددًا من الكتب في السنوات الأخيرة منها: (في صحبة الكتب - 2017) و(دعونا نتفلسف - 2018) و(سؤال الحب - 2019) و(غوايات القراءة - 2020) و(مائدة كورونا -2021).لكن من الطبيعي أنه لا يمكن اختصار النظريات الفلسفية بكتاب واحد. غير أنه من الممكن أن تكون ثمة مفاتيح تفتح باب الفلسفة والتفلسف وتنير الطريق إلى القارئ الذي يحجم عن قراءة الفلسفة، ويعدّها صراعًا معرفيًا لا ينتهي ولا يأتي بنتائج حاسمة، ونجزم أن هذا الكتاب المعرفي كشّاف جيد للفلسفة وأهلها ونظرياتها وعلمائها، هو حصيلة تجارب قراءة وخبرات معرفة ضمنية و(حصيلة شغف بالمعرفة)، لذا يقول الباحث عن مجمل تآليفه في آخر الصفحات من (أن كتبي نابعة من الكتب نفسها) لنجد حوالي 250 مصدرًا فلسفيًا وفكريًا وأدبيًا وجماليًا ساهم في وضع هذا الكتاب وأحاط بالفلاسفة ونظرياتهم ورؤاهم الكثيرة في تفسير ما لا يمكن تفسيره في كثير من الأحيان. لكن كتابًا مثل هذا، يتوجب أن نعدّه كتابًا شعبيًا في مقامه الأول، لإمكانية وصوله إلى شرائح مختلفة من القرّاء، في معاينته الجادة أن تكون الفلسفة (الصعبة) سهلة إلى الحد الذي يمكن معه أن تكون النظريات والأطروحات الفلسفية في متناول الجميع لتكون ممرًا آمنًا للعلاقة الودية مع الفلسفة.


الضفدع سقراط.. الإنسان أولًا

اذا كان طاليس أول من تفلسف في التاريخ الإنساني وحاول تفسير الكون وظواهره السماوية عبر مبدأ الدهشة، فإن سقراط (470 ق.م - 399 ق.م) يعد أبا الفلسفة وذيوعه كفيلسوف باهر في اقتحامه لسرديات الحياة والمجتمع اليوناني والكنيسة، وهو الذي جاهد ليجعل للفلسفة مقامًا على الأرض، بعيدًا عن السماء وتداخلاتها الفلكية وظواهرها المختلفة، بأمل إيقاظ الناس أمام أسئلة كونية تعنى بوجودهم أمام الشك ودهشة الأسئلة فـ (الإدهاش أصل الفلسفة) لذلك كان يجول في الشوارع ويلتقي بالعامة من الناس ويحاورهم، متطلعًا إلى أسئلتهم بل ويحث عليها. وكانت براعته تتمثل (في أن يجعل المحاوِر يصل بنفسه إلى الحقيقة) فالإنسان محور اهتمامه الفلسفي وجدلياته الكثيرة تثبت هذا كثيرًا.

لم تكن شخصيته اعتيادية شكلًا، لكن هذا لا يظهر على مزاجه النفسي، إذ قال عنه صديقه زينفون (حسبته أقبح إنسان في أثينا.. وكانوا يسمونه الضفدع) وكان سقراط يشبّه نفسه بـ السمكة الرعّاشة. أما أفلاطون فيصفه بأنه يشبه (القنطور الموجود بالإلياذة) وهذه التوصيفات الظريفة لم تمنع أفكاره من أن تتسرب إلى العامّة من الناس الذين كانوا محط محاوراته اليومية، وأن يكون الشغل الشاغل للسلطة الكنسية والمجتمع اليوناني كله، بعدما ترك السماء للسماء ونزل إلى الأرض، فهي التي ستساعده كثيرًا في رؤاه النظرية.





وعندما نتمعن في حياته بشكل عام، سنجد في بواكير نشأته الكثير من الرؤى تطارده على مدار اهتمامه بالحقيقة التي يبحث عنها (يقول إنه يتلقى رسائل أو إشاراتٍ من صوتٍ غامض) غير أن هذا الضفدع العبقري دخل التاريخ الإنساني والفلسفي من أبواب كثيرة، وما تزال أفكاره تثير الجدل حتى اليوم، فهو الذي كان منشغلًا طوال حياته (بإعادة صياغة أفكار الناس عن الحياة) مرجحًا أن العقل وراء كل قانون طبيعي وكل نظام وأن الشريعة الأخلاقية الأبدية (لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف كالدين الذي آمنت به أثينا في ذلك الوقت)، فالإنسان العادي كان هدف فلسفة سقراط، بأن يراه يمتلك الفضيلة والحكمة والدراية وأن يعرف نفسه قبل أن يعرف الطبيعة وما وراءها، فهو الذي يحرّك مفاصل الحياة بعقله. وإن الفضائل تتكاثر بوجود فضائل قبلها في سلسلة اجتماعية وعقلية متتالية. لذلك في كل محاوراته الشعبية المعروفة، كان سقراط يوجه الإنسان، وهو المهتم بعلم الأخلاق، لمعرفة نفسه أولًا وأنّ (مطلق المعرفة لا يتحقق إلا من خلال معرفة النفس) وحقيقة وجود الإنسان يجب أن يكتشفها الإنسان بمفرده من خلال وجوده بالآخرين. أي أنه كان معنيًا بالفلسفة الفردية وسلوكها الشخصي الذي يرتبط ارتباطا وثيقًا بفلسفة الفكر الشخصي والفردي، وصولًا إلى حكمة العقل وتوازنه المجتمعي، فسيادة الجهل تجعل من حكم الدولة فوضى سياسية وأخلاقية. لذلك، ومع الحواريات اليومية التي يوليها للناس، يرجّح مبدأ الشك في المعتقدات المقدسة واليقينيات الاجتماعية القارّة. فالإنسان الذي يكتسب مثلها عليه أن يعاين إلى درجات الصدقية فيها، بدلًا من أن يكون ساذجًا وجاهلًا. وبالتالي يمكن بناء المجتمع والدولة بناءً صحيحًا.

وفي عموم جدلياته الجريئة اكتسب شهرة فائقة وهو يضع الحياة في ميزان الاختبار الدائم. ويرى أن على الإنسان أن يكون ذاته. لا يتأثر بمعتقدات وخرافات الدين السائد. لذلك تأثّر به كبار المفكرين والفلاسفة، حتى أشار ديكارت مرة إلى أن سقراط هو الذي أشاع مبدأ الشك في الفلسفة لأول مرة. أما الوجودي كيركغارد فقد نحا نحو الطريقة السقراطية في حواراته، ونيتشه قال عنه بأنه يفلسف الأشياء الغريبة. وأسماه لوك فيري رئيس جمهورية الفلسفة. حتى سارتر المتأخر في زمنه عن سقراط قال إنه تعلم منه كيف للفيلسوف أن ينزّل الفلسفة من السماء إلى الأرض ويدخلها إلى الأسواق والبيوت وغرف النوم.

وليس خافيًا أن الفيلسوف العربي الكندي الذي ترجم له بعضًا من أطروحاته وضعه (بمنزلة الإمام) وكان الكندي من أكثر المعجبين بفلسفته. ويقال إن الفلسفة العربية بدأت مع الكندي (لا تُدرك جميع الأشياء إلا بالعقل) فتمثل سقراط في الزهد والسعي إلى الحياة من بابها المفتوح، مثلما وجد أن الفلسفة هي السعي لأن يكون الإنسان كامل الفضيلة لأنها إماتة للشهوات. وأن على الجماعات الإنسانية أن تعي وجودها الإنساني (ابحث عن السعادة فهي تدلنا على الحقيقة) مثلما كان سلفه تلفت انتباهه الأسئلة العلمية في الوجود الكوني والمادي ويرى بأن السعادة هي (الخير المطلق).


كانط.. العجوز الأعزب

ومع مقولة ديورانت أن العباقرة لا يولدون من لا شيء، فإن سقراط وأفلاطون وأرسطو يشكلون المثلث الفلسفي اليوناني مع اختلاف أفكارهم وتقاطعها في بعض الأحيان، فسعيهم للحقيقة يتشابه في الكثير من المفاصل، فإن كان سقراط (متحدثًا عظيمًا) كان أفلاطون (كاتبًا ممتازًا) وأرسطو (مفكرًا يهتم بكل الأشياء) بينما كان كانط (1724 - 1804) الأعزب العجوز الغامض الهادئ الذي يضبط جيرانه ساعاتهم عليه، سيبدو أكثر مباشرة من أسلافه اليونانيين وهو يهاجم الكنيسة (يتذكر جيرانه أنه لم يدخل الكنيسة يومًا)، لهذا كان كثير النقد القاسي على رجال الدين (لا التوسل بالأسماء المقدسة، ولا أية مراعاة للطقوس الدينية يمكن أن تساعدك في الظفر بالخلاص)، وهذا الفيلسوف الذي لم تكن له حياة ولا تاريخ، كما يقول الشاعر هايني، كان يمارس بصمت عملية تهديم أفكار القرون الماضية منطلقًا من أن (العقل مشروع الطبيعة) و(التجربة تقدم لنا مادة المعرفة) مؤكدًا في كتابيه المعروفين (نقد العقل الخالص) و(نقد العقل المحض) أن الجزم بالمفاهيم السائدة بكلمتي نعم ولا يُعد (مصيدة عقلية) ويرى أن ميزة الوجود الإنساني هي الحرية. وأن على المرء أن يكون مستقلًا، لأنه ذو قدرة على التفكير بطريقة نقدية. ولهذا، وعبر احترام قيمة المخلوقات البشرية الفردية، يرى المهتمون بالشأن الفلسفي السياسي بأن أصل النظرية الحديثة لحقوق الإنسان تعود لمساهمة كانط في تفسيره وتحليله للقيم الاعتبارية للإنسان الفرد.

بعض ما تمثله فلسفة هيغل، المثالي الألماني، هو وعي بالذات الإنسانية بفلسفة شمولية بالتاريخ بوصفه (المنتوج الأهم للعقل الإنساني) على أساس أن الكون المطلق هو العقل المطلق، وأن الوعي سابق على المادة. وأن يتحرر الفرد من خيمة الواقع الذي لا يتماشى مع حركة التاريخ. لذلك لم تكن فلسفته مغلقة، وهو الموسوعي الذي يكتب في التاريخ والروح والمنطق والفلسفة وعلم الجمال. وكما نبّه بعبارة من أن الدولة هي (أرفع أشكال الروح الموضوعية) فإن الفيلسوف سبينوزا هو أول من نبّه إلى أن (النظام الديمقراطي هو أكثر النظم اتفاقًا مع العقل ومع الطبيعة) مع أنه انكبّ على فلسفة ديكارت وتابع منهجه الفلسفي، إلا أنه اقتنع بأن الخير هو في (تحريك العقل بالاتجاه الصحيح) وعادًّا الخرافة بأنها (تفسد الأديان لأن الدين ليس خرافة) وأن (ثنائية الجهل والإرهاب الديني.. تقمع كل العقول الحرة التي تتطلع إلى المعرفة).



هيغل وديكارت.. بين السياسة والحتمية التاريخية  

الحرية هي ما شغلت الفيلسوف هيغل (1770 - 1831)  في منهجه الجدلي، إذ يراها القانون الذي يتماشى مع حركة التاريخ فـ(تاريخ العالم ليس الا تقدم الوعي بالحرية) فمنطق العقل هو منطق التاريخ يصنعه الوعي الحر الفردي والجماعي، والتأمل التاريخي لإدراك مستوى التاريخ ومساراته الكثيرة ومغزاه بالنتيجة، لذلك فاعتراضه بأن الإنسان حر بالطبيعة، يوحي عبره إلى ذاتية الإنسان وقوتها وفعاليتها، للمشاركة الفعلية في تقدم البشرية واعتناق المنهج الجدلي، ليتحرر من ضغط الواقع وصولًا إلى المنطق العقلي في الحتمية التاريخية. لكن فيلسوفًا مثل سبينوزا يرى بأن علينا أن نفهم الأفعال الإنسانية قبل الحكم عليها حتى نرتقي بها. والانتصار على الشر يوجب معرفة الأسباب العميقة له، ويرى أنجلز، وهو يناصب الرأسمالية عداءً، أن الوظيفة التاريخية للبروليتاريا هي أن الدولة ليست التي تسيّر التاريخ بل (التاريخ هو الذي يشكل الدولة) باعتبار أن التاريخ هو تاريخ صراع الطبقات. ومع أن ديكارت (1596- 1650) مؤسس الفلسفة الحديثة لم يكتب في السياسة قط على اعتبار أن الفلسفة هي أن (تتجه إلى السيادة على الطبيعة وامتلاكها) لذلك كان يرى بضرورة التوازن بين الفلسفة والمجتمع لخدمة الفرد (حري بنا أن نغير من رغباتنا، بدلًا من أن نغير نظام العالم) مثلما عرف بمنهجه التشكيكي بكل شيء. وعندما كان شابًا كان يقول لوالدته (أريد أن أبحث عن الحقيقة وأن أبدأ من الصفر) فتطلع إلى علم الرياضيات والجبر وسواهما من العلوم لتوظيفه بمنهجه الجديد، لذلك سمي "أبو الفلسفة الحديثة" مزاوجًا بين دقة الرياضيات والفلسفة في محاولة الوصول إلى نقطة أولى يقينية واضحة بذاتها، يؤسس عليها فلسفته كلها وهي وجود (الأنا أفكر) مستنبطًا - فلسفيًا عبر طريقة الرياضيات- وجود الإله والعالم وخلود النفس من وجود (الأنا أفكر) في بداهة العملية العقلية إلى ما  تنقلنا إليه من نتيجة عبر الاستنباط. ومع أن ديكارت بشكّه الدائم في الوجود والخلق والتكوين قد وصل إلى الإيمان المطلق (أن الله لا يعتمد في وجوده على خالق آخر.. إنني أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير لدرجة لا حدود لها) ولكنه أوصل الكثيرين إلى الإلحاد، في واحدة من المفارقات الفلسفية الغريبة التي لم تتكرر في مناهج الشك القائمة على البرهان والجدل المعرفي.



هوبز ولوك والكنيسة

حكايات الكنيسة مع الفلاسفة والعلماء طويلة. فالمسحة الدينية التي تسود العالم القديم شكّلت مصدّات وحواجز كثيرة أمام هؤلاء التجريبيين والمتنورين وحملة الثقافات والأفكار المتعاكسة مع رجال الكنيسة المسلكيين. وتوماس هوبز (1588 - 1679)- أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا - أحد هؤلاء الذين وصفتهم الكنيسة بأنه "زعيم الملاحدة ورسول الكفر" بينما عدّه رجال السياسة "مصدر إزعاج في البلاد" بل إن الكنيسة والبرلمان جعلاه (سببًا في انتشار الطاعون عام 1665 وحريق لندن عام 1666) ومصدر هذا التحامل هو أفكاره السياسية الكثيرة التي نقرأها في كتابه الذي عُرف به "اللفياثان"، فهو من الكتب المؤسسة لنظرية الدولة المتأثرة بالأفكار العلمية المعاصرة له، وكان استنتاجه العملي في نظريته الطامحة لأن تكون نظامًا شبه هندسي، وأن للفرد أن يأخذ ويستخدم قوته على وفق ما يشاء للحفاظ على حياته، أي أن الطاعة للحاكم وليس للنظام السياسي أو الكنيسة. وهذا ما جاء في "اللفياثان" بأن تكون الحكومة شرعية المركزية القوية. ومثله الفيلسوف جون لوك الذي وضع تفسيرًا لأصل الحكم المدني بالتمييز بين السلطات. وحاول أن يؤسس للحريات السياسية في كتابه (في الحكم المدني) الذي انطوى تحت سؤال هو كيف يمكن أن نتخلص من الحكم الديكتاتوري. وهل الشعب قادر أن يؤسس لنظام يقوم على احترام كرامة الإنسان ويدحض فكرة وراثة السلطة. وبهذا يكون لوك سببًا لظهور مصطلح العقد الاجتماعي الذي تبدأ من حقوق الفرد ولا تُنتهك تحت أية ذريعة.

أما مونتسكيو، صاحب نظرية فصل السلطات، ففي (روح الشرائع) تناول فكرة اختلاف الأنظمة السياسية باختلاف القوميات، وعدّ القوانين هي أساس تنظيم المجتمع وتوزيع الحقوق والواجبات على الأفراد. ويرى أن نظام الحكم الأمثل هو النظام الجمهوري. ولكن جون ميلتون عُرف شاعرًا وعالمًا من القرن السابع عشر، ويعرف بقصيدة "الفردوس المفقود" التي تعد من أعظم الأعمال الشعرية في اللغة الإنكليزية. كان طيلة حياته شخصية نشطة في القضايا السياسية والدينية، غير هيّاب لمواجهة الكنيسة وتعاليمها المجحفة، وهو المنادي بحرية الفكر ونشر الكتب والرقابة على المطبوعات. يقود معركة التنوير بروح مقاتل لنشر الأفكار الحديثة، داعيًا إلى دولة مدنية (القوة تكمن في الشعب.. فالشعب يودع ثقته إلى حاكم يختاره، وفي حالة انحراف الحاكم فإن الشعب مخوّل أن يسحب ثقته منه..). ومع أنه قاد هذا التنوير بظروف نفسية متعددة إلا أنه ظل يرى (أن العقل الذي منحه الله للإنسان تظهر آثاره في قدرة الإنسان على الاختيار، ومن هنا فإن الفضيلة تعتمد على مدى قدرة الإنسان على تبني اختيارات صحيحة..)

نيتشه.. "هكذا تكلم زرادشت"

قال أحد أتباعه وكان نيتشه (1844 - 1900) ممددًا على السرير في أيامه الأخيرة: "هذا الرجل لا يمكن أن يموت، بل إن عينيه ستبقيان معلقتين إلى الأبد فوق البشرية"، ومن الطبيعي أن يكون الوصف الشفاف بهذه الطريقة لرجل ملأ البشرية صخبًا معرفيًا لم ينته إلى اليوم (أضع يدي على الألف القادمة) بل وضع يده حتى إلى ما بعد تلك الألف التي كان يراها قريبة منه. فهو المصاب بجنون العظمة عندما انطلق من (قيام عصر جمهوري ديموقراطي رأسمالي، يعجّل بانهيار المجتمع الأوروبي) وهذه البداية جعلته يتفوق حتى على نفسه بتطرفه ضد رجال الكنيسة ومعارضته للتفكير العنصري. ونعرف أن كثيرين درسوا "هكذا تكلم زرادشت" ليصلوا إلى أن نيتشه كان يبحث عميقًا عن جذور التفسخ في الثقافة الأوروبية (أوروبا فقدت القوة الدافعة لخلق قيم تؤدي إلى ثقافة قوية وجديدة..) وما ثقافة أخلاقية القطيع التي رأى فيها أن الناس مستعبدون.. وأنهم مثل قطيع الغنم، إلا لأنه كان يبحث عما وراء الخير والشر وجينالوجيا الأخلاق (رأى أن هناك أنواعًا عدة من الأخلاق نشأت عن كون مصادر الأخلاق عديدة، وأن المعايير والقيم الأخلاقية يخلقها أناس مختلفون) ورأى أن أخلاق العبيد تأتي كرد فعل على أخلاق السادة.. فأخلاق العبيد هي مصدر العدمية التي شاعت في أوروبا. فأوروبا الحديثة والمسيحية هي في حالة من النفاق بسبب الخلاف بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد.


عاشق دي بوفوار الصامت

درس موريس موريو بونتي (1908–1961) إلى جانب جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وسيمون فايل وجان هيبوليت. وعلى المستوى الشخصي أشيعت عنه قصة علاقة بينه وبين سيمون دي بوفوار ولكن هذا ليس مهمًا. فالرجل الكتوم يختلف عن غيره من المفكرين وفلاسفة القرن العشرين بتأثره بالنظرية القشتالية في البحث عن الجسد في التجربة الإنسانية، حيث العودة إلى جذور الحياة البدائية، لتعود الأشياء إلى ذاتها، مستقلًا بنظرية علم النفس الوصفي. وعندما يصفه بعض المحدثين بأنه فيلسوف وجودي، فلا شك في أن عصره الوجودي مع سارتر وجماعته أضاف له هذه الصفة. لكن أخذه مبدأ الدهشة أولًا شأنه شأن الكثيرين من الفلاسفة. كما تأثر بفلسفة هوسرل الظاهراتية، إذ مزج الفلسفة وعلم النفس، ليصف العناصر الأولى في الإدراك من الأحاسيس والبصر والسمع وصفًا جديدًا (إنما نضفي المعاني على الأشياء وكل معنى يضطرب بين اللامعنى والمطلق). وبينما تظهر الوجودية في القرن التاسع عشر بعد أن قطعت الفلسفة أشواطًا مثيرة في محاكاة الطبيعة والمجتمعات والسلطات الدينية، مبتكرة لها مفردات لم تكن متداولة سابقًا في الأدبيات الفلسفية: العدم. الكينونة. الفراغ. القلق. العبث. الغثيان.. حتى اعتقد البعض بأن هذه الفلسفة (مجرد أفكار فارغة ومكانها الحقيقي في عيادات الأمراض النفسية) وهوجم جان بول سارتر (1905 - 1980) في أكثر من مناسبة، نظير طروحاته التي ترى أن الوجود يسبق الماهية أو الجوهر، مثلما تشير فكرة العبثية إلى أنه لا يوجد جوهر في العالم عدا الجوهر أو المعنى الذي نفسره به، بما في ذلك انعدام العدالة الأخلاقية بشكل عام في العالم. على أن مفهوم الوقائعية الذي نادى به سارتر في بُعدها الزمني الشخصي من الماضي الفردي يصبح ناقصًا لو تجاهلنا الحاضر والمستقبل. فالماضي وحده لا يشكل كيان الفرد. لذلك فتكامل الأبعاد الزمنية هو ما يؤسس للشخصية الكاملة. ويمكن القول عن كيركغارد في رده على هيغل: (أنا موجود وأنا حر، وأنا فرد ولست تصورًا.. ولا يستطيع أي قياس أن يفسّرني) بأن الفلسفة الوجودية تهتم بالوجود الإنساني قبل كل شيء.