Print
محمود الريماوي

"بقعة عمياء".. رواية اضطراب الطبقة الوسطى وانحدارها

14 سبتمبر 2021
عروض

 

 

قد يتوجس القارئ لدى مصادفته رواية سميحة خريس "بقعة عمياء" من المحمول الشعري للعنوان، ومن إمكانية انزلاق السرد إلى الغواية النصية، غير أن العبور إلى المتن الروائي سرعان ما يبدّد هذا التوجس، فالكاتبة الأردنية تنسج عالمًا نثريًا على جانب من التماسك وحتى الصلابة، وذلك برسم عالم واقعي قوامه حياة أسرة أردنية تقيم في إحدى المناطق الراقية في قلب العاصمة عمّان وهي منطقة الشميساني من غير أن تنتسب هذه الأسرة إلى عالم الموسرين، إذ تنتمي لطبقة وسطى تعتاش من راتب شهري متوسط للزوجة، موظفة البنك وللزوج، الموظف في مكتبة عامة، وتقيم في بيت بالإيجار. وقد اختارا الإقامة هناك لكون مقر عمل كل من الزوجة والزوج في هذه المنطقة بما يمكنهما من الذهاب إلى الوظيفة مشيًا على الأقدام، وبما يخفف عنهما عبء اقتناء سيارة خاصة، في مدينة قلما تتوافر على وسائل النقل العامة؛ فيما ينتمي مالك المبنى بدوره إلى هذه الطبقة من خلال امتلاكه لتجارة متوسطة.

ترصد الرواية انحدار هذه الأسرة على خلفية انكشاف التنافر بين الزوجين، فالزوج يشكو من مركبات نفسية تدفعه نحو كراهية الآخرين والسعي إلى التسلق الاجتماعي عبر الإيقاع بمن يعرفهم ومن يجهلهم بكتابة تقارير أمنية ضدهم. ولا تلبث الزوجة أن تعرف ذلك وتلمس أن حياتهما المشتركة قد أخذت تفتقد المعنى شيئًا فشيئًا، علاوة على غياب الحميمية وهو ما يوقعها في أزمة نفسية من غير أن تفكر لا هي ولا هو في الانفصال، بعد أن أخذت العائلة تكبر بإنجاب بنتين وصبي. وإحدى البنتين نور تولد بمشاكل في عينيها ليتبين بعدئذ أنها محرومة من نعمة الإبصار. وهنا تبرز ثيمة العمى في الرواية والتي يشي بها العنوان ابتداء.. فإلى البنت الذكية الحساسة فإن البيت الذي يقطنانه تجاوره من الخلف طريق منحدرة ذات منعطف، وقد تكرر وقوع حوادث اصطدام بين سيارات في هذا المنعطف الذي تطلق عليه الكاتبة "بقعة عمياء". ولم يعالج وضع هذا المنعطف إلا بعد سنوات كانت فيه الأسرة قد انحدرت على مستوى العلاقات بين أفرادها وعلى مستوى سلوك كل منهم. وهذا الانحدار الذي يجري بقوة التوتر، وغياب التوافق، والانكفاء التام على النفس هو بمثابة عمى، إذ تحركه دوافع ذاتية شبه غريزية. فالزوج وفي غمرة انغماسه بمحاولة التسلق وإيذاء الغير ينتظر مكافأة كبيرة تنقله من حال إلى حال، بيد أن هذه المكافأة لا تأتي، وفوق ذلك فإن شروده وبلبلته جعلته ذاهلًا عن عمله وعرضته للوقوع في أخطاء فضلًا عن اتهامات له بوضع اليد على الكتب، مما أدى إلى فصله من العمل فتشتد لديه حال السويداء التي تقوده بعدئذ إلى حالة مبكرة من الزهايمر وهو في بداية كهولته. أما الزوجة ومع مشاعر الاغتراب التي تتراكم وتقسو حيال شريكها، فإنها لا تتوانى عن خيانة الزوج مع صاحب الفيللا التي يقطنون في طابقها الثاني، فيما يتم تأجير شقة صغيرة علوية لـ" شاعر" لا يتردد في إقامة علاقة مع البنت ندى، جنبًا إلى جنب مع علاقة صداقة مع أبيها الثرثار الدّعي الذي يجنح إلى النقاشات الثقافية الفضفاضة. وفي الحصيلة فإن البنت تحمل من الشاعر الذي ينكر علاقته بالحمل ويرفض الزواج من البنت ويولي الأدبار. فيما الشقيق نادر الذي لا يتحمل المسؤولية ولا يكمل تعليمه، يغادر المدرسة للعمل سائق تكسي مع خاله قبل أن يتعرف على سائق شاحنة يزيّن له طريق انضمام إلى جهاديين في سورية. لم يكن هذا الشاب متدينًا ولا انتقل إلى الإيمان، ولم يكن ضد النظام في دمشق ولا معه، لكنه وجد في هذا الطريق تنفيسًا عن توتراته الشخصية. علمًا أن ابن الجار مالك المبنى ذهب بدوره إلى أفغانستان ولكن عن "ورع" وقد وشى به الجار واسمه ربحي قبل أن يقوده هذا الانهيار النفسي والتراجع العقلي إلى تديّن مضطرب. وبينما تشق البنت الضريرة نور طريقها في الحياة وتتعلم وتعمل، فإن الابنة الثانية النزقة ندى تقبل بأول عريس يأتي من الخليج ويكبرها بنحو عقدين من العمر، وتتحجب وتتزوجه وترحل معه تاركة "سفينة البيت" تغرق. وحتى سفينة الجار مالك المبنى تغرق مع إصابة الرجل بشلل نصفي وانشغال الزوجة بشؤون السوبرماركت الذي يملكه زوجها القعيد، إلى جانب دروس دينية تتلقاها في البيت من نسوة يفدن إلى المنزل.



بهذا يتبدّى فضاء الرواية في رصد انهيار شرائح من الطبقة الوسطى بفعل حالة مخيّمة من الخواء نتيجة الانجذاب إلى حمى الاستهلاك والمحاولات المحمومة لتدارك الصعوبات الاقتصادية، والسعي في الوقت ذاته للترقي الاجتماعي الطبقي. فالزوج لا يكافأ بشيء على خدماته. وزوجته الموظفة في البنك إذ تتعرض لعمليات تحرش في عملها فإنها لا تصادف إلا أجواء بيرقراطية تحد من أي طموح لها في الترقي، أما صاحب المبنى مالك السوبر ماركت فإن ازدهار المولات يحبط تجارته ويدفعها للتراجع. ووسط هذه الإخفاقات المعطوفة على حياة عائلية معطوبة يتم الانزلاق إلى الخيانات، مع أقرب الجيران مع محاولات التغطية على ذلك بالتديّن الاستعراضي. فيما يختار شابان ينتمي كل منهما إلى إحدى العائلتين طريق التطرف. وهو في المحصلة ما يشي بحالة عماء تستبد في مسار العائلتين.

تواكب الرواية فترة تناهز عقدًا من السنوات تبدأ من سنة 2003، وهي فترة شهدت انسداد المسارات السياسية وبروز ظاهرة الجهاديين، ويتخلل ذلك ظهور موجة الربيع العربي من دون أن تتكيف معها بعض شرائح الطبقة الوسطى، التي ظلت مشدودة إلى نمط الحياة المعهود الموزع بين حمى الاستهلاك والنزوع إلى التمرد الفردي المستتر مع غطاء من التدين الشكلي.

وتحفل الرواية بإشارات سياسية مثل إعدام صدام حسين وإحراق البوعزيزي لنفسه، وتبدو بعض هذه الإشارات نافلة، فهي وإن كانت ترمي إلى التدليل على مسرح الأحداث السياسية الكبيرة والتحولات ذات الأهمية، إلا أنها بدت مقُحمة أحيانًا وبعيدة عن تفاعلات أبطال الرواية مع شؤونهم المخصوصة، وكان من شأنها أن تسببت في ارتخاء العصب الروائي وأفقرت الحيوية السردية فيما رمت إلى العكس من ذلك.

 وقد لجأت الكاتبة خريس إلى تقنية تعدد الأصوات في الرواية، حيث يتولى معظمهم الكشف عن المكنونات الذاتية وسرد الأحداث من زاويته الخاصة. وقد أضفى ذلك قدرًا ملحوظًا من الحيوية على المتن الروائي وتظهير الجوانب المتعددة لكل واقعة من الوقائع. وقد برعت الكاتبة في وصف العالم الخاص للفتاة الضريرة نور التي تملك رهافة الإحساس بالكتلة والفراغ لدى تتبع حركة الأشخاص حولها، فضلًا عن رهافة حاسة السمع وحاسة اللمس وصولًا إلى مضاء حالة الحدس لديها، مسترشدة ببصيرتها حيث تستشعر قرب انهيار أسرتها من غير أن تملك وسيلة لصد هذا الانهيار.

غير أن تعددية الأصوات واللجوء إلى التناوب والتعاقب في سرد الأحداث لم يخلُ إلى جانب ميزاته، من الانزلاق إلى التكرار والرجوع إلى أحداث سابقة تمت الإضاءة عليها، وهذه هي الثغرة الفنية في لجوء الكاتبة إلى هذه الصيغة؛ اذ إن التحدي يكمن في الجمع بين نمو الرواية القائم على التتابع والإضافات وبين "حق" الأبطال في رواية الوقائع من وجهات نظرهم الخاصة ومن دون الانزلاق إلى وهدة تكرار الوقائع والذي يجعل المتن الروائي في بعض المواضع يدور حول نفسه.

وتمثل الرواية (290 صفحة، وصادرة عن الآن/ ناشرون) وثيقة أدبية مهمة وجذابة عن مرحلة حافلة بالتحولات والانعطافات، وتعكس موهبة الكاتبة في بناء عوالم سردية شيقة.

وللكاتبة سميحة خريس سبع روايات سابقة، من بينها "فستق عبيد" و"شجرة الفهود" و"دفاتر الطوفان" و"الرقص مع الشيطان".