Print
صدام الزيدي

"رسائل أحمد بن علوان" بالإنكليزية.. "طريق السالكين"

13 سبتمبر 2021
عروض


يقدم كتاب ترجمي، هو الأول من نوعه، صدر حديثًا عن "دجلة للنشر" في عمّان، خدمة للدارسين من الناطقين بغير اللغة العربية، يتعرفون بين دفتيه، على أهم رسائل إمام الصوفية في عصر الدولة الرسولية في اليمن، الشيخ أحمد بن علوان، مترجمة إلى الإنكليزية، جمعها وترجمها الباحث والمترجم اليمني المقيم في الولايات المتحدة، محمد علي عزيز، الذي يعمل أستاذًا في قسم اللغات والدراسات الشرقية في جامعة ييل الأميركية.
في 241 صفحة، يحتوي الكتاب الذي حمل عنوان "رسائل الشيخ أحمد بن علوان" على ترجمة إلى اللغة الإنكليزيّة لرسائل العارف بالله، بن علوان، وهي: رسالة المهرجان؛ رسالة البحر المُشِكل الغريب؛ رسالة الكبريت الأحمر؛ وقد حصل المترجم على موافقة من مواطنه اليمني، عبد العزيز سلطان المنصوب، محقق هذه الرسائل، والتي طُبعت في دار الفكر، في وقت سابق، غير أن المترجم، أضاف إليها رسالة لم تُنشَر بالعربية بعد، عثر عليها في أواخر كتاب "التوحيد الأعظم" المخطوط، لابن علوان، وهي: رسالة "الأجوبة اللائقة على الأسئلة الفائقة".
يستفيد من ترجمة رسائل بن علوان دارسو اللغة الإنكليزية، كما أن المرء قد يستفيد من إعادة نشر الرسائل، بالعربي. وهذا هو ما دفع المترجم عزيز لإنجاز هذه الترجمة، التي يستهلها بمُقدِّمة باللغة الإنكليزية، تُعرِّف الناطقين بغير اللغة العربية، على تراث الشيخ أحمد بن علوان، كما ألحق بالكتاب قائمة مراجع وفهرس باللغة الإنكليزية، وسعى لأن تكون الترجمة بشكل متوازٍ، حتى لا يصعب على الدارس البحث والتنقيب، إذ أن كل صفحة بالإنكليزية يقابلها نفس الصفحة باللغة العربية، ابتداء من الصفحة 41، فصاعدًا، لأن ما قبل ذلك كان عبارة عن مقدّمة. والكتاب موجه لقراء العربية، أيضًا، عدا عن أن ترتيب صفحاته من اليسار إلى اليمين، لضرورة فنية، تتماشى مع اتجاه اللغة الإنكليزية.




يبدأ المترجم، برسالة "الأجوبة اللائقة على الأسئلة الفائقة"، وهي رسالة يجيب فيها بن علوان على أسئلة وجهها إليه الشيخ والمفتي شرف الدين حسن العجمي، حول كيفية "سلوك الطريق إلى الله"، وهنا، يجيب بن علوان، مستطردًا في سرد متطلبات هذا الطريق، ناصحًا بالتوسع في مملكة الله تعالى، وتعظيم قدرته، وهذا لن يتحقق للفرد المسلم، إلا بعد اجتيازه لعتبات عدة، وصولًا إلى "معرفة النفس المختصرة من العالم الكبير، التي من عرفها، عرف الله". وتتضمن الأسئلة أيضًا، السؤال حول: السبيل، الذي إذا سلكها السائر إلى الله تعالى، خرج من "دائرة الكثرة" إلى "دائرة الوحدة"؟ ومعنى "الحضور"؟ وكيفية تلقّي سر التوحيد من الحضرة؟ ورجوع الواصل بالله إلى هذا العالم؟ وهنا، يفيد بن علوان أن المعرفة تنقسم على ثلاثة معارف: معرفة الذات؛ معرفة الصفات؛ معرفة الأفعال. غير أنه بتلميح، واستشهاد بأبيات من الشعر العربي، يفضي إلى القول إنه "ما عرف الله على الحقيقة إلا الله".
وبين التوضيح والتلميح والترهيب والتحبيب، تتواصل رسائل بن علوان، تتخللها أبيات شعرية من التراث العربي، كأن يقول في رسالته إلى السائل الشيخ العجمي: (فيا عجبًا كيف يُعصى الإله/ أم كيف يجحده الجاحدُ؟/ وفي كل شيءٍ له آية/ تدلّ على أنه الواحدُ)، متبعًا البيتين بتأكيد أنه، ليس في الوجود إلا الله وأفعاله؛ وأفعال الله مقدوراته، ولا تتناهى معلوماته: "قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا" (الكهف 109).
وهكذا، يذيب بن علوان قلب قارئه، بتوليفة من الرؤى المؤثثة بعبارات وامضة وأخرى دامغة، يتخللها الشعر من ناحية، والنص القرآني من ناحية أخرى، غير أن استشهاده بآيات من القرآن، غلب على إتيانه بقطوف من الشعر العربي، وكلها استشهادات تعزز ما يقوله، وتضفي طابعًا يقرِّب الكلام ويوصل النصح والإرشاد، بخفة، مستندًا على مخزون قرائي ـ بحثي ـ معرفيّ، ومغترفًا من بحر نوراني غزير.



إيمانٌ/ عِلمٌ/ كشفٌ

الدكتور محمد علي عزيز وكتابه "رسائل الشيخ أحمد بن علوان" 


أما "معرفة الله" حق المعرفة، فهي، بحسب بن علوان، تتأتى في ثلاثة مقامات: مقام الإيمان؛ مقام العلم؛ مقام الكشف، فالأول، يندرج ضمن باب علم اليقين لعامة المؤمنين (وهو واجب على الخاص والعام)، وصاحبه ثلث عارف. أما الثاني، فمقام العلم للعلماء، وبابه عين اليقين (وهو مقام الخصوص)، وصاحبه ثلثا عارف. والثالث، هو كمال المعرفة، وهو من باب حق اليقين (وهو مقام خصوص الخصوص)، وصاحبه عارف كامل.




والمقام الأول (الإيمان) يشدد بن علوان على أنه وإن كان "مقام عامّة المؤمنين"، إلا أنه "أساس مقام السائرين" إلى قرب رب العالمين، فإن "صحّ"، صحّ ما بعده، ذلك أنه: (إذا كان البناء على فسادٍ/ فإنّ الجُرح ينكث بعد حين). وثمة مقام العِلم، وهنا، يحثّ بن علوان على النظر في الصفات الإلهية ومشاهدة أنوار معانيها وتجليها في الوجود، لكي تتحقق معرفة علمية بـ"جمال كمال جلال حميد الصفات الربانية"، وفقًا لتعبيره.
في العموم، يحثّ بن علوان، سائله، على التجافي عن دار الغرور، والتأدب بآداب الكتاب والسنة في الحركات والسكنات، وترك الهوى، ومجانبة التحكم بالرأي في دين الله، وتطهير القلب وتزيينه بالأخلاق المحمودة وتصقيله بالمجاهدة وتنويره بالذكر في الخلوات وكبح شهوات النفس والخواطر الشيطانية.
ومتحدثًا عن المقام الثالث (مقام الكشف)، ينوه بن علوان، بدءا، أنه "غير واجب على أحد"، بل هو "من موارث الصدق والمجاهدة بقدر القسمة الأزليّة". وفي السياق، يستدرك بالقول إن المجاهدة ليست شرطًا في تحصيل هذا المقام، ذلك لأنه يحصل بسبب، وبغير سبب، كالرزق، يحصل بطلب، وبغير طلب. وبحديثه عن "الكشف"، يوضح بن علوان، أن ما يعنيه تحديدًا، هو: "ما يكشفه الله تعالى، لأنبيائه، وأوليائه"، من أسرار معرفته "بلا واسطة"، أي: مما لا يدخل تحت الكيف، ولا يمكن للعقل تحصيله، وهنا يستشهد بالآية 65 من سورة الكهف: "وعلّمناهُ من لدُنّا عِلما". وصاحب هذا المقام، هو عارف بالله، قد استغرقته هيبة الجلال، واختطفته أنوار الجمال. على أن مقام (الكشف) هو أعلى مقامات أهل المعرفة.



تواضع..
يلحظ القارئ، بينما يتنقل بين مضامين رسائل بن علوان، أن الرجل على درجة عالية من التواضع، إذ يكتب إلى السائل "العجمي"، في سياق الرسالة المعنونة بـ"الأجوبة اللائقة على الأسئلة الفائقة" بلغة شديدة التواضع: إن كان سؤالك عن الكيفية (في حصول العلم بالمعرفة)، على شرط المباحث المنطقيّة، والمراسم الجدليّة، فذلك يفتح بابًا عظيمًا من أبواب علم الكلام، "ولسنا من علم المتكلمين في شيء، ولا نحن بالمعرفة أجبناك.




وغير بعيد، يجد القارئ، الإلغاز والترميز، في حديث بن علوان، في معظم أنحاء رسائله المترجمة هنا، إذ يستخدم لغة الرموز، والإشارات والتلميح، وتجده يكرر، بين رسالة وأخرى، عبارات تلميحية، وأخرى تصريحية، لكنها مقتضبة جدًا، وهنا يتجلى للقارئ، كيف أن متصوفًا كبيرًا، اغترف على نحو واسع، من بحر المعرفة، فصار يتحدث، بلغة واثقة لا يكتبها إلا العارف بالله، لا السائر إلى الله... فحين يُلمِّح، يكتفي بالقول: "فافهم"؛ "فاسلك"،... إلخ. أما حين يُوضِّح، فهو لا يسرد كلامه بدرجة وضوح كاملة، إذ ينطلق من موقع مختلف، ومن مستوى أكثر تقدمًا، ففي التوضيح اقتضاب وإيجاز، ولا تستبعد أن يأتيك ببيت أو أكثر من المكتبة الشعرية العربية، في الزمن ذاك، وهنا تبرز ثقافة بن علوان، كقارئ للتراث الأدبي ومتذوق له.
وفي المجمل، تجد أن لغة بن علوان حذرة، لامعة كحدّ سيف، ومرعبة، أيضًا، في سياق نصها التحذيري، إذ أن السبيل لمعرفة الله ليس طريقًا سهلًا، أو هكذا، أراد بن علوان، أن يقول في كل رسائله، التي تضمنها كتاب الدكتور عزيز الترجميّ، في تراث أهم وأكبر متصوفة اليمن.



لغة "مقامات"...
ولا تخلو الرسائل من شاعرية (فهو شاعر وله ديوان يعرف بديوان بن علوان) ومن بلاغة، مستخدمًا تقنية اللعب على المفارقات، وصناعة الإيقاع في المضمون، وهو أقرب إلى إيقاع "المقامات" كما نقرأها في تراثنا العربيّ: فعن الله فاعقل، ولا تستبعد الطريق ولا تستعجل. فمن استبعد الطريق، قصّرَ، ومَن استعجل، قطع ولم يظفر. فتأنّى واسلك قصدًا، واتّبِع سبيل من اقتدى؛ فما هي إلا إحدى الحُسنينِ: أن تسلك على الشرط تصل، أو يأتيك الموت وأنت في الطريقِ، فتُبعث وأنتَ واصِلا.
اتخذ بن علوان طريق التصوف، إذ لزم الخلوة والعبادة، سالكًا في وعظه طريقة ابن الجوزيّ حتى لُقِّب بـ"جوزيّ" اليمن. في منتصف شهر ربيع الأول من كل عام، (ما بات يعرف بـيوم الجمع المبارك)، تقام زيارات سنوية إلى ضريحه، الذي يحتل مكانة مقدسة، ومكانه في منطقة "يفرس"، محافظة تعز، حيث تقام الطقوس الصوفيّة، تخليدًا لاسمه.




أصدر مركز الدراسات والبحوث اليمني، في سنوات سابقة، أهم كتب بن علوان، في التصـوف والسلوك والمعرفة والعقـيدة، ومن بينها ديوان شعري. ووفقًا لكثير من المؤرخين اليمنيين: هو من سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب. وكان والده، علوان بن عطاف، من الكتاب المشهورين في اليمن، في نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الهجريين. توفي سنة 665 هـ، في قرية يفرس ـ تعز، وثمة هناك جامع يعرف بـ"جامع أحمد بن علوان"، لكن أحدًا من المؤرخين لم يذكر تاريخًا محددًا لعام ولادته.

المترجم محمد علي عزيز: من مواليد مدينة إب (وسط اليمن)، حيث أكمل تعليمه الأساسي والثانوي، هناك. بعد أداء الخدمة الإلزامية، سافر إلى المملكة المتحدة لتعلّم اللغة الإنكليزية، وبعد سنة، التحق بجامعة صنعاء لينال درجة البكالوريوس من قسم اللغة الإنكليزية، وفي أثناء ذلك، اشتغل في الترجمة، قبل أن ينتقل إلى حقل التدريس في مجال اللغة الإنكليزية في المدارس الإعدادية والثانوية في مسقط رأسه. بعد ثماني سنوات من التدريس، حصل على منحة دراسية إلى ولاية ميشيغان في أميركا، فأكمل الماجستير في دراسات الشرق الأوسط، ونال بعدها، الدكتوراة، في دراسات الشرق الأدنى، متناولًا في أطروحته للدكتوراة، "تراث الشيخ أحمد بن علوان رحمه الله". بعد ذلك، عمل في تدريس اللغة العربية في جامعتي ميشيغان وبرنستون. يعمل حاليًا في جامعة ييل، حيث يُدرّس اللغة العربية والأدب، للناطقين بغيرها.
صدر له: "الدين والتصوف في بداية الإسلام: التصوف وعلم الكلام في اليمن"، باللغة الإنكليزية، 2011؛ "القارئ في الأدب العربي للمتقدّمين من الناطقين بغير اللغة العربية"، بالاشتراك مع د. جوناس البوستي، 2016؛ "ملامح التصوف الإسلامي في أدب نجيب محفوظ"، 2019؛ "ملامح الثقافة اليمنيّة في أمثال مدينة إب اليمنيّة"، 2020؛ "رسائل الشيخ أحمد بن علوان (ترجمة وتقديم باللغة الإنكليزيّة)، 2021.