Print
وارد بدر السالم

"علم رواية القصص".. تمارين في بناء البطل الروائي

3 سبتمبر 2021
عروض





"علاج الرعب هو القصة"، بهذه الافتتاحية المبكرة والمفاجئة، يعكف وول ستور في كتابه المهم "علم رواية القصص" (دار نينوى، ترجمة مأمون الزائوي، 2021 – دمشق) على الشروع بدراسة علم القصص وروايتها، في أفقين سرديين متداخلين بين القَص وروايته تاريخيًا، حينما شكلت حكايات العجائز والأجداد، أيام كان الحكي الشفاهي ورواية القصص العجائبية أو ذات الحبكات البسيطة، بنزوعها إلى الوعظ والحكمة وإيراد المآثر الشخصية البطولية، وسيلة من وسائل الروي المباشر للجماعات، مثلما شكّلت وتشكلت الأديان حول النار كنوع من تهيئة  الوعي البدائي في وجود إله أو مخلص طوطمي للقبيلة، فمن تلك القصص "ظهرت الحضارة الإنسانية المعقدة" وهيأت للتجمعات البشرية أن تمارس أدوارها وطقوسها ودياناتها البدائية. لذلك فإن القصص الأولى بقيت كما لو أنها الأخيرة في سِفْر الحياة البشرية، وبقينا "نعايش حياتنا اليومية في شكل قصة" عبر اللغة التي تطورت مع الزمن لتقص وتحكي وتسجل يومياتها على شكل أحداث؛ فقسم من علماء النفس يؤكدون ويجادلون فيما بعد "بأن اللغة البشرية تطورت في المقام الاول من جل سرد الحكايات عن بعضنا البعض" ومن اللغة البدائية صارت القصص والحكايات والروايات وصار الرواة. فقد "بُني البشر للقصة".

من هذا التقديم والافتتاحية السريعة التي عين بها المؤلف حياة الرعب اليومية يأتي هذا الكتاب "غير المألوف" لأنه "مبني على دورة في سرد القصص" و"لا توجد طريقة لفهم العالم البشري من دون قصص"، ولأن الكاتب روائي فهو الأقرب إلى تمثُّل السرديات وأسرارها وتاريخيتها وفقهها الفني، إضافة إلى إحالاته الكثيرة لموضوعة الصنعة القصصية ومطابقتها مع الواقع، واعتراضه المبدئي على بنية القصة، كون الانشغال بالبنية هو "المسؤول عن الاعتلال الذي يعاني منه العديد من القصص الحديثة" وأن "التركيز على الحبكة يجب أن ينتقل إلى الشخصية".

فالحدث الذي ينشغل المؤلفون به غير قادر على أن يكون بموازاة الشخصية بوصفها محنة اجتماعية أو نفسية أو غير ذلك، ويتوجب الاهتمام بالشخصية كونها مركز الحدث كما نفهم من السياقات التي يوليها ستور اهتماماته العلمية والبحثية وهو يتوخى "معرفة كيف تعمل الشخصيات في الحياة الحقيقية"، وهذا يعني اللجوء إلى العلم كحلول واقعية تستقدم الشخصيات تحت تأثيراتها اليومية، وتُخضعها إلى سونارات نقدية - علمية لأغراض التطابق الحياتي من عدمه، تحت فحوصات دقيقة، حاول فيها ستور أن يقدم في هذا الكتاب أربعة فصول "يستكشف كل منها طبقة مختلفة من رواية القصص" في إحالات أدبية وعلمية فاحصة للقصص ورواياتها المتعددة.

التغيير غير المتوقع

التغيير.. هي المفردة الأكثر التصاقًا بأفكار ستور في فحوصاته النقدية للآثار السردية العالمية. إذ "يبدأ العديد من القصص بلحظة التغيير غير المتوقع" وكل قصة "ترقى إلى تغيير شيء ما" بوصفه أن التغيير "رائع بشكل لا محدود لدى الأدمغة" أي أن النشاط العصبي هو الذي يحرّك الشخصيات الإنسانية في الواقع، وأن المليارات العصبية التي نحملها لها واجبات ضمنية في تشكيل الصور الشخصية لنا. وهنا في تشكيل قوام الشخصيات القصصية التي نكتبها، سواء أكانت ضمن حدود الواقع أو خارجه، في مناطق الخيال الأكثر انفتاحًا، وصولًا إلى نقاط الانعطاف المثيرة كما يسميها ستور، بأنْ- مثلًا- عندما تطالع وجهك فكأنه ".. آلة تم تشكيلها عبر ملايين السنين من التطور لاكتشاف التغيير" كالذي يفعله رواة القصص بخلقهم "لحظات من التغيير غير المتوقع الذي يجذب انتباه أبطالهم.." وهو ما يمكن تسميته بالمفاجأة أو كسر الإيهام خارج التوقع. لمزيد من شد الانتباه والفضول، وهذا ما يعمل عليه الرواة، عندما يؤجلون صدمة التوقع إلى زاوية يختارونها بدقة، لمزيد من الإثارة. ومهما كان الخيال فعالًا في إنشاء قصة من الخيال، فإنه إعادة لتجسيد الواقع من زاوية نظر مُختارة. أي أنه تكثيف له ومناورة حكائية يبرع بها قصاصو الأثر ورواته، أو أنه تحديث للواقع عبر تحديث الخيال وإضفاء ألوان تالية على وجوده الحكائي.




لكن ستور يذهب إلى أبعد من ذلك في تحقيق سر الشخصية بواقعها الخاضع لمنظومة العلم، بعيدًا عن الروي المتاح لتضخيم هذه الشخصية الروائية أو تلك. وهي معاينة جديدة في علم النقد، كونه علم رواية القصص من منظور علمي حساس: ".. حينما تقطع إصبع قدمك وتشعر به ينبض بالألم، فإن هذا وهم.. فذلك الألم ليس في إصبع قدمك، بل في دماغك"، فالدماغ البشري من هذا المثال وأمثلة أخرى هو الذي يسيّر الشخصية الروائية بواقعها الحقيقي وليس بواقعها السردي. فهو "بنية أساسية مبنية على السبب والنتيجة" و"السبب والنتيجة هما اللغة الطبيعية للدماغ" و"يبني الدماغ أنموذجه المتخيل عن العالم" فـ"اللون كذبة. إنه تجهيز للمكان قام به الدماغ.. فجميع الألوان التي تراها هي مزيج من ثلاثة مخاريط توجد في العين: الأحمر والأخضر والأزرق.." وهذه الإحالة العلمية المعقدة نسبيًا تشير إلى فقر الرؤية الكتابية عندما تستنتج ألوانها السردية بعين الكتابة، غير أن ستور يُمعن في تشظية السرود القصصية إلى مسارب علمية، لتضييق المنافذ المتخيلة في الكتابة، كالأحلام الشائعة ومستوياتها الذهنية والنفسية، بوجود براهين سردية عالمية لتصميم العوالم الروائية والقصصية، بعيدًا عن شفرات الكلام الشفاهي الذي كان متداولًا في زمنٍ ما، وربما يزال تراثه قائمًا في بعض الأماكن من العالم المعاصر.

التصميم الجوهري يتحدد علميًا عبر بيرغن ونتائجه التي تقترح "الإظهار" قبل "الإخبار" كما فعلت ماري شيللي في فرانكشتاين، وفي حرب النجوم، فرواة قصص الفانتازيا والخيال العلمي يظهر ميلهم الدماغي إلى صنع النموذج القصصي التلقائي، وهو النموذج الخيالي القائم على بلورة الواقع وتكثيفه "العالَم المتخيل الذي يخلقه لنا دماغنا هو عالم متخصص" وإنّ "لدى البشر موهبة استثنائية في قراءة وفهم عقول الآخرين.." وقد يمتلك رواة القصص القدامى فطرة التخييل، كما يمتلك قرّاء الماضي هذه الفطرة في معاينة الشخصيات القصصية الماثلة في أكثر من صورة سردية. ومن هنا تشكلت بدايات الأديان من صناعة القصص البسيطة حسب ستور. فالقدرة الإنسانية الماثلة في المتخيل القصصي قدرة خارقة في الصناعة الطوطمية التي وعت تشكيل الدين بشكله الأولي. وبالتالي انتظمت حوله وتطورت وشكلت حضاراتها الأولى. ومن ثم تطورت آليات الفهم البشري وتطورت معه آليات الدين ليكون "نظريةً وشرحًا موسعًا يصدر عن القشرة المخية الحديثة حول ما يحدث في العالم ولماذا يحدث؟".

المتخيل السردي وحبكته

إحالة السرد الحكائي الأولي وما بعده إلى فضاءات علم النفس، سببه الاهتمام المفرط من قبل ستور بالشخصيات القصصية الي يراها ضرورية في تدبيج الأثر القصصي، لذلك فإن فحصه النفسي، يقع تحت تساؤل بارز في كيفية ولادة شخصيات خيالية فريدة ومثيرة للحبكات والاهتمام. لكن جملة اعتراضية من عالم النفس البروفيسور كيث أوتلي  بأنه من الشخصية تتدفق الأهداف والخطط والإجراءات.. والنمط الاجتماعي الوارد في المجموعات السردية الشفاهية يمكن أن تبرز مظاهره الذاتية والسلوكية والعصبية بطريقة معينة، لكنها مظاهر لا يحسبها العلم نهائية، فالفطرة التي عليها الرواة لا تمكّنهم من التدقيق العلمي الصارم في إيراد شخصيات لها قابلية المكوث العلمي الذي تتطلبه قراءات الشخصية من المنظور الحديث، لكن تبقى ممتلكة لثباتها الشخصي مع الزمن، فالتحليل العلمي والنفسي يأتيان لاحقًا. ومعظم النظريات في هذا المجال ليست تنظيرية عابرة، بقدر ما هي تشخيصات واردة من النتائج الميدانية، لذلك فالخيال هو محاولة إعادة إنتاج الواقع وإكسائه بحلل أخرى، قد لا تتشابه مع الواقع، لكنها تغذّيه بالنتيجة، وتفتح معه أسرارًا كثيرة، وهو ما يمكن أن نستبينه من أدبيات هذا الكتاب الذي يجعل من الدماغ مفتاحًا لفهم السلوك البشري، والشخصية الإنسانية بتقلباتها الكثيرة ونموها الطبيعي في مجتمعاتها. لذا نطالع في كثير من الأحيان سرديات روائية وقصصية لا تتفق مع ذائقتنا. أو لا نجد لها صورة مطابقة مع الواقع. أو نجدها مفرطة في خيال فائق. أو ربما نجد الصورة مثالية ومتطابقة مع الواقع، حتى لو كانت محض خيال وفنتازيا قصصية لأن "دماغنا يعطي شعورًا لا واعيًا بالقبول" لنجد "صحة أنموذج العالم المتخيل داخل جماجمنا" فنحن من هذا المنظور "شخصيات خيالية" نتقبل أن نتحول إلى هذه النماذج بوصفنا شخصيات قصصية، لنا هندسة عصبية بشبكة معقدة وأدمغتنا هي "صانعات أبطال تنبعث منها" ليكون للقصة سحرٌ في "قدرتها على ربط العقل بالعقل بطريقة لا تضاهى حتى عن طريق الحب" وهكذا يميل ستور إلى تحقيق نظريته في ربط الشبكة العصبية من الدماغ لتحقيق شروط القص، ويكتفي بخلاصات تعليمية نقدية، عندما يجد في الحبكة القصصية استمرارية في طرح "السؤال الدرامي" واعيًا إلى أن زمن القصة "مضغوط" وعليه أن "تكون الكلمات التي تقولها الشخصيات صحيحة ومثقلة بالمعنى" و"يجب أن يكون الكلام مكتظًا بحقائق عميقة يمكن أن يستوعبها القراء"، ومثل هذه الفقرات التعليمية استُخلِصت من وقائع قصصية متعاضدة؛ فعزاء القصة "هو الحقيقة" وإن لم تكن هذه فقرات تعليمية فهي "مقاربات" كما يسميها ستور في الملحق الأخير من الكتاب، والذي يرى فيها "تمارين" في بناء البطل الروائي والقصصي.