Print
عزيز العرباوي

في اكتشاف شجرة الحياة وأغصانها

21 يوليه 2021
عروض

عندما قام تشارلز داروين بتفسير منطقي ومحدد للقوة الدافعة للتطور، اتخذ العلماء، وخاصة علماء البيولوجيا، من ذلك بداية لتتبع مسارات التطور المتعددة والمترابطة بنجاح كبير، ليصلوا في النهاية إلى التمكن من تحديد علاقات القرابة بين الكائنات الحية المختلفة، ثم بعد ذلك قام العلماء أيضًا بتتبع العلاقات التطورية عن طريق المظهر الخارجي للكائنات الحية، فافترضوا أن الأنواع الموجودة وأحافيرها التي يشبه بعضها البعض الآخر تربط بينها علاقة قرابة باعتبارها تتشارك في ماضٍ وراثي واحد. ولقد تم تفكيك رموز هذه العلاقات بين العديد من النباتات والحيوانات بالطريقة نفسها، فانخرط داروين نفسه في هذا الأمر من خلال العمل على تتبع التاريخ التطوري ووشائج القرابة بين محار "البرنقيل Barnacle" حيث عمل على دراسة أوجه التشابه والاختلاف في أشكال أنواعها المتعددة. ومن هنا نؤكد على أن هذه الأعمال العلمية والبحثية أحدثت تغيرات عميقة في علم البيولوجيا، والذي سمح بإلقاء نظرة على شجرة الحياة الكونية باعتبارها وحيًا متواضعًا وثوريًا.  

يعتقد جون إل. إنغراهام في كتابه "الأقرباء: كيف تعرفنا على صلات القرابة بين الميكروبات وسواها من الكائنات" (تأليف: جون إل. إنغراهام، ترجمة: إيهاب عبد الرحيم علي، كتاب عالم المعرفة 481، 2020) أن العلماء مفتونون كثيرًا بأصول الكائنات الحية ومدفوعون لمعرفة مصدرها حيث تمكنوا من الوصول إلى ذلك بصورة عامة على الأقل، وإلى الاعتراف بقرابتها الأساسية بالميكروبات. ويتحدث المؤلف في مقدمة الكتاب عن مسألة مهمة تتعلق بالأساس حول البيولوجيا الحديثة جديدة النشأة التي لها تأثير مكافئ لنظرية الانفجار الكبير في علم الكونيات. لأن مكوناتها تمثل العلاقات المتوطدة بين الكائنات الحية عند جمعها معًا تحقق بيانًا واضح المعالم ومثيرًا للاهتمام وهو أن: الكائنات الحية أقارب، من أصغر البكتيريا إلى أضخم حوت أزرق، فالكائنات أعضاء في عائلة الحياة الشاملة نفسها. ومن هنا يتحدث المؤلف عن الأساس الذي يتأسس عليه بحثه باعتباره "يظهر التقارب النسبي للعلاقات بين الكائنات الحية المختلفة، وكذلك الترابطات الوراثية بينها، ويشرح كيف حصلت الكائنات على المكونات الفردية من خلاياها: كيف تطورت بروتيناتها عن طريق تجميع الأجزاء المكونة لها من مصادر متباينة، وكيف اكتسبت بعض وظائفها الخلوية الأساسية من الميكروبات مباشرة" (ص. 16 من الكتاب).


يرسخ هذا الكتاب ويبرز في الوقت نفسه، ذلك التقارب النسبي للعلاقات بين الكائنات الحية المختلفة، والترابطات الوراثية التي تربط بينها بشكل أو بآخر، حيث يقوم المؤلف فيه بشرح وتفسير كيفية حصول الكائنات على المكونات الفردية من خلاياها، وكيفية تطور بروتيناتها عن طريق تجميع الأجزاء المكونة لها من مصادر متباينة، وكيفية اكتساب بعض الوظائف الخلوية الأساسية من الميكروبات مباشرة دون تدخل شيء آخر. فالتأثير الأكبر والأساس لمثل هذه الدراسات العلمية يتجلى في اكتشاف أن مثل هذه الأشياء تمكن معرفتها، وأن أي سؤال يدخل في هذا الإطار يمكن الإجابة عنه من خلال التجارب المخبرية العادية؛ فطوال تاريخ علم البيولوجيا تم اكتشاف كائنات جديدة باطراد (أنواع من الخنافس أو العناكب أو الأسماك أو النباتات أو حتى البكتيريا) باعتباره تدفقًا مستمرًا من أجل أن يتسارع مع توافر طرق جديدة للاكتشاف على الرغم من فقدان بعض الأنواع بسبب الانقراض.

اكتشاف شجرة الحياة

لقد أتاحت فرصة معرفة بنية شجرة الحياة لعلماء البيولوجيا القدرة على توصيف المجموعة المعقدة والمركبة من المجموعات الميكروبية التي تعيش في الكائنات الحية وعلى أجسادها بالضرورة، بل أدى ذلك إلى اكتشاف مساهمتها في حالات الصحة والمرض بكل أنواعه. فاكتشاف كارل ووز مثلًا للمجموعة الكبيرة من الكائنات الحية التي صُنفت ضمن البكتيريا كانت في الواقع شكلًا مختلفًا من أشكال الحياة، عرفها بمسمى "العتائق"؛ بينما يبقى أهم إنجاز تحقق في هذا العلم هو بناء شجرة الحياة باعتباره مشروعًا تطوريًا حلم به داروين من قبل، والذي يعد من الجذوع الثلاثة الرئيسة والأساسية للشجرة والتي تهيمن عليها الميكروبات بالدرجة الأولى، في حين تمثل المواد غير الميكروبية، النباتات والحيوانات، غصنًا علويًا صغيرًا في جذع واحد.

يعتبر إنغراهام أن شجرة الحياة مصطلحًا استخدم أول مرة بالمعنى العلمي من قبل داروين، وهو يلخص التكهنات التي عبر عنها علماء البيولوجيا منذ زمن طويل بحيث تؤكد على وجود درب تطوري ناشئ عن بدايات الحياة، والذي يتفرع بصورة متكررة مؤديًا إلى جميع الكائنات الحية الموجودة. فرسم داروين البسيط للنشوء المتفرع من سلف مشترك، والذي ينتج مجموعة من الأحفاد الذين يشبهون أبناء العمومة يوضح كيف تطورت مجموعة بعينها من الأصناف أو الأنواع المتشابهة. حيث كان لهذا الرسم تأثير بعيد المدى ودائم. وكانت هذه البداية التأملية لشجرة الحياة عند داروين، "والتي لخصت جوهر أفكاره: المخلوقات المتشابهة تبدو متشابهة لأنها وثيقة القرابة، فيربط بين علم التصنيف Taxonomy (نظام للتسمية) وعلم تطور السلالات [الفيلوجينيا Phylogeny] (العلاقات التطورية). يوضح مخططه أيضًا كيف يمكن للمجموعات المتبقية على قيد الحياة أن تكون من نسل مشترك قد انقرض الآن. ذهب داروين إلى أبعد من ذلك في واحد من دفاتر ملاحظاته"(ص. 19).

ويرى المؤلف أن الباحثين في كتابات داروين لم يستطيعوا الاتفاق على ما إذا كان قد اعتقد أن الميكروبات هي أسلاف الكائنات الحية، أو أنها تمثل حتى جزءًا من شجرة الحياة المقصودة. فالميكروبات Macrobes لا تشكل إلا مجموعة صغيرة من الأغصان على فرع من فروع الشجرة العليا. أما الاسم الذي استخدمه داروين والذي يتعلق بالنقاعيات لوصف الميكروبات فهو يعني ضمنيًا الكائنات التي توجد في نقيع اللحم أو القش، لأنه كان يعتقد أن الميكروبات قد لا تكون جزءًا من شجرة الحياة بل إنها تظهر تلقائيًا من مادة غير حية في الظروف المواتية.

جون إل. إنغراهام 


فاكتشاف شجرة الحياة يؤكد لدى المؤلف حقيقة مذهلة تتعلق بكونها تتكون في معظمها من الميكروبات حصرًا، وتشكل النباتات والحيوانات اثنين فقط من أغصان الشجرة، حيث تندرج البكتيريا والعتائق والأولانيات ومعظم الفطريات ضمن الميكروبات. وفي هذا الإطار قدم المؤلف كل هذه العناصر المكونة لشجرة الحياة حيث أجملها في العناصر التالية:

الفطريات: أقرب أقرباء الثدييات الميكروبيين؛ الأغصان الأبعد بقليل هي الأوالي والطحالب، يلي ذلك بدائيات النوى، العتائق والبكتيريا.

الأولانيات: الأوالي والطحالب، لكنها تجمع بصورة أكثر تواترًا تحت مصطلح شامل هو "الأولانيات" وتشترك مع النباتات والحيوانات والفطريات في بنية خلوية تحتوي على نواة حقيقية، وهي بنية مدمجة في غشاء مزدوج وفيها يُخزَّن الحمض النووي للخلية.

العتائق: وعلى رغم أنها تهيمن على البيئات المتطرفة، فإنها ليست محصورة فيها، حيث توجد بوفرة في مواقع معتدلة مثل التربة والمستنقعات ومياه الصرف الصحي والمحيطات.

البكتيريا: هي النطاق الآخر والأكثر ألفة من بدائيات النوى، باعتبارها الجراثيم التي تستهدفها المنظفات المنزلية وباعتبارها مصدرًا للأمراض.

الغصن الشبحي للشجرة: وهو الفيروسات، لكنها لم تدرج على شجرة الحياة، نظرًا لافتقارها للخاصية التي تعرف الكائنات الحية في الأساس، لأنها ليست خلايا وتفتقر إلى وسيلة لتوليد طاقتها الأيضية، وإلى طرق التوالد الذاتي وإلى الريبوسومات.

ترتبط الكائنات الحية، حسب جون إل إنغراهام، من خلال مجموعة من الكائنات الحية ذات الهياكل البسيطة التي تحدتْ طرق التصنيف المترسخة والمبنية على مقارنات مورفولوجية، ولقد استندت إلى بنية الجزيئات الكبروية للخلية بدلًا من خصائصها البصرية المرئية فأدى هذا الفتح العلمي إلى اكتشاف أن شجرة الحياة تستند إلى ثلاثة أغصان متميزة هي: البكتيريا، والعتائق، وكل شيء آخر من حقيقيات النوى.

ظهور الـ: دي إن إيه DNA

يؤكد المؤلف أنه عن طريق معرفة بنية الـ: دي إن إيه DNA يمكن للباحثين تناول الأسئلة الأساسية في البيولوجيا، وذلك من خلال الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما الذي يحدد البنية الأساسية للبروتين؟ وكيف تشفر متوالية الأحماض الأمينية المعينة التي تكون بروتينًا معينًا في الـ: دي إن إيه لتشكيل الشفرة الوراثية للكائن الحي؟. فعلم الوراثة كان يحتل بقعة في علم التجريد العلمي، حيث توصل علم الوراثة الكلاسيكي إلى استنتاجات مستنيرة من الملاحظات التجريدية المنفصلة ظاهريًا. وفي المقابل يوجد التحليل الكيميائي الحيوي للأنظمة البيولوجية على أقصى الطرف الآخر من التجريد العلمي. كل ذلك يعتمد، حسب مؤلف الكتاب، على التعامل المباشر مع الموضوع المعني، أي تفكيكه إلى مكوناته الكيميائية المعروفة، ثم إعادة تجميع ما يكفي فقط من العناصر لتواسط الظاهرة قيد الدراسة. في حالة كسر الشفرة الوراثية، يُستغَل كل من علمي الوراثة والكيمياء الحيوية: وذلك لكشف نهج وراثي عن ترتيب كلمات الشفرة وترجمة نهج كيميائي لمفرداته.

يرى المؤلف أن كيفية كسر الشفرة هي قصة مثيرة للباحث، فهي تستحق توقفًا مهمًا عندها، فعلى رغم أن "قراءة الشفرة هي في جوهرها مسألة وراثية، فإن كسرها كان انتصارًا للكيمياء الحيوية، والتي تتناقض فلسفيًا مع علم الوراثة بالفلسفة الموجهة إليه والمتمثلة في الاختزال Réductionism. ما عليك سوى تفكيك النظم المعقدة وفصل مكوناتها؛ ثم إعادة تجميع تلك التي تؤدي المهمة التي تهمك دراستها فقط، وستحصل على نظام أبسط يسهل إدارته وفهمه. لا تجريد هنا"(ص. 100).

من مؤلفات جون إل. إنغراهام 



اكتشاف النطاق الثالث للحياة

يرى المؤلف أن إتقان رالف وولف Ralph S. Wolfe لتقنية هنغيت يعني أنها تمكنه من زرع خلايا الميثانية الحرارية ذاتية التغذية باعتبارها النوع الذي كان يستخدمه في دراساته الكيميائية الحيوية، والتي قدمها إلى كارل ووز Carle R. Woese بكميات تكفيه لفحص الـ: آر إن إيه RNA الريبوسومي، وهو عرض اتضح أنه مغيّر لنماذج البيولويا بأسرها. لقد تعاون كل من وولف Wolfe وووز Woese وفوكس مع ليندا جي. ماغرام Linda J. Magram، وويليام إي. بالش William E. Balch لاستزراع الوحدة الفرعية الصغيرة من الـ: ري إن إيه الريبوسومي وفحصها من عشرة أنواع أو مستفردات من الميثانوجينات التي كانت متاحة حينئذٍ، حيث كانت نتائج هذا التعاون العلمي بين الباحثين مذهلة باستخدام مؤشر التشابه الذي طوره فوكس باعتباره تقديرًا كميًا للقرابة بين هذه الميثانوجينات المختلفة والبكتيريا، عمدوا إلى بناء شجرة فيلوجينية صغيرة لقرابة الميثانوجينات.

ولكي يحدد المؤلف أغصان الشجرة، شجرة الحياة، استحضر العديد من العناصر لتأصيلها على رغم أن الاكتشاف الحديث لمجموعة جديدة من العتائق، وهي عتائق لوكي Lokiarchaeota، يجعل هذا التغصّن العميق لشجرة الحياة موضع تساؤل: تصنيف للبكتيريا والعتائق، تسمية أقسام الحياة الرئيسة، بدائيات النواة وحقيقيات النواة، تأثير طرق ووز...

شكوك وتعقيدات وفهم شجرة الحياة

في تحديده لأهم التعقيدات التي تساهم في الوقوف على البيانات التي يمكن الإدلاء بها من خلال شجرة الحياة، توقف المؤلف عند بعض المحددات وهي: الـ: دي إن إيه الطليق، الجنس الميكروبي، الانتقال الفيروسي للجينات. فالخلية المتلقية بالنسبة إليه في هذا الوضع قد تتضرر في أثناء أي نوع من الانتقال الأفقي للجينات. حيث "يمكن أن يكون بعضها، وخصوصًا الـ: دي إن إيه الفيروسي، قاتلًا للخلايا المستقبلة، وقد تكون بعض أنواع الـ: دي إن إيه البلازميدي ضارة بنحو يتعذر إصلاحه. يمكن لقبول الـ: دي إن إيه عشوائيًا من البيئة أن يعرض السلامة الجينية للخلية للخطر"(ص. 179). وفي هذا الإطار يستحضر المؤلف العديد من الآليات التي طُورت لإنجاز هذا العمل المتطلب في المخطط الأساس نفسه، من مثل وسم دي إن إيه الخلية بعلامة مميزة وتدمير جميع الـ: دي إن إيه الذي لا يحمل هذه العلامة المميزة من خلال: التقييد والتعديل، مناعة بدائيات النوى، الانتقال الأفقي للجينات بدائيات النوى.

ولفهم شجرة الحياة، يعتقد إنغراهام في الجزء الثالث من الكتاب، أن فكَّ تشفير شجرة الحياة وتطوير الأساليب التي جعلت هذا الفهم ممكنًا قد أحدث تغيرًا عميقًا في طريقة تفكيرنا في مآل البيولوجيا ووسّع نطاقه. حيث حدث التأثير الأكبر في البيئة الميكروبية، وتفاعلات الميكروبات فيما بينها وفي بيئتها، لأن البيئة الميكروبية تتصف بكونها تنفتح على البحث والاستقصاء بتنوعها، لتتراوح بين الفوهات الحرارية المائية في أعماق البحار وبين أجساد الكائنات الحية. وليوسع أفكاره أكثر حول مسألة فهم شجرة الحياة فقد تعرض المؤلف إلى الميكروبيوم (مجموع جمهرات ميكروبية وراثية معينة)، رعاية وتغذية ميكروبيومنا، الميكروبيوم المعوي، التهجين الموضعي التألقي، التبرز الشامل، البركة الصغيرة الدافئة، الأغشية، عالم الـ آر إن إيه...


*كاتب مغربي.