Print
وارد بدر السالم

"رامبو الحبشي".. الحبّ من طرف واحد

8 يوليه 2021
عروض


نسبية الواقع أكبر من نسبية الخيال. لكنّ الخيال السردي يحرّك مفاصل هذه الرواية ("رامبو الحبشي"، حجي جابر، منشورات تكوين- الكويت 2021) إلى حد التماهي مع الواقع وذوبانه فيه. ولو لم تكن شخصية "رامبو" معروفة عالميًا، لأصبحت "رامبو الحبشي" في حبكتها ومعالجتها الفنية ضربًا من التأليف السردي العام الذي نطالعه في مرويات وحكايات روائية كثيرة. وقد لا تمتلك الإثارة المطلوبة في دراما الحب من طرف واحد.

ونعتقد أن الروائي الإريتري حجي جابر، كان يعي هذا الخيط الرابط بين الخيال والواقع، مثلما يعي أن رامبو، بوصفه شخصية شعرية عامة، ما يزال يثير غريزة الكتابة، لذلك لا بد من تمثيل جو سردي ولغوي يتناول جزءًا من تاريخ هذا الرجل في مرحلة من سيرته القرن- أفريقية، يلائم شخصيته القلقة التي كثر الجدل حولها، لتناقضاتها الكثيرة التي أوجدت منه شخصية قابلة للشك والغموض بعيدًا عن كونه شاعرًا. ولهذا يبدو أنّ تناول الشخصيات الحقيقية في السرديات، كما لو أنه محاولة لتحديث وجودها في زمن آخر. على أن مثل هذا (التحديث) ليس إعادة صياغة كلية للماضي وإنشاء خريطة واسعة للجزئيات والتفاصيل الحقيقية، ولكن ربما هو استدراك حلقة من حلقاتها المخفية أو المفقودة، لتنويرها من جديد على خلفية متخيلات فنية متاحة في تعقب الأثر الواقعي، تؤازر ذلك المخفي والمعتم والمجهول والمفقود.

قد يكون التحديث على فقرة هامشية سقطت من مذكرات الشخصية فتناولها رواة الأثر بوثائق أو من دونها، ليتم لاحقًا إعادة تدويرها في مناخ وظرف آخرين، وإذكاء وهجها ثانية على ضوء مسلّمات سردية متقدمة في توطينها عبر السرد، ومن ثم إنارة حياة كاملة على ذلك الوهج وتوثيقها في المتخيل السردي، الذي لا يكف عن ملاحقة إشغال فراغات الشخصية الحقيقية، بما يُتاح من معلومات تكفي لإملاء تلك الفراغات. لتبدو وكأنها حقيقية، وهذا من اشتغالات الخيال السردي الناجح، الذي يؤسس لكيانات ملاصقة للكيانات الواقعية في الشخصية الحقيقية، وتقديمها بوقائع جديدة، عبر المكان والزمان وما يليهما من أحداث وحوادث وشخصيات ثانوية رافدة.

مثل هذا التحديث سيكون مواكبًا لواقعية الشخصية من حيث الخيال السردي الذي يطمح كثيرًا لأن يرتقي بمسوّدات الشخصيات الواقعية، من حيث أهميتها الاجتماعية أو الفنية أو الاعتبارية. باعتبار أن الشخصية الروائية بؤرة السرد ومغناطيسه الجاذب لكل العناصر ومكوناتها الفنية المتضامنة، بنموها الصاعد، مؤسسة لكيانات بشرية أو مكانية ترافقها في رحلة السرد، وتفتح معها صورة الحياة، كونها مغذّيات لا غنى عنها في التشكيل الفني العام.



وعلى ضوء هذه المسلمات أمامنا في هذه القراءة الروائية شخصية الشاعر الفرنسي آرثر رامبو (1854- 1890) كشخصية شعرية عالمية، اكتسبت حضورها من قصائد جحيمية ومغامرات حياتية متنوعة، ليس أقلها السفر إلى القرن الأثيوبي، بما فيها من شذوذ ومفاهيم وغموض وتجارة ورسائل واستدراكات سفر، والذي أخذت هذه الرواية شيئًا من سيرته الغامضة في علاقته العاطفية بفتاة حبشية لم تتضمنها سيرته الشخصية، أو تشير إلى ذلك رسائله إلى أمه وأخته. فبقيت هي أيضًا غامضة تحت ستار السيرة الشعرية لرامبو أو الشخصية منها. ولا تطمح هذه القراءة لتفكيك عناصر السرد ومكوناته الأساسية، فهي رواية واضحة. بمعنى أنها حققت الكثير من شروط السرد الناجح في سعيها لمعالجة ثيمة الحب من طرف واحد.. عبر شخصية إشكالية رامبو التي تحمل النفَس الأوروبي المتسم بالتعالي والغرور.

كتب عن رامبو

"رامبو الحبشي" رواية الإريتري حجي جابر سبقتها أربع روايات هي "سمراويت- 2012" و"مرسى فاطمة - 2013" و"لعبة المغزل- 2015 " و"رغوة سوداء- 2018" لكن رامبو الحبشي افترقت عن السرديات التي قبلها بتناولها جزءًا من حياة الشاعر رامبو حينما كان في مدينة هرار الأثيوبية. وكأنها رواية استشراقية في ملامحها المتداخلة بين الأوروبي والأفريقي. امتلكت خطوط الأثر السردي ببعديه التاريخي والواقعي والمتخيل منه أيضًا، ولكن بودنا الإشارة إلى أن شخصية رامبو منذ عشرينيات القرن الماضي ، فتحت قرائح الساردين ورواة الأثر الشخصي لتناول هذه الشخصية الإشكالية، وليس صعبًا أن نجد العديد من الكتب التي تناولت وجودها الإشكالي في مساراتها الحياتية سردًا وبحثًا ومنها: ( الهيكل العظم لرامبو - جان ميشيل ليكوك - 1920) و (رامبو الآخر - ديفيد لوبيلي - 1920)  و(صيف مع رامبو- سيلفان تيسون- 1921) و( رامبو مشتعلًا- جان ميشيل -1921) و(مراهق اسمه رامبو - صوفي دوديت) و(رامبو العربي - آلان بورير) و(رامبو الابن - بيير ميشون).

مثل هذه المؤلفات الكثيرة، تشفُّ جميعها عن تناول شخصية استثنائية في العالم الشعري. وهو ما جعل ساردًا عربيًا أن يبحث في متاهات هذه الحياة الرامبوية، لأسباب قد تكون جغرافية في الأغلب الأعم، كون الصلة الجغرافية يمكن لها أن تحدد منطقة الكتابة والنظر اليها بشكل مباشر، بعد استكمال وثائق الجغرافية ومصدريات ومرويات كتابية ثقافية تتحدث عن الشاعر ورحلاته التجارية اليها، حتى وصوله إلى هرار كتاجر حبوب وبُن، متلبسًا باللسان العربي والدين الإسلامي، في محاولة الانسجام مع الجو الغريب وتمثله. وهذا بحد ذاته يكون مثيرًا للكتابة، ودافعًا لتعقب الأثر الجمالي في هذا الوجود النفسي المتناقض.. ولكن من أية منطقة بدأ حجي جابر يوجّه عدساته السردية؟

آرثر رامبو



عشاق في مدينة

ليست "رامبو الحبشي" رواية تاريخية، بقدر اهتمامها التاريخي والوجودي بمدينة هرار ذات المناخ الديني والاجتماعي والطقسي في عزلتها الإسلامية التي لا تسمح لغير المسلمين بدخولها، نظرًا لقداستها كما ورد في الرواية، لكن تاريخية الرواية تتم عبر شخصية فردية، تتمثل في معالجة ثيمة عابرة من تاريخ شخصي لشاعر عاش وترحل وسافر وكتب وشذّ ومرض بالسرطان ومات، فترك وراءه غموضًا وتكهنات في مسيرة حياته الإنسانية. وهذا الغموض هو ما شكّل حلقات تخييلية لآخرين من الأدباء والباحثين، وتواردت أنساق كتابية مع الزمن اللاحق، لإضفاء غموض آخر على سيرة ومسيرة هذا الشاعر المختلف عليه. ومنه الغموض العاطفي الذي لفّ حياته على نحوٍ جعل الروائي حجي جابر بأن يتقصى هذه الثيمة، بعد قراءة أحد الكتب المعنية بشخصية رامبو الشاعر.

في لقاء صحافي معه قال جابر: (لم يكن يخطر ببالي وأنا أقرأ كتاب آلان بورير "رامبو في الحبشة" أني سأعثر بين سطوره على فكرة روايتي المقبلة، حتى قابلتني جملة تحكي عن رفيقة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في الحبشة على لسان أحد أصحابه يقول فيها: وكانت لديه حبيبة حبشية أحسن معاملتها. أذكر أني طويت الكتاب ووضعته جانبًا كي أتفرّغ للأسئلة التي تتقافز في رأسي..).

هذه المصدرية - المحفّزة من الداخل كانت المفتاح في البحث عن فكرة الرواية، كونها وصلًا في حلقة هرار كمدينة لا يدخلها غير المسلمين، قبل سقوطها حبشيًا ليدخلها المسيحيون والمبشرون، وبالتالي انفتاحها على ثقافات وافدة وشخصيات باحثة عن التجارة والسفر، ومعاينة الصراعات الدينية والعرقية والسلطوية، لنرى صراع المركز والهامش والهوية العرقية والدينية. غير أن الروائي لم يذهب إلى مثل هذا التشطير بجزئياته الصغيرة جدًا، بل اكتفى بمعاينة المكان الهراري واستخلاص تاريخه وحروبه وسقوطه ونهوضه. لذلك لم يشغله ابتكار شخصيات وأن يستعين بها لتوطيد صلتها بالأحداث، ولم يتمعن في الوجوه الكثيرة التي يمكن أن تطالعه في أسواق هرار الشعبية ، سوى من (ألماز) بائعة القات التي ستتمركز في جوهر الرواية بوصفها العاشقة ذات الخلفية المسيحية والاجتماعية، وجامي الذي سيصبح خادمه فيما بعد، ورامبو الشخصية المركزية التي تلتف حولها الخيوط السردية وتنعقد.

هكذا اقتصدت الرواية بثلاث شخصيات في فضاء محكوم بتاريخيته وجغرافيته وانفتاحه على الماضي. تتحرك فيه بانسيابية مدروسة. راويان فقط يديران موقعة الشاعر في الحبشة. والكثير من اللغة السلسة التي أحاطت بالتواتر العاطفي الذي نسجه السارد وهو يتمعن في تفصيل واحد من حياة الشاعر أثناء إقامته في مدينة هرار الحبشية. وهو التفصيل العاطفي الذي لم يشغله كثيرًا، بينما (ألماز) صبية القات هي التي ظلت عاشقة لرامبو، في حين تحول جامي من عاشق لألماز إلى عاشق لرامبو..!





صوتان بثلاث شخصيات

أدار حجي جابر حكايته عبر صوتين فقط تناوبا في المسرود الروائي، هما الراوي العارف بأسرار اللعبة الحكائية والذي تحكّم بمسارات الأحداث وتوجيهها، وهو ما مكّنه من السيطرة على عدم تفرع الرواية وإضافة أحداث هامشية لها قد تعيق نموها المتصاعد، والصوت الداخلي لصبية القات ألماز - المسيحية التي ورثت الكثير من القيم الاجتماعية والطقوسية والعذرية، بما في ذلك المحافظة على جسدها (.. أنا لا أحب جسدي، علاقتي به منقطعة. علمتني أمي كيف أفعل ذلك.. كيف يجب أن أدفنه.. وكيف أتعامل معه على أنه عبء... عليها وعليّ وعلى القبيلة والبشرية بأسرها... هنالك طريقة واحدة تتعامل معها النساء مع أجسادهن وفق ما علمتني أمي، ألا وهي العنف.. عبر اعتقاله مثل حيوان أرعن.. نحن ننكر أجسادنا حتى لا نعود نشعر بها..) وهذا الخطاب الذي يبدو في ظاهره عصبيًا، لكنه غير ذلك. بل هو متعصب إلى أخلاق قبلية واجتماعية ودينية، لكن قلبها خذلها وهي تتابع جسدًا آخر تحول أمامها إلى شبح في نهاية المطاف. فجسد رامبو ذو الملامح الأوروبية، ليس هو الجسد العاشق. بل هو مزيج من خمرة خارجية ودماغ منفلت ومهاجر وعقل قد لا يكون ناضجًا بما يكفي لأن يكون في موضع الحب والعشق في أسطورة المدينة الهرارية التي تمعّن فيها ودخل أحشاءها من باب التجارة. لكن البُعد التاريخي يلقي بظلاله على هذه الشخصية المسيحية/ ألماز/ التي تمكنت من النجاة من مذبحة قادها القائد الحبشي "مينلك" ليفتح الطريق أمام الأوروبيين والمبشرين، ويحول المكان إلى آخر بسمات جديدة، حينها استطاعت ألماز أن تجتاز أسوار المدينة كمسلمة، وهي تخفي وسم الصليب على جبينها، لتلقي المصادفات أمامها رامبو الأوروبي، الذي يحاول أن يتمثل أهل البلدة بطقوسهم وعاداتهم اليومية، ومنها تخزين القات وتعلم اللغة الأمهرية التي يتداولها سكان المدينة والتظاهر بالإسلام حتى أخذ اسمًا ثانيًا هو (عبد ربه).

ومن هذه المصادفة الطبيعية، تتحول الفتاة ألماز إلى عاشقة من طرف واحد. فرامبو الذي كان يسعى إلى التجارة بمزاج غير شعري / كأن يكون تاجر سلاح/ تغيرت أخلاقياته وهو يهجر الشعر ورومانسيات الكتابة التي كان عليها. وفي التقاطع العاطفي بينه وبين ألماز، يتحول المسار الشخصي لرامبو بافتضاح مِثْليته مع خادمه جامي، الذي حاول أن يستميل ألماز لكن من دون جدوى. وهو ما جعله أن ينضم إلى جيش مينلك، الذي قتل أفراد الحامية المصرية في هرار بمذبحة عظيمة طالت حتى الأهالي العزّل، في الوقت الذي كان فيه رامبو (الشاعر) يبيع السلاح له بثمن أدنى، وصولًا إلى العلاقة الحميمة مع خادمه ذي الشخصية المنشطرة غير الراكزة.

ستكشف ألماز ذاتها وشخصيتها عبر المحافظة على عفتها وجسدها وطهارتها، لترنو إلى رامبو الأوروبي الذي تعلم العربية وأوحى إلى دخوله الإسلام. لكنه لم يماثلها الحب. بل وتجاهلها إلى الحد الذي وجدت ذاتها ضائعة في هذا الحب من طرف واحد. فتكتشف في لحظة صدمة غير متوقعة، العلاقة المِثْلية بين رامبو وخادمه جامي..!

الحكاية بسيطة لكنها عميقة. وشخصيات الرواية قليلة. والفضاء الروائي محكوم بجغرافيته. وتاريخية المكان التي يسترجعها جابر كخلفية لأحداث سياسية ودينية واجتماعية، كانت توثيقًا لمراحل حبشية بين الغزو والحرب والاستنفار النفسي تعين القارئ على فهم أهمية هرار كمركز تجاري بخليطها الديني الذي أثرى وجودها. فبدت الرواية كلوحة استشراقية. لم يكن مركزها رامبو وحسب انما المدينة - كمكان- ولّدت الكثير من الصور وتناسلت منها على نحوٍ يدعو إلى الإعجاب.