Print
عماد الدين موسى

"العشب بين طريقين".. شعر من تأملات

9 يوليه 2021
عروض

 

تذهب الرسَّامة والشاعرة الفلسطينية تغريد عبد العال في ديوانها الثالث "العشب بين طريقين"، الفائز بجائزة الكاتب الشاب لمؤسَّسة عبد المحسن القطَّان، والصادر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع (عمان- 2021)، نحو تقوية العلاقة بينها وبين الطبيعة وأشيائها، فتضعنا في مجمع للرموز والصور والإشارات، وقد ألقت علينا طرودًا كيماوية لتُعاوِدَ الطبيعة حياتها، فلا تموت الحيوات؛ بعكس ما يفعله المستبدون، فتُزهر الأرض، لأنَّها في أشعارها كما يبدو من قراءة دواوينها الثلاثة وخاصة هذا الأخير ضدَّ الولادة المبتسرة للأشياء:

النهارُ يمضي سريعًا

يأخذُ الناس أشياءَهم إلى البيت

ثُمَّ يخرجون منه

شاحبون شاحبين

وأنا أزورُهم كلَّ يوم

لأطلَّ على حزنٍ

يُعيدُ الصبح إلى أوَّله.

الشاعرة تغريد عبد العال هي كمن يشتغل أشعاره على أن الكلمة كانت شعرًا أو نثرًا إنما هي ممتزجة بفكر الإنسان، ومثلما هي قيدٌ عند (العييِّن) الذين يصادرون الحياة بإشادة السجون والمعتقلات هي (حريَّة)، فما ذنب الإنسان حين يولد بلا حول ولا قوة:

صوتٌ تسمعه سيلفيا

بضع أصواتٍ توالت لتعطيني صوتًا آخر،

لا أعرفُ إن كان صوتُ امرأة أو رجل، فقد كان نسيانُ حاسةٍ ما يضيف لي

أشياء أخرى تمرُّ من أمامي دون أن أراها.

هل ترى تلك الجملة الشعرية، التي وضعتها هنا، إنها قطعةٌ من الليل،

صغيرةٌ جدًا، لقد أخبرتني سيلفيا أنها أصبحت عامودية منذُ أن كان الموت

يتسلق الغرفة ويلقي عليها تلك الجملة.

أمُرُّ في اللحظةِ نفسها وأرتطمُ بكل شيء، تخرج امرأة وتعطيني غصنًا يشبه

يدي، يمرُّ هواءٌ بارد ويصدر ذاك الصوت الذي تسمعه سيلفيا..

إنها تتحكَّم بالكلام؛ كلامها. فالكلام، وفي الشعر ولِمَ لا، هو للجدل، للجدال، هو كما تكتب تغريد عبد العال لِنَحفُرَ فيه؛ كما لو إنه إزميلٌ كُلَّ آلام الحياة، وما أكثر الآلام، ولكأن هذه المياه التي تغمر الأرض إنما هي دموع ضحاياها- ضحايا الحياة الذين تمَّ إخراس أصوات الفكر عندهم، بل وتمَّ تصفيدها، فلا نسمع سوى صوت صلصلتها:

الصورُ التي عثرنا عليها في المجاز

واكتشفنا أنها ليست لنا

كلُّها تحاصرنا الآن بالدموع،

هكذا نتأكدُ جميعًا

أنَّ الحزن أيضًا عثرنا عليه يومًا

في تلك الصورة.

لا ماورائيات؛ بل شعر من تأملات، من صور مفتونة بالحياة تُجبر العقل على أن يتساءل، أن يسبر أعماق النفس الروحية، فالإنسان هو من إرادة، وعلى عقله قبلَ قلبه؛ أن يبلور وعيه الفلسفي بالحياة، فالإنسان ليس أداة منفعة، هو روحٌ، هو ذات وليس حشرة حتى لو كان حشرة مفيدة:

على طاولة صغيرة

أضع الأشياء التي قفزت مرة من ذاكرتي

فلا أرى وجهك

لعلَّه جاء من هناك

يوم تخيَّلنا أن الأحداث

لا بدَّ أن تمرَّ بسرعة.

الليل فجأة

يصير شخصاَ آخر

كذلك

الطريق

تُغيِّر الممرات مرآتها

وتبقى صورتها التي نسيناها

واقفة

تتفرَّج.



يجب الارتقاء بوعينا فلا نتصرَّف بسذاجة، لا أحد يخدعنا، ولا يفرض نفسه قسرًا علينا، ولا أحد يضع الأغلال في أيدينا ويبعثنا إلى الشهادة، فالشعر حتى لا نخاف الحياة مهما دقَّ القاتل مسامير العذاب في أيادينا؛ فـ (الله) لا يُعرف بالعذاب، إنه يُعرف أيضًا بالفرح والمحبة، فأكثر البشر تألمًا هو أكثرهم معرفة. الشاعرة تغريد عبد العال قد نتألم لسقوط أوراق الشجر عن أغصانها، وهذا ما يثير الحزن، ولكن لا يمكن أن نصدق بأن هذه الأوراق وثبتْ أو سَتثِبُ عائدة إلى الغصن:

الألم

لم تعرفه العيون

حتى الفرح ظنَّه حيوانًا أليفًا

سيذهب إلى الخيط المتدلي من الليل

ويلعب به قليلًا

أو يخرج من الخزانة

ويعبث بأغراضك

لكنه عندما أتى

لم تتعرَّف عليه جيدًا

كنت مشغولًا بالقفز

مثل حيوان أليف.

على القماشة الصغيرة التي أحاكتها نظراتك

كان الألم أيضًا يلون خيوطها،

الآن وأنت تمسكينها

ماذا ترين

سوى بيت الفراشة التي لم تعد هنا.

الشعر ليس سائلًا كلاميًا وإن ذهبت تغريد عبد العال في بعض قصائد ديوانها "العشب بين طريقين" إلى تجاوز الواقع في رسم صورة سريالية، صورٍ من حس ورغبة نحو الحرية؛ صور وإن بدت غير عقلانية، ولكنها لتغني حساسيتنا، لتُعمق وعينا فلا نصمت، وإن كان الصمت مرادفًا للسكوت، صمت متحيِّز، صمت لا يجيب على نداءاتنا، صمت يعطل فعل الحوار، أو يعيدنا إلى الطفولة أو إلى هجير الجنون، فاستعادةٌ وتجاوز ونقض، فالشعر ككل الفنون دوره نظري – فكري، ذلك لننفعل:

الحديقة التي وضعت فيها الزهور، ما زالت في مكانها، كان الآخرون

يساعدونني في وضعها بالشكل الملائم لطقس الغرفة. مرة استيقظت

متأخرة، اختلط حلمي بالطقس وبالدخان الذي تصاعد من الحرب، فلم أعد

أميّز أين وضعت القطة الصغيرة الهاربة أطفالها وهل أكلت حقًا الزّهور؟

يقفزون من الثقوب ويأتون لنا بالكتب والأوراق والبذور التي تنتشر في

التراب ويخرج العالم على شكل أشجار، لن أجدهم في اللوحات، ولا في

هدايا العشاق.

ننفعل؛ ننفعل انفعالًا بأمل ساخر، بأملٍ لا يختفي، وكأننا نتعرض لصدمات كهربائية، فما نعيشه من اغتراب ليس من هلوسات ولا أحلام، لأنه لا ثمن للإنسان ما دام يفكِّر.