Print
رشيد الخديري

"ذيل الثعبان".. الرواية أفقًا للجدليّة الاجتماعيّة

28 يوليه 2021
عروض

 



الجدليّة الاجتماعيّة أفقًا

بعد روايته الأولى "خلف السور بقليل"(1)، اختار الكاتب عبد السميع بنصابر، أن يعنون روايته الجديدة بـ"ذيل الثعبان"(2)، وهي رواية تغوص عميقًا في تفكيك المصالح الاجتماعية، إذ تحفل بعددٍ من التّأملات في مصير الوجود الإنسانيّ، عبر تقديم شخصيتين محوريتين، وهما: البوهالي ووالتر، وأهم شيء يميّز هاتين الشخصيتين هو احتضانهما لرؤى متعارضة ومتنافرة، رغم جهدِ الكاتب ورغبته في تحقيق نوع من التّواشج الخلاق بينهما، واللافت للانتباه في هذه التّجربة الروائيّة، خصوصًا على المستوى التّيماتيّ، هو أن بنصابر تحرّر نسبيًا من تبني سرود الواقعيّة الجمالية التي ميّزت الرواية المغربية منذ فترة الثمانينات والانفتاح على الذاكرة وتخييل التاريخ والحفر في طبقات الوجود الإنساني. لنقل، إنّها رواية تنطوي على منظورات جديدة في عملية البناء والتحبيك ونسج المتخيّل، وفي هذا الصّدد، أشار محمد برادة إلى أن النّص الروائي هو"تجربة البحث عن شكل كلي يهدم حدوده، وقوانينه، بقدر ما يكتشف أخرى"(3)، والكاتب في هذا النّص الراوئي ينطلق من تصور مغاير ومختلف في الكتابة، فقد عَمِلَ على إعطاء عملية البحث والتخييل أهمية قصوى، باعتبارهما قادرين على ربط الدلالات الكامنة في النّص الروائيّ بحركة التاريخ ومصالح المجتمع.

وواضح أن ثمة رهانًا على تجاوز الامتدادات والأصداء التّناصيّة في الأعمال السردية الأولى، وهو مسعى يبرز من خلال كتابة نص روائي بروح الخرافة وبخلفية طقوسية يُجَسِّدها البوهالي كصورة مُشَخَّصةِ ومُختزلة لما يمور في المجتمع المغربي من مفارقات اجتماعيّة، وهي شواغل تأتي في سياق مُحاولة الخروج من زيف الواقع نحو تبني المنطق الخرافيّ والعمل على استقصاء الحوامل الطّقوسيّة وتفكيك أنساقها وتمظهراتها.

إن "ذيل الثعبان" مفعمة بعبق الخرافة والتاريخ المنسيّ والأسطورة والبحث عن أنساغ المهمشين والمقموعين، وفي هذا الصّدد، "يظل الخيالي مقبولًا ما دام يقودنا إلى الحقيقي، ولم يتعارض معه في النهاية"(4)، ومن هذه الزاوية، تكشف هذه الرواية عن قدرة غير مألوفة في الكشف والمعرفة واستثمار ذلك في تخييل التاريخ وتكريسه على أكمل وجهٍ ممكن. ومن هذا المنظور، يصير الفضاء الروائيّ انعكاسًا لما يمور في المجتمع من تحولات متسارعة وديناميات جديدة، لا سيما حينما يتم ربط المضمون بهاجس البحث في التاريخ المنسيّ والحفر في طبقات الثقافة المغربية في مواجهة سلطوية الثقافة الغربية. لنقل، إننا إزاء عملٍ روائي يقوم على أساس جدليّة التّمثيل والتمثيل المضاد، وهو ما يعكس هذه الجدليات التاريخية والثقافية والاجتماعية الحافّة بالرؤى التي تنهض بها الرواية. ومن المهم، في هذا السياق، التّشديد على أهميّة الجدليّة الاجتماعيّة ومركزيتها المحورية داخل عددٍ من الأعمال السردية باعتبارها أفقًا للتخييل ومادةً لكتابة نصوص روايّة مغايرة ومختلفة، ذلك أن "هذه الاقتراحات تضعنا أمام مستويات مختلفة من التمثيل"(5)، وتتعيّن ها هنا، رواية "ذيل الثعبان" ليس بوصفها ذات منزعٍ إسقاطي للواقع في تمثيلاته المتعددة، وإنّما في بلورتها لأنساق ثقافية تاريخية مُجدِّدةً النقاش حول علاقة الأنا والآخر.

 



الإنسان والعالم

يستخلص قارئ هذه الرواية أن بنصابر يولي لحياة الإنسان أهميّة قصوى، فهو المسكون بالغرابة المقلقة والصراع في أفق الكشف عن معاني الأشياء ولغزية الوجود، وهو في ذلك، يروم التأكيد على أن الإنسان هو القادر على تحقيق وجوده وإثباته وفقًا لتصوّراته ومعرفته بالأشياء، وها هنا، يتبدّى الصراع الخفيّ بين البوهالي ووالتر، رغم محاولات الكاتب المتكررة رسم صورة من التّوافق والتّواشج بينهما، إلا أن التّعمق في المتن، يكشف لنا حالة من التنابذ نتيجة الجدليّة الاجتماعيّة الضاغطة وفورة العولمة وأسئلة الحياة المعقدة ومخلفات الإمبرياليّة. يقول السارد على لسان البوهالي: "حدث ذلك أيام "الحماية" حين احتل المعمرون البلاد وتجبروا على أهلها أيما تجبر. اغتصبت الحقول والمزارع الشاسعة، وسبيت النسوة وهلك الصبيان من المجاعة والوباء. وذات صباح من صباحات الشؤم التي لا تمحوها الأيام، قدم إلى قريتنا الأطلسية شرذمة من الأميركان، قيل إنهم يرومون تصوير فيلم سينمائي. فما كان من الحاكم الفرنسي إلا أن ألفاها فرصة لإهدائهم أرواح أهل الأرض، فداء شغفه بأفلام رعاة البقر وتعلقه ببطولاتهم وأمجادهم!" (الرواية: ص 129)، ووفق هذا المنظور، نعتقد أن الكاتب يولي أهميّة قصوى للذاكرة الجمعية والتاريخ الغابر كمحاولة لربطهما بالتاريخ الرّاهن ونقد التّمركز الامبريالي وترسيخ قيم المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية في أفق العبور بالنّص الروائي وتحريره من المنزع الجمالي الواقعي نحو تخييل التاريخ بما ينطوي عليه من تغيّرات ومُفارقات.

بهذا المعنى، يصير النّص الروائي عند بنصابر مُتخيّلًا تاريخيًّا واجتماعيًّا يعكس اشتغالًا محوريًا على استثمار معطياته في عمليّة التّشييد وتعرية الواقع والحفر في طبقات الذات الداجية، وهذا التّصور في الكتابة هو الذي قاده عبر 254 صفحة إلى الكشف عن هذه العلاقة المعقّدة بين الإنسان والعالم، ونتقصد بالعالم ها هنا، تلك الأشياء المحيطة بمسارات الإنسان في كونيته وتعدديته واختياراته. إن وظيفة الراوية ككل، هي التعبير عن هموم الإنسان ورؤاه وطموحاته، خصوصًا في ظلّ راهنيتها وقدرتها على تفكيك علاقة الإنسان بذاته وعالمه وبالقيم التي ينتجها في مواجهة سلطوية العالم، ومن المؤكد، أن هذا النّص الروائي، هو امتداد للعالم المتخيّل الذي يُميّز التّجربة السردية للكاتب، إلا أن ثمة تجليات مغايرة سواء على مستوى استثمار المادة الكتابيّة أو استثارة المتخيّل، فالظاهر أن بنصابر في هذه الرواية، لم يتحرّر من النّزعة الواقعيّة الانتقاديّة وما تكتنزه من جماليات على مستوى الخطاب والتّخييل واللغة والبناء، وهو بالتالي لم ينفصل كليًّا عن هذه الطبيعة التخييلية رغم الجهد المبذول في تغيير طبيعة السرد ومرتكزات الخطاب الروائي في الآن ذاته. في ثنايا هذه الرواية، تبرز التّجربة الإنسانيّة وما يحفّ بها من قلق ولغة وتخييل وحوارية وتضايفٍ وتنابذٍ وإدهاشٍ وغرابةٍ واستيلابٍ وعواطف ملتبسة حُيال الآخر، مُقابل تكريس كونيّة الذات فردية كانت أو جمعية، و"بهذا المعنى، فالرواية عندما تتقصى علامات التوتر والصراع بين الفرد والعالم فإنها، بذلك، ترتاد أسئلة الحياة والقلق والعواطف المعقدة ولغزية الوجود"(6)، ونعتقد أن أهميّة أي رواية، تتجلّى على الخصوص في الأسئلة التي تطرحها والآفاق التي ترتادها، باعتبارها نصًّا منفتحا على عددٍ من القيم الاجتماعيّة، كاشفًا لكلّ أسرارها وشواغلها.

 



اشتغال الذات ونقد قيم التّمركز

لا شك أن موضعة هذا النّص الروائي في زاوية محددة، منغلقة الدلالات، سيفقده حيويته وديناميّته، وكذلك إضافة إلى هذا كلّه، رغائب الذات في تصاديها مع فورة الاصطخاب التي تحفُ جمالياته، إذ نلمس جنوحًا نحو نقد قيم التّمركز وخلق ما يسمّى بـ"الثقافة المضادة"، كرد فعلٍ على صوت الاستعلاء الذي يُجسّده "والتر" قياسًا بـ"البوهالي" كشخصيّة مسكونةٍ بالقلق والخوف والانهزاميّة. تلك هي الصورة التي أراد أن يرسمها السارد لشخصيتين متناقضتين ومتنابذتين، رغم انشغاله البالغ في تقريب المسافات وردم الهوّة بين عالمين مختلفين، ومن ثمّ، فإن بنصابر لم يتحرّر من هيمنة التّصور التقليدي النّمطيّ للإنسان المغربي الغارق في معضلات اجتماعيّة وسياسية وثقافية، بل سعى إلى تكريسه على أوسع نطاقٍ، وما الصورة التي رسمها للبوهالي، بأنّه ناهب للنذور والهدايا والشموع التي يأتي بها الزائرون لضريح بويفيغر كنوعٍ من الكرامات، إلا دليلًا على ترسُّخ هذه الثقافة الغيبية الطقوسية لدى فئة عريضة من المجتمع المغربي. وفي هذا الصّدد، يقول السارد: "ما إن ولجت البوابة، حتّى أبصرته ينحني بجسده ملتقطًا القطع النّقدية المتناثرة على أرضيّة الضريح (...) قهقه وهو يدسّ الشموع داخل قبّ جلبابه" (الرواية: ص 102/ 103)، ورغم قتامة هذه الصورة الدنيويّة ورسوخها في الذاكرة، واقعيّة كانت أو مُتخيّلة، فإن الكاتب عَمِلَ على إضفاء نزعةٍ جماليّةٍ على هذه الشخصيّة، وكأنّ هذا "البطل الملهاوي يشعر بالرضى، والغبطة المطلقة ولذلك فهو يتعالى فوق المتناقضات الحياتيّة هذه"(7)، كما أنّه "غير قادر على تحمّل المعاناة، فيثير سلوكه الضحك عند الآخرين"(8)، وهذا يؤكِّد تفاعل الكاتب مع شخصياته أوّلا، ثم، مع حقبةٍ مهمة من تاريخ المغرب وتغلغله في الأسئلة الحافّة به ومحاولة تفتيت بنيته المركّبة، ومن هذه الزاوية، نتصوّر أن هذه التّفاعلات مع المتخيّل التاريخيّ، يُضفي على النّص الروائي ملمحًا مركزيًا وذاكرة تختزن عالمًا متكاملًا من الأنساق والرؤى. إلا أنّنا في المقابل، نُسجِّل أهميّة هذه الطّفرة النوعيّة في المادّة الكتابيّة عند بنصابر، وما قدّمه لنا وما سيقدِّمه في المستقبل القريب قمين بأن يتبوّأ مكانةً بارزةً كأحد الأقلام الروائيّة الجديرة بالاهتمام والمتابعة.

 

* كاتب من المغرب.

 

هوامش:

 (1)  عبد السميع بنصابر: خلف السور بقليل، منشورات اتحاد كتاب المغرب- جمعية أصدقاء كونتبرغ بالمغرب، ط 1، 2013.
(2)  عبد السميع بنصابر: ذيل الثعبان، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط 1، 2019.
(3)  محمد برادة: فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، 2003، ص: 36.
(4)  جابر عصفور: قراءة التراث النقدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، 2019، ص: 352.
(5) إدريس الخضراوي: الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار، رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، 2012، ص: 64.
(6) إدريس الخضراوي: الكتابة النقدية عند محمد برادة، المرجعية والخطاب، أفريقيا الشرق، ط 1، 2020، ص: 256.
(7)  عقيل مهدي: المنى الجمالي، دار مجدلاوي، عمان، ط 1، 228، ص: 19.
(8)  م سا، ص: 19.