Print
علاء الدين العالم

"أسود".. سيرة خياط سوري شاب قتلوا نفسه

1 سبتمبر 2021
عروض



حينما ينظر السوريون إلى السنوات القصيرة قبل الانفجار، تبدو كما لو أنها تبعد قرنًا لا عقدًا وحسب. كيف كانت تبدو الحياة حينها؟ وما هو شكل المدن السورية الكبرى كدمشق واللاذقية؟ وبأي هيئة كانت حال سكانها، بناتها وشبابها، عمالها وشغيلتها؟ ما الذي كان يجري في المِرجَل السوري الكبير قبل أن ينفجر؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما يستدعيها السرد الروائي في رواية "أسود" للكاتب والمسرحي السوري وسيم الشرقي، والصادرة حديثا عن دار ممدوح عدوان للطباعة والنشر، وبدعم من مؤسسة اتجاهات ــ ثقافة مستقلة.

يبتعد الشرقي في روايته عن صورة البطل الثوري. وينأى بنصه عن منابع السرد السوري المعاصرة، حيث مقولات الثورة واللجوء والحرب الكبرى. يأخذ بيد أحمد الأسود، بطل روايته، إلى أروقة دمشق وعشوائياتها. ويعيده بالزمن إلى سنوات قبل انطلاق الثورة السورية ومآلاتها. يأخذه إلى دمشق حيث "كل شيء يبدو هادئًا ونظيفًا من السطح الخارجي، والخراء كله يظهر بعد الحفر بضعة سنتمترات تحت القشرة الخارجية لأي بنية ثابتة فيها، عندها ستكشف المفاجآت الممكنة كلها".

أسود وأبيض.. تلك هي الحياة

"الحياة رحلة مستمرة لفهم أنه لا يوجد أسود، أو أبيض. الحياة هي تلك المساحة الرمادية اللزجة وغير المنتهية بين الألم والسعادة، التي نسبح فيها حتى نستهلك أجسادنا، أو نقرر نحن أن نستهلكها، كانت هي تلك القناعة الوحيدة التي توصلت إليها بعد رحلتي القصيرة التي سأروي لكم ما قد يهمكم من تفاصليها"- هكذا يفتتح أحمد أسود، بطل الرواية، الحديث عن نفسه، عن خلاصته من الحياة، وتجربته ــ القصيرة كما يؤكد ــ فيها. أحمد هو ابن لأب مسلم من القلمون وأم مسيحية من صيدنايا، تيتم مذ كان في سنواته العشر. عاش مع أمه في بيت صغير في حي دويلعة، وحيدين ومقاطَعين من العائلتين اللتين لم تتقبلا الزواج. كانت تعمل الأم معلمة في مدرسة ابتدائية صباحًا، وعاملة خياطة في البيت مساءً "أما أبي، فكان قد مات، وتوجب عليّ أن أعيش مع تلك المعضلة منذ تلك اللحظة المبكرة في حياتي".

بين ذكرى أب قُتل بطريقة عبثية بيد الجمارك، وأم عاملة، عاش أحمد حياته، وحمل أحلام أمه في الدراسة التي فشل في إكمالها. اتجه إلى العمل في الخياطة، مهنة أمه التي كان قد تعلمها منها مثلما تعلم اللغة الإنكليزية التي يتحدثها بطلاقة. سيعمل هذان العنصران (الخياطة واللغة الإنكليزية) في تحويل مسارات حياة هذا الشاب الدمشقي الصغير. سيعمل في معمل للخياطة في الزبلطاني بدمشق "هناك حيث المباني التي تتراص فيها معامل الألبسة والأقمشة كأقفاص الدجاج في المداجن، وكثيرًا ما تخيلتُ أنه داخل كل واحد من هذه المعامل المزدحمة عالم متفرد من العلاقات المالية والجنسية التي لا يمكن سبر أغوارها". من جهة أخرى، ستساعده لغته الإنكليزية في التعرف على "فرات"، العراقية الأميركية التي تعمل في دمشق على بحث إقليمي عن اللاجئين العراقيين في سورية، وذلك ما سيفتح أمام أسود أبواب مجتمع دمشقي شبابي مختلف عن الذي خبره، وقصة حب ستحفر عميقا في ذاته الهشة.

الفضاء الآخر الذي يجذب أحمد على امتداد الرواية، هو نادي كمال الأجسام، هناك حيث تصنع الأجساد، وتبنى العضلات والثقة بالنفس جنبا إلى جنب. 






نساء أسود

تلعب النساء في حياة أسود دورًا محوريًا. يدفعه الثالوث النسائي (الأم، الحبيبة، الصديقة) إلى تحولات جذرية في مسيرته. هو الابن الوحيد لأمه الأرملة، وهذا وحده كافٍ لوصف مدى ارتباط الأم بابنها. مساءات يومية تجمعهما بعد عودة الابن من العمل، وأحاديث مكرورة وتفاصيل معادة. سيخلخل هذه العلاقة دخول أحمد إلى النادي، وانشغاله بجسده، لكن لن يغيرها شيء بقدر ما ستفعل علاقة الابن العاطفية؛ العلاقة مع نسرين، تلك الفتاة التي التقاها أحمد في بيت من بيوت الشام القديمة، حيث سكن الطلاب والأجانب الوافدون في ذلك الوقت من نهاية العقد الأول من الألفية الثانية "كان الشارع من باب توما إلى باب شرقي مزدحمًا بشتى أنواع البشر: موظفين خارجين من دوامهم بوجوه خالية من الملامح، وطلاب جامعة يملؤون الشارع هرمونات، ونكات يتلوها الشباب بصوت مرتفع، لتضحك عليها الفتيات بنوع من الهيجان، وطلاب أجانب من مستأجري الغرف في المدينة القديمة، وسكان عاديين لا يعجبهم أي شيء، وبالطبع وحوش كاسرة مثل أبي محمد".

تبدو لوهلة علاقة أحمد بنسرين غير محتملة. هو عامل خياطة محاط بعالم يومي يطغى عليه الذكور، وهي فتاة متحررة، تدرس هندسة العمارة، وتسكن وحيدة في دمشق وتسعى للسفر إلى نيويورك. ربما كان ذلك السبب في أنهما لم يستلطفا بعضهما في لقائهما الأول في بيت فرات الدمشقي، بيد أن الأمور ذهبت عكس ذلك فيما بعد. أغرمت نسرين بالجسد الرياضي لأحمد، واندفاعه على الحياة. أما أحمد فأحب فيها "ذلك البرود العقلاني الذي رافقها طوال رحلة حياتها الصعبة كفتاة طموحة في بحر الخراء الذكوري السوري، كما كانت تسميه". 

لم تكن نسرين الفتاة الأولى في حياة أسود، سبقها "أميرة" الفتاة التي شاركته العمل في معمل الخياطة لسنوات. تأتي وعمتها، وتبقى تحت أنظارها في كل حركة لها. رغم ذلك، اختلس أحمد وإياها أولى قبله، تلك القبل الطفولية التي تُؤخد على عجل، قُبَل ستمحوها ليالي أحمد ونسرين الجامحة. ستغيب أميرة لوهلة، وتُهمَل كتفصيل روائي منسي، لكنها ستعود إلى الواجهة بعد أن يتحرش فيها أبو محمد صاحب المعمل. تروي القصة لأحمد باكية، بينما هو خاوٍ وغير قادر على التفكير. فجأة يجد نفسه أعجز من الفتاتين، أميرة ونسرين "أما أنا، فلم أكن أعاني من ضغوطات كثيرة، ولم تكن عواقب نزواتي بالعنف نفسه الذي من الممكن أن تتعرضا له، ومع ذلك كنت مسترخيًا في سرير سلبيتي الذي لم أكن لأنهض منه ربما لولا مبادرة الفتاتين".

سلسلة القتل والغياب

في لحظة واحدة، رفة عين، ستموت الأم، تسافر الحبيبة، وتدفعه الصديقة إلى القتل. وعلى شاكلة أبطال المسرح اليونانيين، سيلقى أحمد مصيره المحتوم وقدره المكتوب. ستتفجر هذه الحكايا الأفقية دفعة واحدة، وينتقل السرد إلى مستوى آخر بعد الفعل الرئيسي في النص، وهو قتل أحمد لمعلمه الدمشقي المتحرش. لا يتفلسف النص في طرح التحرش، كما حال كثير من النصوص النثرية اليوم، هو يقدمه كحدث يومي تافه، يجري بشكل اعتيادي من قبل وحوش العمل الحرفي في سورية. حادثة تحرش صاحب ورشة بفتاة لديه، يعكس فيه النص قذارة فعل كهذا وآثاره القاتلة، ليس مجازًا، لا بل حقيقة. يقتل أحمد أبو محمد جراء التحرش؛ تلك هي نتيجة التحرش وعقابه.

رغم أنه لم يكن جامعيًا، إلا أن أسود كان يقرأ الأدب بين الفينة والأخرى، بدعم دائم من الأم، لذلك كان من المتوقع أن تقع بيده رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي في يوم دمشقي ممل ومضجر. ستفعل قراءة الرواية فعل المحرك الجذري في حياة أسود، سيتماهى مع بطلها "راسكولينكوف" وستودي به إلى الفعل الإنساني الأشد قسوة: "القتل". مثلما قتل راسكولينكوف المرابية العجوز وشقيقتها الشابة بعدما مر بتلك الرحلة النفسية الغريبة، ذهب أحمد تجاه القتل أكثر وأكثر. تلاشت ردة فعله السلبية على ما حصل مع أميرة وحادثة التحرش، وحل محلها قرار عقاب أبو محمد، وسكن هذا الهاجس قعر نفس أسود وتغلغل بها. ذاب داخل الرواية. استذكر تاريخ أبو محمد القذر مع شغيلة معمله، ابتزازه لهم وسلب مجهودهم. خططَ لتبدو عملية القتل وكأنها عملية سطو. وضعَ خريطة الجريمة، وقررَ العقاب. توجه إلى كراج السيدة زينب "حيث يوجد أكبر معرض شرعي للسلاح الأبيض في دمشق كلها". اشترى أداته القاتلة، سكين بسيطة لكنها حادة وقادرة على القتل وليس التشطيب، "ففي عراك دمشق كان جرح الخصم والتعليم عليه كافيًا لإعلان الانتصار، من دون غرز السكين عميقا في جسده، وبالتالي الدخول في حسابات السجن الطويل".

"ترددت رعشة في داخلي، كأنني استوعبت حالًا قتلي لأبي محمد قبل ساعات قليلة". ذلك ما فكر فيه أسود وهو في وادي قنديل ليلة الجريمة. فعل فعلته، مثلما خطط لها، وذهب مع نسرين إلى وادي قنديل بعد أقل من ساعة على فعلته، وتلك كانت حجته الدامغة التي ستجعل من جريمته جريمة كاملة. لكنه لم يكن يعلم، أن القتل الحقيقي، قتل أحمد ذاته، سيجري حينما تخبره نسرين بسفرها إلى نيويورك، معلنة بذلك نهاية لهذه المغامرة العاطفية العامرة التي عاشها، ولتجعل من تلك الدقائق "التي قضيناها فجرًا بجوار البحر على أنها أكثر لحظات حياتي حزنا وجمالا".




الانتحار زائرًا

منذ البداية، وعلى موازاة من سرد أسود لحياته، يمرر الشرقي فصولًا يعنونها بـ"الزيارات"، وهي مشاهد من حياة أسود في تركيا بعد نهاية قصصه في دمشق. عزلة مهولة تحيط بحياة الشاب السوري الذي كان مفعمًا بالحب والشغف في دمشق، وغدا خاملًا مع قطته في قبو معتم في إسطنبول. وزائرٌ يتردد عليه في حمى وحدته وكوابيسها "كان باختصار نسخة عني، ولكن أكثر إثارة". في إحدى تلك الزيارات، يقتل الزائر أحمد بنفس الطريقة التي قتل فيها الأخير صاحب المشغل. وكأن هناك سلسلة للقتل تبنيها الرواية، تبدأ السلسلة براسكولينكوف وقتله الروائي، وتنتقل لقتل الزائر لأحمد، وتنتهي عند قتل أبو محمد على يد أحمد. لتدع القارئ يطرح سؤاله الكبير، هل حدث القتل فعلًا؟ أم أنه حدث في ذهن أحمد وحسب؟ أو ربما، السرد كله لم يحصل، إنما هو خيال أحمد ومخياله الأسود، مثل محيطه القاتم.

بعد القتل المفاجئ والتحول الذي يصيب الشخصية يبدأ السرد بالنضوج والتسارع والخروج من الرتابة التي كاد أن يدخل فيها، يفعل القتل فعلته في دراما النص، تتدفق الأهوال في حياة أحمد تباعاَ "كنت قد فهمت منذ الطفولة، الدرس البسيط الذي يقول: إن المصائب لا تأتي فرادى، لكن لم يقل لي أحد، أنها قد تأتي خلال ليلة واحدة تمتد إلى ما لا نهاية". يقسو الشرقي على بطل روايته، يضعه في ظروف صعبة جدًا، ينقله بين عزاء أبي محمد (المقتول على يده) وبين عزاء والدته التي تهاوت حالتها الصحية بسرعة وتوفت. "في أيام العزاء، وبينما أنا محاط بجموع المعزين، كنت أتوقع ظهور أمي في أي لحظة لتخبرني كيف يجب أن أتعامل مع هؤلاء كلهم، من كان منهم قاسيًا معها؟ من كان حنونًا؟ ومن كان يتواصل معها بالسر بعد أن قاطعتها العائلة؟. من ضفة أخرى، تلك الضفة التي يطل منها على نسرين، كان أحمد يتعرض لطحن على يد فتاة سورية ثائرة ومتمردة، لم تتركه نسرين وحسب، بل أرادت قطع كل شيء معه، أرادت تحويله لتجربة مرت فيها ترويها على الضفاف الغربية للأطلسي، وبقيت أنا هنا شاهدًا على قصة حبها مع عامل خياطة حالم، لا بأس من قصها على غرباء قد تصادفهم في بارات نيويورك بعد نهارات عمل طويلة ومجهدة". هنا، في هذه المقابلة، بين أحمد ونسرين، يضع النص مصنع الذكورة أمام الخطاب النسوي وجهًا لوجه "اعتادت نسرين وصفه بـ (وكر الذكور قليلي الثقة) مع أنها كانت تتمتع كل ليلة بأداء جسدي المصنوع في وكر الذكورة ذاك، لم يكن رأي نسرين مهمًا بعد اليوم على كل حال، فالرجال عديمو الثقة في النادي كانوا قد ساعدوني على ترميم ثقتي المسحوقة، وعلى تضميد جرح وفاة أمي الطري".


"لذلك آمنت أنه لا بد من الانتقال إلى المرحلة الأخرى، أو إلى البداية الجديدة في دورة الإعادة تلك، ولم يكن فضولًا نحو البداية الجديدة بقدر ما كان سأمًا باردًا ورتيبًا من دورات البدايات التي كنت قد خلفتها ورائي". بهذه الكلمات يحزم أسود حقائب عمره. سيخرج من سورية بعد كل تلك المصائب. يبحث عن عمل جديد في مشغل الخياطة الأكبر في العالم "إسطنبول". لن ينجيه جمال المدينة وسحرها. ولم تقدر حركة الحياة السريعة فيها من إيقاف سلسلة القتل والموت التي اعتملت في صدر أحمد. لن يزيده منظر جسر البوسفور الهائل إلا رغبةً في الانطلاق، وشهوة للسقوط. لا يمنعه شيء من إعلان مانفيستو انتحاره: "قد كانت الحياة جميلة فعلًا، لكنني لم أكن قادرًا على الاستمرار".

لا يأتي قرار انتحار الشخصية فجأة، هو يمر بحالات هلوسة عالية، يضغطه الراوي حتى يقتل نفسه قبل أن ينتحر، يقتل نفسه من الداخل، تلك النفس التي قتلتها دمشق وخنقتها قبل أن تجهز عليها إسطنبول وأزقتها السرمدية. يصل أسود إلى "سطح البوسفور الناعم" وهو مترع بالاضطراب النفسي، الفصام أخذ منه ما أخذ، فالزائر هو نفسه، ولا شيء آخر. ومثلما خطط لقتل الآخر، خطط لقتله. وصل إلى حافة الجسر الذي يربط شقي المدينة، الآسيوي والأوروبي، وقف في المنتصف، بين القارتين، وأمام مشهد الماء الجليل. يرى البوسفور بدون حواجز، ويختار لانتحاره مشهدًا مهيبًا، يفلت يديه، ويسقط بسرعة هائلة نحو السطح الأملس، "وقتها بالذات شعرت كم كنت في حاجة إلى تلك اللحظة الخالدة، والتي يبدو أنني عشت ما عشت حتى الآن كله، فقط لأفهم معناها وقيمتها، لحظة الصمت النهائية تلك".

"بعد أشهر قليلة من وصولي إلى إسطنبول، اندلعت المظاهرات في سورية التي تركتها ورائي، الأمر الذي فتح أبواب جهنم على المتظاهرين وأغرقهم في نهر من الموت والعذاب غير النهائي"- تلك هي الكلمات الوحيدة التي يذكرها أسود عن الثورة السورية، هو ليس ابنها، لم يعاصرها ولم يكن ــ حال معظم الشباب السوري ــ وقودها وفحمها. جعل الشرقي من بطله ابن سورية (الهانئة) قبل أي شيء. سرد حكايته في مسربين، الأول روي لماضي أسود، واقعي ومتسلسل. والثاني تمثيل للزيارات الخيالية التي يحياها في قبوه المعتم في إسطنبول. يغلب السرد على القسم الأول، بينما يمتاز الثاني ببنيته الدرامية وحواراته الثنائية التي تجعل منه مسرحية داخل رواية. وفي الحالتين، في الخيال والواقع، في السرد والحوار، كانت حياة أحمد هي ذاتها، سيرة حياة خياط سوري عادي، قفزَ من جسر البوسفور.