Print
أنور محمد

"الشيخ إمام".. يُغني بما يتَّفق مع حكم العقل

11 يوليه 2021
عروض
إنَّها المشاعر، بعد تأملاتٍ تصيرُ موسيقى، موسيقى تأخذُ بالمستمع نحو النشوة، فتتحقَّق الكرامةُ الداخلية للحواس الإنسانية، فنسمو ونتسامى. كانت الموسيقى، ولا تزال، تُحرِّضُ على البطولة، تُهِّيج الناس، تعدُّهُم، تُجيِّشُهُم للذهاب إلى الحرب، أو الاستعداد لهجوم العدوُّ. والناقد السينمائي المصري أمير العمري في كتابه "الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب"، الصادر عن دار المرايا في القاهرة 2021 ط 2، يحاول أن يستعيد ذكرياتٍ وتأملاتٍ كتبها تخليدًا لذكرى المُغني الشيخ إمام عيسى (1918 ـ 1995)، حيث يقول: "تعلَّمنا منه، وهو الكفيفُ، كيف يمكن أن تصبح للموهبة آلاف العيون، وتقديرًا للشاعر أحمد فؤاد نجم الذي حفر فينا الرغبة في أن ننهل باستمرار من عيون الكلام".




الموسيقى، أو الغناء، عند الشيخ إمام عيسى، الذي تتلمذ مع زكريا أحمد، وغيره من موسيقيين بارزين، على يد الشيخ درويش الحريري، هما تعبيرٌ عن الأفعال العميقة الكامنة في الذات.




والأغنية السياسية العربية هنا، والتي جاءت بعد نكسة وهزيمة وعار 1967، كانت مطلبًا روحيًا. قد لا تكون بمقاييس هرمونية دقيقة، ولكنَّها استجابة لموضوع لحني حيّْ. كلماتٌ وأنغام، وجْدٌ ووجُود، لأنَّ للألحان سلطانًا قويًا على النفس إذا ما وقعت في محلِّها فنفرح، ونزداد فرحًا، أو نحزن فنزداد حزنًا. الشيخ إمام يغني، ولنلاحظ أنَّ غناءه حتى العاطفي منه إنَّما يتم بحب يتَّفق مع حكم العقل، لأنَّه يحقِّق التوازن المنسجم ما بين النغم الارتجالي الذي هو نغمٌ عفوي ومطلب روحي يعبِّرُ عن ظلمٍ أو قهرٍ سياسي واقتصادي وعلمي وَقَعَ علينا من أنظمةٍ أو أحزابٍ أو أفرادٍ فاسدين، وما بين الشكل الموسيقي الذي يتلاءم أو يتواءم مع الحسِّ والمضامين الإنسانية، كونه نشاط الوعي؛ وعينا بالوجود، يعبِّرُ عن (لا) حيَّة.
فالغناء في حالة الشيخ إمام هو فعلٌ يحياهُ الوعي، هو (نغمٌ) كامنٌ في ذاته، أفعالٌ وردود أفعال. كتابُ أمير العمري يروي ذكريات؛ بعضًا من سيرة حياة، لا يذهب إلى (السماع) وفعل السماع. فَصَدْرُ إمام ممتلئٌ بالنغم امتلاءً قويًا، و(أناهُ) وهو يصوِّتُ علينا إنَّما تُعبِّرُ عن كرامتها التي لا تريد أن يُدجِّنها أحد، فأغانيه كلُّها من تلك التي سخر فيها من صانعي هزيمة حزيران 1967. وحتى آخر لحنٍ له، هي (أنا) الناس حين تقهرهم، وما من ردِّ فعلٍ عندهم غير الغناء الذي يعبِّرُ عن نفسية المُبدع، نفسية الناس، باعتبار الغناء طريق وجود، والكلام الغناءَ الأنغامَ حقٌّ؛ أو هو حقيقة تشي في مثل حالة الشيخ إمام عن الأفعال الجوهرية لجموع الخَرْسى فيهيمون، يتهيَّمون والشيخ إمام يغني، يتكلَّم، يفكُّ خَرَسَهُم، فينفجرون بالكلام حتى لا يجنُّون. الغناء عند الشيخ إمام غَيْرُهُ في حالة (أُمِّ كلثوم) التي تُطرب. إمام يغني وينشر الأفكار التي كان النظام الأمني العربي يُحاسبنا، يُعاقبنا مِنَ الجَلْدِ إلى قصِّ العُنق إنْ فكَّرنا بها، نظامٌ يريد أن نسمعَ؛ وَإِنْ سَمِعنا فنَخْرَسُ ونطيعه، أوْ يُعنِّفُنا، يرهبنا يسحقنا. فكلامُ النظام العربي يجب أنْ تُوجَلُ له قلوبنا أوْ يحقُّ علينا الوعيد. وهذا ما دفع هذا النظام لأن يطارد الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، ويزجَّهما في السجن، وكلَّما أخرجهما عادَ وأودعهما فيه ثانيةً، ومعهما مَنْ وُجِدَ متلبسًا، أَوْ وُشِيَ به يسمعُ غناء إمام.




إنَّها الموسيقى التي من ألحانٍ تشتبكُ مع عمق المعرفة الحدسية؛ كلمة وموسيقى وغناء بصوت الشيخ إمام من كتابة أكثر من ثلاثين شاعرًا عربيًا، منهم: نجيب سرور؛ زين العابدين فؤاد؛ نجيب شهاب الدين؛ سميح القاسم؛ فؤاد قاعود؛ توفيق زياد؛ فدوى طوقان؛ فؤاد حداد؛ أحمد عبد الله؛ جلال جميعى؛ أحمد بهاء شعبان؛ زكي مراد؛ سمير غطاس؛ وأبرزهم: أحمد فؤاد نجم، الذي غنى له "أنا أتوب عن حبك أنا"، وكانت أوَّل أغنية لحَّنها وغنَّاها من كلمات نجم، فيما كانت قصيدة "أهيم شوقًا" آخر عملٍ بينهما. أغانٍ قصيرة مكتوبة ومُلحَّنة ومؤدَّاة بدقَّةٍ وبهرمونية. أغانٍ، ألحانٌ تجعلنا ننفعل ليرى العقل كيف الأذن تسمعُ، وتخضعُ لسيطرة الكلمة مُغنَّاة، وكيف تصير قوَّة حياةٍ تُحرِّرُ الإنسان من قيود طاعة الأقوياء الذين يملكوننا، ولم نُملِّكُهم حالنا. موسيقى، أغنية، ألحانٌ تحمل أفكارًا، موسيقى وفكرة تمارس سلطةً على روحنا، روحنا التي تمارس سلطتها بعدما انسلطت بموسيقى الجلاد. إذ لا شيء مقدَّسًا غير الحريَّة مقرونة بالكرامة، وهذا ما سعى إلى تحقيقه الموسيقار الشيخ إمام مع أشعار أحمد فؤاد نجم. فيرتجل أنغامه وهو يغني بانفعال وصوته يتماوج، فالسلالم الموسيقية تنتقل وتتحوَّل حسب انفعاله بالفكرة، فنسمعُ ألوانًا صوتية، خاصةً إذا تفاعل الجمهور المستمعُ معه وهو يستخدم آلة موسيقية واحدة، آلة العود ومعه محمد علي عازف الإيقاع؛ فيصير بآلته هذه فرقةً موسيقية، تعزف موسيقى من ألحانٍ مُستلهَمة لناسٍ غير سلبيين، أو مُحايدين، ولا يخافون وعيدًا، ولا عذابًا.

الشيخ إمام 


موسيقى تفكُّ إسار الروح، والنفسِ، وجنازير الخضوع والإذلال، موسيقى لأغنية؛ أغنية تثير الإحساس بالشجاعة، فلا يخافُ الإنسان السامعُ/ المُستمعُ من المُدجِّن، من السجَّان، والشيخ إمام يُنغِّمُ ويتنغَّمُ لطرد كلِّ أشكال الخنوع من الذات ـ ذاتنا. فألحانه هي نغماتٌ شُجاعةٌ كامنةٌ ذاتُ طابع تأثري فننفعل، ألحانٌ تحتاج إلى دراسةٍ يقوم بها متخصصون عندهم غيرة على العقل الموسيقي العربي، بصفتها ألحانًا مَلَكَتْ وجدان الناس. الناقد أمير العمري، وإن لم يحلِّل موسيقى إمام، لكنَّه سردَ سيرة حياته فقدَّمه كبطلٍ في رواية سنسميها "لا تفزع من الطاغية". العمري لم يقدِّمه موسيقيًا، أو مغنيًا، قدَّمه بطلًا أبدعَ وتفنَّنَ في خلق موسيقى تُحرِّض، تشحذُ الهِممَ، فكان كتابه تأريخًا لحياة مُغنٍّ ثائرٍ رفضَ الذُلَّ والسكون للحاكم العربي.




الشيخ إمام هو غير الموسيقيين والمغنين، فألحانه، كما كلمات أغانيها، ذاتُ وقعٍ سحري، ذاتُ مضمونٍ يغذِّي الإحساس بالكرامة؛ مضمونٍ ذو معرفة، أو يصدر عن (عقل) عاقلٍ لا يقبل بأن يستهبله، أو يستحمره، أيَّ عارفٍ، أو مُتعارف، من زبانية السلطة العربية، فتصير للموسيقى (الإمامية) فعاليةٌ جاذبة، وليس جابذة، فنحنُ، وإنْ انفعلنا وتأثَّرنا، إنَّما نحن عاقلون، عاقلون لا نُجن.