Print
مهند مصطفى

"الانتقال الديمقراطي وإشكالياته".. في موضوعية المثقف وانحيازه للمشروع الديمقراطي

9 يونيو 2021
عروض



في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته.. دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020) ينحاز المفكر العربي عزمي بشارة للمشروع الديمقراطي، كما هي الحال في إنتاجه الفكري والبحثي في العقود الثلاثة الأخيرة. فمنذ كتابه "المجتمع المدني- دراسة نقدية" في التسعينيات ومرورًا بكتابة "المسألة العربية"، وما أعقب ذلك من إنتاج معرفي هام إثر الثورات العربية، يرى بشارة في المشروع الديمقراطي الذي يستند على فكرة تنظيم المجتمع العربي على أسس مواطنية، الخيار الذي يمثل حق تقرير المصير للعرب كأمة. لا يتعامل بشارة مع المشروع الديمقراطي كفكرة خلاصية بالمفهوم الأيديولوجي، بمعنى أن مسار التاريخ يتحرك نحو الديمقراطية، وأن الديمقراطية هي لحظة حتمية في تاريخ تطوّر المجتمعات الإنسانية، ولكنه كمثقف ينحاز للمشروع الديمقراطي، يعمل على دراسته، وفهمه في سياقات سياسية وتاريخية متنوعة عمومًا، وفي الحالة العربية خصوصًا، فضلًا عن دعمه للتحول الديمقراطي كمشروع سياسي للأمة العربية، "فالديمقراطية هدف، وليست مرحلة تاريخية حتمية قادمة بفعل التطور والتقدم، بغض النظر عن أهداف الفاعلين واستراتيجيتهم". في هذا السياق يظهر بشارة في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" كباحث أبدع في تفكيك وتركيب الحقل المعرفي المسمى الانتقال الديمقراطي، وكمثقف ومفكر منحاز لهذا المشروع من دون أن يكون انحيازه على حساب موضوعيته المنهجية ورصانة مقارباته النظرية والأكاديمية لهذا الحقل.

في قراءة أولى للكتاب وعند فراغك منه، فإن الباحث في العلوم الاجتماعية والسياسية، وحتى في التاريخ، يجد نفسه قد أحاط بهذا الحقل المعرفي في كتاب واحد، بدءًا بالعرض والتوصيف والتحليل والنقد، فضلًا عن نقد المنهجيات التي ارتكزت إليها دراسات هذا الحقل، وبقيت مهيمنة في دراسات الانتقال الديمقراطي لدرجة تحولت، كما يصفها بشارة، إلى نوع من الأيديولوجيا، وحتى الأيديولوجيا التبريرية. في نقده للانتقال الديمقراطي يشير بشارة على عتبة النقد إلى أن العلوم الاجتماعية نشأت في الغرب نتيجة دراسة الانتقالات والتحولات الكبرى والتي دفعت إلى "التفكير في ما يميز منظومة اجتماعية اقتصادية سياسية أخرى، وفي خصوصية النظام القائم في تلك المنطقة وبنيته الداخلية التي يختلف فيها عمّا قبله وما بعده، وعلاقة البنية القائمة بالصيرورة المنبثقة عنها... ومن ضمنها الثورة: من الإقطاعية إلى الرأسمالية، ومن المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحداثي. هكذا أصلًا نشأت العلوم الاجتماعية في الغرب". في المجمل يضع بشارة أهمية كبيرة للفاعلين السياسيين في التحوّل الديمقراطي، من نخب سياسية سواء في المعارضة أم في النظام السلطوي، والجيش كفاعل سياسي له دور في الانتقال الديمقراطي، ويعطي لهذا المعيار مقاربات وتحليلات جديدة عمومًا، ومن وحي التجربة العربية خصوصًا.

ينتقد المؤلف في كتابه محاولات الباحثين ودارسي الانتقال الديمقراطي نقل نماذج انتقال إلى المنطقة العربية من دون نقدها ومقاربتها، حيث ينفي في الكتاب وجود نظرية انتقال ديمقراطي يمكن تعميمها على مناطق أخرى وفي سياقات سياسية وتاريخية مغايرة، والتعميم هو صفة النظرية، ولكن تنتفي صفتها في حقل دراسات الانتقال الديمقراطي برغم إصرار بعض الباحثين على التعامل معها كنظريات، يؤدي عجزها في تفسير الانتقال الديمقراطي إلى تحويلها إلى أيديولوجيا تلعن الواقع بدل أن تعيد التفكير في ذاتها وصدقية مقولاتها النظرية. لذلك فالكتاب جهد بحثي ونظري يساهم في نقد حقل الانتقال الديمقراطي منذ نظرية التحديث وحتى ما سُميّ في الأدبيات السياسية "علم الانتقال".



حول غياب/ عجز تنظيرات الانتقال الديمقراطي عن صوغ نظرية يمكن تعميمها، وهي إحدى ميزاتها، يكتب بشارة:

"لم يحقق أي تنظير في رأيي، هدفه في الخروج إلى العلوم الاجتماعية والفاعلين السياسيين بتعميم ينص على ضرورة توافر شروط سابقة على أي عملية انتقال إلى الديمقراطية غير اثنين هما: أولًا: الكيان السياسي المجتمع عليه [...]. ثانيًا، قبول النخب السياسية الرئيسة أكانت في السلطة أم المعارضة أم في كليهما، قواعد اللعبة الديمقراطية" (216-217).

ويضيف بشارة تكملة للشرطين وعجز التنظير للوصول لنظرية انتقال إلى الديمقراطية:

"لكن الشرطين المذكورين لا يكفيان لفهم ظواهر عينية مركبة مثل الانتقال في بلد محدد، أكانت بدايته الاصلاح أم الثورة، فشروطه الميسرة والمعرقلة تختلف من بلد إلى آخر، وهي كثيرة يصعب حصرها، ولا تصحّ لكل البلدان في حالة الانتقال، ومن ثم فهي غير قابلة للتعميم ولتكوين نظرية. من الصعب جدًا، وربما من المستحيل، التوصل لشروط ضرورية وكافية وقابلة للتعميم لنشوء الديمقراطية في جميع البلدان" (217). سيضيف بشارة لاحقًا شرطًا ثالثًا يمكن تعميمه من وحي التجربة العربية، وهو موقف الجيش. ويشير بشارة إلى بؤس التنظير للانتقال الديمقراطي، فكل النماذج كانت تصلح لحالات عينية، مضيفًا "وثبت أن الممكن تعميمه هو مجموعة قواعد، منها بديهيات مثل استقرار كيان الدولة، ومنها قواعد سلوكية مثل السعي إلى توافق لتجنب الصراع، والقبول بإجراءات ديمقراطية..." (307).


نموذج للانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية

يحاول الكاتب بعد عرض الأدبيات ونقدها، وفي بعض الأحيان تفكيكها، وصولًا إلى نقطة مقتلها، التوصل إلى نموذج للانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، من خلال دراسة التجربتين التونسية والمصرية. ويحمل تصوّره للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية بعض الاستنتاجات، والتي سنأتي على ذكرها لاحقًا.

يستهل الكاتب القسم الأول من الكتاب بنقاش نقدي عميق لنظرية التحديث، ولا يكتفي بشارة بالنقد الذي ظهر في الأدبيات النظرية ودراسات التحول الديمقراطي لهذا التوجه. وفي المجمل تنطلق نظرية التحديث من ضرورة وجود ظروف يجب توفرها لنشوء الديمقراطية، على نحو مستوى التعليم والدخل والتمدين والتنمية الاقتصادية، واعتمدت نظرية التحديث منهجيًا على التحليل الكمي لهذه المتغيرات في بلدان في العالم والتي كان من روادها سايمون مارتن ليبسيت ودانيال ليرنر، غير أن نظرية التحديث تصلح لأن تكون توجهًا يفسّر استدامة الديمقراطية لا نشوءها، فضلًا عن أنه من الناحية الإمبيريقية أيضا فإن ثلثيّ الخمس عشرة دولة ذات معدل الدخل الأعلى للفرد هي دول غير ديمقراطية.

يتفق بشارة مع هذا النقد من جهة، ومع مقولة أن نظرية التحديث تصلح لفحص استدامة الديمقراطية، لا لنشوئها. غير أن مقاربته النقدية للتحديث تنطلق من السياق التاريخي لنشوء الديمقراطية في التجربة الغربية، وفي هذا الصدد يقول بشارة:

"الديمقراطيات الحديثة انطلقت في أوروبا بداية بوصفها أنظمة ليبرالية وضعت قواعد قانونية ومؤسسية للتعددية وحمت حرية التعبير والاختيار. ولم تشمل المشاركة السياسية الانتخابية فيها جميع السكان، بل اقتصرت على الطبقات المالكة، بحجة أن الأجراء والنساء وغيرهم لم يكونوا مستقلين أو أصحاب قرار. وعندما توسعت المشاركة كانت المؤسسات والقواعد قد ترسخت. وقبل ذلك كان معدل دخل الفرد بين الفئات المشاركة، ومستوى تعليمه وغيره، أعلى كثيرًا من معدل دخل الفرد بين السكان عمومًا، إضافة إلى صغر جهاز الحكم ومؤسساته، وضعف قوى الأمن والجيش، وعجزه عن فرض سيطرته. لذلك لا يقاس الأمر على معدل دخل الفرد في الدولة في تلك المرحلة، ولا على المستوى العام للتعليم. فهذه مقاييس تتعلق بالسكان جميعًا، في حين أن تلك الديمقراطيات حين نشأت كانت محصورة في قطاع من السكان، مؤلف من أصحاب الثروة والطبقة الوسطى المتعلمة. وهذا فارق جوهري بين منشئها التاريخي في أوروبا والولايات المتحدة، والديمقراطية المنشودة في دول العالم الثالث. لقد تطورت الديمقراطية في الغرب من حيث المشاركة تدريجيا بإضافة قطاعات من الجمهور.... كما ازدادت قوة الدولة بالتدريج مع توسع حقوق المواطن في الوقت ذاته" (ص: 65).


بعد تفكيكه لنظرية التحديث نظريًا وتحليليًا، ينتقل بشارة إلى أدبيات الانتقال الديمقراطي، والتي ظهرت كنقد لنظرية التحديث، في هذا القسم حدث الكم الهائل من الكتابة في محاولة الشروط والسياقات التي تؤدي إلى الانتقال الديمقراطي. ويتوقف عند إسهامات دانكوارت روستو من نشره مقاله في عام 1970 حول الانتقال الديمقراطي والذي شكّل مرجعًا رئيسيًا لدراسات الانتقال، وكأن هذا المقال واسهاماته الأخرى كانت قطيعة عن التحديث، غير أن بشارة يعتقد بخلاف الانطباع السائد بين الباحثين، أن روستو كان باحثًا تحديثيًا، حيث تمسك روستو في بحوثه الأخرى بضرورة توافر مقومات اجتماعية اقتصادية للديمقراطية، وذلك على عكس الانطباع من مقاله المشهور عام 1970 حول "نحو نموذج ديناميكي" للانتقال الديمقراطي.

يشير بشارة إلى أن روستو يتعامل مع الديمقراطية على أساس أنها مسألة إجرائية، وهي نتاج صراع بين ديمقراطيين وغير ديمقراطيين، بحيث تساهم مجموعات عديدة بالدفع نحو النظام الديمقراطي، وطمح روستو في مقاله الشهير لإنتاج نموذج يمكن تطبيقه على البقية من خلال فحص حالتين أو ثلاث حالات. سنتعرّض لنقاش بشارة لروستو تحديدًا لما مثّله من مركزية في أدبيات الانتقال الديمقراطي، ولكنه مجرد نموذج من كثير يطرحه بشارة وينتقده ويناقشه. يمثل روستو تيارًا من الباحثين الذي يعتقد، بعكس موقف بشارة من الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، أنه لا حاجة لديمقراطيين قبل نشوء الديمقراطية، فالديمقراطية تنشأ لأنها أكثر جاذبية من غيرها في ظروف الصراع الداخلي بين الفاعلين السياسيين. وعند الانتقال إلى الديمقراطية كخيار سياسي يتحول الولاء للديمقراطية وقبوله والتكيّف له.

في البداية لا بد من الإشارة إلى أن بشارة لا يقبل التعريف الاختزالي للديمقراطية، كما ظهر في أغلب تنظيرات الانتقال الديمقراطي حسب ما ظهرت عند روستو، ليبست، شيفورسكي وشومبيتر، بصفتها مجرد آلية انتخابية لتجنب الصراعات وحسم مسألة السلطة والصراع عليها بشكل سلمي ودوريّ. بل يعتقد أنها مجموعة من المبادئ السياسية تنظّم الحياة السياسية والمجال العمومي، لذلك يعتقد بشارة أنه من الصعب الفصل بين اللبرلة والدمقرطة، الليبرالية والديمقراطية. فاللبرلة بالإصلاحات هي عملية يتم من خلالها إعادة تعريف الحقوق وتوسيعها وهي واحدة من مؤشرات الانتقال وتؤثر عليه، والدمقرطة مبدؤها المواطنة وهي الحق أن يكون الإنسان مساويًا لبقية المواطنين في صُنع الخيارات الجماعية.

يبني روستو نموذجه على ثلاثة شروط/ مراحل، يناقش بشارة اثنين منها بعمق معرفي ونظري كبير، تاركًا الشرط الثالث، وهو التعوّد على الديمقراطية، وأعتقد أنه تركه لأنه غير ذي أهمية بعد الاتفاق على المبادئ الأساسية لعملية الانتقال وبناء النظام الديمقراطي، وهو ما يؤمن به بشارة عمومًا ومن وحي التجربة العربية خصوصًا. أولًا، الشرط/ الخلفية، ويتمثل في التسليم بالكيان السياسي المتمثل بالدولة. ويعتقد بشارة أن المقصود بالجماعة السياسية هو الربط بين الكيان السياسي والأمة، وهو مفهوم طرحه بشارة في كتب عديدة، أي نشوء أمة المواطنين. تنتج أمة المواطنين حالة من التسامح مع الآخر في الانتخابات وما ينتج عنها من حكم، وفي المجال العمومي.

يقول بشارة:

"هنا ينكشف ما يعدّه البعض وجهًا مظلمًا للديمقراطية وهو قيام شرعية التعددية على "نحن" قومية أو إثنية تتيح التسامح مع الاختلاف داخلها. وفي رأيي، لا ينطبق الأمر على حق الاقتراح والتنافس الانتخابي فحسب، بل على أنواع المشاركة الأخرى في المجال العمومي أيضًا، فثمة علاقة بين نوع الجماعة السياسية المشتركة المقصودة والتسامح مع مشاركة الآخر المجال العمومي" (257).

يعتقد روستو في نقاشه لنموذجه الانتقالي أن المرحلة الثانية هي نشوء ديمقراطية كنتاج صراع سياسي مزمن، لكن القوى السياسية متفقة على الحفاظ على الكيان السياسي القائم، وتصل إلى قناعة أن الوصول إلى تسويات أو إجراءات إدارة التعددية يتم من خلال الاتفاق على المبادئ السياسية، حيث أن الاتفاق على المبادئ هو جزء من عملية الانتقال وليس شرطًا لها. وهي مرحلة هامة لبلوغ المرحلة التحضيرية للديمقراطية. تحتاج هذه المرحلة إلى ميثاق يحدد المبادئ الأساسية للانتقال ونظام الحكم. في هذا السياق يقول بشارة:

"عربيًا، في رأيي، لم تدرك لحظات ميثاقية بين نخبة النظام الحاكم والنخب المعارضة في الحالتين المعروفتين، وهما تونس ومصر. لكن ما كان مطلوبًا في مصر ولم يحصل هو ميثاق بين القوى المعارضة للاتفاق على طبيعة النظام، بما في ذلك... رفض تدخل الجيش أو اللجوء إليه بحسم الخلافات" (267).

"فقد وقعت في أوروبا الشرقية انتفاضات شعبية في الخمسينات والستينات وقُمعت. لكن من قمعها لم تتوقف فئات واسعة من هذه الشعوب عن التطلع للديمقراطية، مع نموّ الحاجة إلى الحرية وإسهام مثقفين ومعارضين في الفرصة المواتية للتغيير. وهذا ما نتوقع أن يحصل عربيًا أيضًا في المرحلة المقبلة" (246).


مقولات بشارة الهامة في 
صدد الانتقال الديمقراطي

بعد قراءة الكتاب، يمكن تلخيص مقولات بشارة في التحوّل الديمقراطي على النحو التالي:

أولًا: يعتقد بشارة أن عملية الانتقال الديمقراطي تحتاج إلى ديمقراطيين، وذلك كما يقول "بمعنى الاتفاق على الإجراءات الديمقراطية فوق الالتزامات الأخرى" (272). وهو الحد الأدنى في تعريف الديمقراطي.

ثانيًا: يعتقد بشارة أن الانتقال يحتاج إلى ثقافة ديمقراطية في أوساط النخب السياسية على الأقل، وغير ذلك فإن غياب مثل هذه الثقافة يشكل عائقًا أمام الانتقال الديمقراطي، وهنا ينتقد جلّ أفكار الانتقال الديمقراطي التي تعوّل على أن المصالح التي توفرها الديمقراطية للفاعلين السياسيين المتصارعين تشكل ضمانة للانتقال للديمقراطية.

ثالثا: يعتقد المؤلف أن وحدة الكيان السياسي هي أمر بديهي في كل عملية تحول ديمقراطي وليس شرطًا فقط كما يدعي روستو وآخرون. ويضيف بشارة في هذا السياق أنه إذا كان الولاء للدولة "مفروضًا من أعلى بواسطة استبداد أو أيديولوجيا، وليس قائمًا في لا وعي الناس، فإن زعزعة الاستبداد قد لا تؤدي إلى تعددية سياسية بل إلى احتراب أهلي وربما يُحسم لمصلحة استبداد من نوع جديد" (286)، أو عملية تطهير ديمغرافي أو توافقات هشة تقوم على محاصصات تعيق نشوء ديمقراطية ليبرالية.

رابعًا: يناقش المؤلف في الفصل الخامس العلاقة بين نمط الأنظمة السلطوية والانتقال الديمقراطي، ويقوم بنقاش نقدي عميق للأدبيات في هذا الصدد. وواضح أن دراسات الانتقال الديمقراطي التي نشأت، وعجزت عن الوصول إلى نموذج/ نظرية شاملة تفسر وتتنبأ بالانتقال الديمقراطي، تبعتها دراسات حول الأنظمة السلطوية، تصنيفها، ميزاتها ونخبها، وعلاقة كل ذلك بالتحول الديمقراطي. في هذا الصدد يعتقد بشارة أن "التغيير ليس مرتبطًا بطبيعة النظام بموجب تنميط مسبق للأنظمة، بل بقدرتها على استخدام أدوات القمع العنيف ومدى استعدادها لتجاوز جميع الحدود في ذلك. فإذا كان النظام قادرًا على الذهاب بعيدًا في عملية القمع العنيف، ولديه الإرادة للإقدام على ذلك، وإذا لم يؤدّ هذا الفعل إلى شقّه، فإنه يعرقل الانتقال بتراجع الاحتجاج وخفوت صوت القوى المدنية، وبتحول قوى أخرى إلى حمل السلاح" (302).

خامسًا: يلعب العامل الخارجي دورًا كبيرًا في الانتقال الديمقراطي سلبًا وإيجابًا، يبدأ من عملية الانتقال مرورًا بنشوء النظام الديمقراطي وانتهاء بتثبيته. ورغم إدراك أدبيات التحول الديمقراطي للعامل الخارجي إلا أنها لم تولها أهمية كبيرة. ولا ينحصر العامل الخارجي في التدخل الخارجي التقليدي (دول، مؤسسات دولية وغيرها) وإنما أيضًا "التفاعل الثقافي، وانتشار فكرة الديمقراطية ومدى جاذبيتها وكيفية استيعابها بعيدًا عن تعقيدات واقعها الحقيقي... وصارت غير قابلة للفصل عن الثقافة الشعبية وثقافة النخب على حد سواء وما عاد الفصل بين "الأصيل" و"الدخيل" ممكنًا في الثقافة، كما في الاقتصاد، لا سيما في مرحلة تشابك الأسواق والاقتصادات" (365). ويشير بشارة إلى أنه يزداد العامل الخارجي في إعاقة الديمقراطية كلما زادت الأهمية الجيوستراتيجية للدولة التي يحدث فيها انتقال ديمقراطي. يكون الانتقال نحو الديمقراطية ممكنًا كلما وُجدت الحاضنة الإقليمية للانتقال الديمقراطي. وفي الحالة العربية، "كلما ابتعد بلد عربي عن المناطق الغنية بالنفط وعن جبهة الصراع مع إسرائيل، قلّ احتمال تدخل العوامل الدولية السلبي في عملية الانتقال الديمقراطي خشية على الاستقرار" (396). ويلعب النموذجان الصيني والروسي دورًا في الأيديولوجيا المعادية للديمقراطية، لقدرتهما على طرح نموذج عالمي بديل عن الديمقراطية، نموذج يجمع بين السلطوية والرأسمالية.

سادسًا: حول العلاقة بين الثقافة السياسية والانتقال الديمقراطي، لا يعتقد بشارة بوجود علاقة سلبًا وإيجابًا بين الثقافة السياسية لشعب بأكمله وبين مساندة أو عرقلة الديمقراطية. ويعود ذلك لأسباب عديدة، أهمها وكما يقول أن "القيم والعادات الاجتماعية تنظم علاقات الناس ضمن الجماعة غالبًا، وأحيانًا خارجها. أما طبيعة علاقة الفرد والجماعة بالدولة الحديثة فغالبًا ما تفرضها الدولة وتحدّد قواعدها إذا حصل التلاقي المباشر بينهما، مع تسجيل تحفظ مفاده أنه في حالة ضعف الدولة الحديثة وقوة مؤسسات المجتمع، لا سيما المؤسسات التقليدية، فإن مؤسسات الدولة تتأثر بها بشدة" (410). وهذا فعلًا ما رأيناه في عدد من الدول العربية في أعقاب الثورات، وعمومًا كما حدث في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003. ويضيف بشارة في النقاش النظري حول تغيير الثقافة السياسية الشعبية من أجل الانتقال للديمقراطية، أنه من الأهمية نقد الثقافة الشعبية، ولكن تغيير الثقافة جذريًا ليس شرطًا كي تحظى الشعوب بحقوق المواطنة في دولة ديمقراطية. فليست هناك دولة واحدة من "الديمقراطيات التاريخية تخلصت من البطريركية الاجتماعية والنظام الأبوي قبل نشوء الديمقراطية" (413). هنا أعتقد أن بشارة يفرّق بين الثقافة الديمقراطية للنخب السياسية والثقافة السياسية السائدة، فهو ينطلق من أهمية الأولى للانتقال الديمقراطي ويراها عاملًا حاسمًا بينما يرى في الثانية جزءًا من عملية اجتماعية ضرورية لعقلنة السياسة والتفكير بين الناس، ويمكن أن تحدث بعد الانتقال للديمقراطية وليست شرطًا لها، حيث يوضح أن "اللحظة الحرجة هي لحظة ما بعد الانتقال مباشرة حين تتدفق فئات واسعة إلى السياسة بثقافاتها السياسية التي تشكّلت في ظل السلطوية في ظروف التعبئة وفتح المجال العمومي. وهنا تحديدًا تبرز أهمية وجود ثقافة ديمقراطية لدى النخب السياسية الفاعلة، أو حرص على الديمقراطية على الأقل، يكبح إغراءات الانجرار إلى الديماغوجيا" (425). وفي النهاية فالثقافة السياسية في الغرب هي نتاج تطور تدريجي للنظام الديمقراطي استمر أكثر من قرن.

سابعًا: يعطي بشارة أهمية كبيرة لعامل الجيش في الانتقال الديمقراطي. ورغم أن أدبيات الانتقال الديمقراطي تطرّقت له، وقبل ذلك أدبيات العلاقة بين المدني والعسكري في النظام الديمقراطي، غير أنها لم توله أهمية كبيرة تنظيرًا وتطبيقًا. في هذا الصدد يقول بشارة "إن وجود طموح سياسي لدى الجيش يُفشل الانتقال، ولا يمكن مواجهته من دون وحدة وطنية للقوى المعارضة للحكم العسكري و/ أو التوصل إلى تسويات مؤقتة معه ريثما يتنازل تدريجيًا عن امتيازاته" (558). لا ينجح الانتقال الديمقراطي إذا عارضه الجيش، أو راهنت قوى سياسية رئيسة على الجيش بوجود طموح الجيش للحفاظ على امتيازاته أو على السلطة. في الحالتين المصرية والتونسية يُفسّر موقف الجيش عملية الانتقال الديمقراطي. في مصر لم يكتفِ الجيش بإعادة إنتاج المؤسسات القديمة فحسب، بل وسّع من نطاق السلطوية وأحكم قبضته الأمنية على الحقل السياسي والمجال العمومي. في تونس وقف الجيش موقفًا رافعًا للحراك الثوري بقوة وانحاز إلى الشعب. صحيح أن الجيش المصري رفض في البداية قمع الثورة، لكنه لم ينحاز لاحقا إلى الشعب.

في هذا الصدد يشير بشارة إلى أنه في حالة وجد طموح الجيش للسلطة دعمًا إقليميًا فإن ذلك يعزّز من رغبة الجيش في الانقضاض على الانتقال الديمقراطي، ولكي يحدث ذلك يجب أن تتوفر عوامل تساعد الجيش على هذا الانقضاض، على نحو: الشرخ في النخب السياسية وعدم التوصل إلى توافق بينها، تعبئة شعبية لا تأخذ في الاعتبار حساسية مرحلة الانتقال، صراع على السلطة مع بدء عملية انهيار النظام السلطوي، محاولة التفرد بالسلطة من طرف سياسي واحد قبل ترسيخ النظام الديمقراطي والاتفاق على مبادئه يُشجع الجيش للتدخل، وفي بعض الأحيان بدعم قوى مدنية أخرى.

خاتمة

يعد كتاب بشارة مساهمة معرفية كبيرة جدًا في دراسة الانتقال الديمقراطي عمومًا وفي المنطقة العربية خصوصًا. ومع نقده العميق ونقاشه المستفيض لحقل الانتقال الديمقراطي بدءًا من نظرية التحديث مرورًا بأدبيات الانتقال الرئيسية، كلها تقريبًا، فإن الباحث لا يتخلى عن تواضعه المعرفي في استحالة بناء نموذج نظري يُمكن تعميمه، ومع تعمقه في دراسة التجربة العربية في كتبه السابقة، واستحضاره ونقده أدبيات الانتقال في المنطقة العربية، فإنه لا يطمح لأن يصك نظرية حول الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، لاستحالة ذلك، بل يتطلع إلى صياغة قواعد/ شروط يراها هامة، لا بل حاسمة في فهم الانتقال الديمقراطي وحتى التنبؤ به. برأيي الكتاب لا يحمل بين دفتيه مقولات معرفية ونظرية فحسب، وإنما ينطوي أيضًا على برنامج سياسي لكل حراك شعبي وثوري وإصلاحي في المنطقة العربية في مسيرتها نحو التحول الديمقراطي. إنه الكتاب الأكثر جديّة حول الانتقال الديمقراطي باللغة العربية، وأعتقد أنه بعد ترجمته للغة الإنكليزية سيكون واحدًا من الكتب الهامة والمركزية في حقل دراسة الانتقال الديمقراطي.