Print
رشيد الخديري

"مرآة الصّمت".. التّخييلُ الذّاتي أفقًا

14 يناير 2022
قراءات

 


المزجُ بين السّيري والغرائبيّ هو أحد خصوصيّات الكتابة في العمل القصصي "مرآة الصمت" (الآن ناشرون وموزعون، ط 1، 2021) للكاتب المغربي أيوب مليجي، حيثُ نلمسُ اشتغالًا على التّخييل الذّاتي autobiographie وتداعي صور الحياة اليوميّة، بالإضافة إلى اقتحام عوالم التخييل العجائبيّ، خصوصًا من خلال نص: "البحث عن عائشة قنديشة" وموقعها في المتخيّل الاجتماعيّ بالمغرب، غير أنّ هذه الاعتبارات لا يُمكن تبنّيها ومَوضَعَتِها ضمن الأفق التّخييليّ بشكلٍ مطلق، وإنّما يَتَعَيَّنُ دورها فقط في خلقِ مسارٍ كتابيّ محايث للمنجز القصصي ككلّ، فخصوصيّة التّخييل الذّاتي تتماهى مع مُنطلقات "السارد العليم" العارف بخبايا الشُّخوص والقادر على توجيه دفّة السّرد والتّحكم في أشرعتها وحركيتها، وهو ما يؤكّد على أن تقنيات التّخييل الذّاتي، بإمكانها أن تكون حافزًا للكتابة السّردية/ التّخييليّة، فهي تحملُ طابع الفرد المبدع وانشغالاته المتناثرة هنا وهناك، خاصّة على مستوى التّأمل والاستغراق في نسج حواراتٍ مُبهرةٍ مع الذّات والعالم والإنسان والأشياء.

تستغرق المجموعة 64 صفحة، موزّعة على ثمانية نصوص، وهي: "ماء النفار"، "مرآة الصمت"، "حياة على الهامش"، "وهذا أيضا سوف يمضي"، "هَوَس"، "أعشاش الغربان"، "البحث عن عائشة قنديشة" "عَمَى.. ما"، "أرقام". ومن الواضح، ومن خلال قراءةٍ مُتَبَصِّرَة في هذه النّصيّات، أنّ هذه المجموعة القصصيّة تستمدُّ مشروعيتها من هاجس الالتحام بالإنسان وهمومه وآماله، خصوصًا حين يعمدُ السّارد العليم إلى النّهل من معين التراث والتّوجه نحو القارئ/ المتلقي ونحو الالتحام بالرؤيّةٍ المأساويّة للعالم. ولا شك أن التّأمُل في الإنسان والحياة والعالم، هو هاجسٌ يَنقل الكتابةَ من رحم السيرة الذّاتيّة إلى كتابةٍ تسمحُ بالتّوغل في المناطق الدّاجيّة، خاصّة فيما يتعلّقُ بالمادّة الكتابيّة تخييلًا وأفقًا، كتابةً وإبداعًا، آفاقًا ومرجآت.

هذه الرؤيّة التي يتأسّسُ عليها المنحى السّردي في "مرآة الصمت"، لا تفصل صوت السّارد عن الأصوات المتعددة، بل يلتحم معها ويتماهى مع صورها داخل المتن، وكأنّ السارد هو جزءٌ لا يتجزّأ من لعبة السّرد، بل هو ناظمُ العمليّة السّردية والمتحكِّمُ في حركيّتها وخيوطها. إن نصوص هذه المجموعة تستبطنُ أسئلةً عديدةً حول الكتابة القصصيّة، خصوصًا على مستوى بناء الجملة وتخييلات المعنى، علمًا أن الكاتب أيوب مليجي، جاء إلى ممارسة السّرد من خلال الشِّعر، وعليه، فإن منظورات الكتابة لديه تتأسّس على خصوصيّات الشعر، حيثُ الرَهان على البناء الجُمليّ القصير والإيجاز والتكثيف وتوظيف اللغة الشِّعرية، وهذا كلّه، يخدم النّاظم السّردي ويتوجّه بالقارئ/ المتلقي إلى آفاق أرحب للكتابة والتّخييل.

لا يأتي الرّهان على مجموعة "مرآة الصمت" في كونها أوّل تجربةٍ سردية للكاتب فحسب، وإنّما في صيروراتها وتقاطعاتها مع الشعر من جهةٍ، ثم، من جهةٍ ثانيةٍ، تتعيّنُ باعتبارها تجربةً واعدةً، ولها من هامش التّطور والحضور، ما يعدُ بإنتاجات سردية أخرى تثري المشهد القصصي المغربي. نُضيف إلى ذلك حقيقة أن جوهرانيّة الكتابة لدى مليجي تتعدّد وتتنوع وفق طبيعة المقروء، وما التّحول من كتابة الشعر إلى الإبداع القصصي إلا مؤشِّرًا على هذا الدّفق الخلاق الذي تمنحنا إيّاه الكتابة في معناها الكونيّ والجوهرانيّ، ذلك أن الكتابة لا تتبلور بشكلها الإنساني إلا حين تَتَخَلَّقُ بعيدًا عن المواضعات التقليدية الجامدة، وتستحضر في الآن ذاته، الهدف الأسمى من كل كتابة مهما كان جنسها.

ومن زاوية أخرى، فإن هذه المجموعة القصصية تعكسُ وعيًا بقدرة التراث على إغناء المتن وتخصيبه، من منطلق كسر الناظم السّردي والاندفاع بالسّرد نحو معانقة آفاق جديدة كانت عصيّة على المبدع شعريًّا، والواقع أن التّمثُّل بكشوفات التراث ما هو - في النهاية-  إلا إفرازًا للمقروء من جهةٍ، ثم، تكملةً وهوسًا بتأثيث فضاءات السرد من جهةٍ ثانيةٍ، غير أن ذلك، لا من جهةٍ أخرى إعلانًا للولاء التام لهذا التراث والنّهل من افتراضاته. إن حضور المرآة كعتبةٍ أساسيّة في هذا المنجز القصصي، له دلالات لا يُمكنها في فعل الانعكاس فحسب، وإنّما هي اتّصال حميم بذات الكتابة، لا سيما أنّ رمزية المرآة تُحيل على الماضي البعيد، كما يُمكنها في الآن نفسه، أن تكون بحثًا وتجاوزًا واستشرافًا.

بهذا الوعي في الكتابة والتّخييل، والانتقال من سؤال الشعر الذي ظلّ يشغل أيوب مليجي ردحًا من الزّمن، إلى الالتحام بسرديّة لا تنفك تُقدِّم نفسها أنّها سرديّة لا تنقطع عن سؤال الشعر، بل ظلّت مُتصلةً ومُلتحمةً معه في الكثير من التّفاصيل والجزئيّات، وكأن الكاتب يُمارسُ الشعر سردًا، والسّرد شعرًا رغم اختلاف العوالم النّصيّة ومشاغل الكتابة، ومعنى هذا، أن ثمة رهان على الكتابة في رحابتها وكونيتها، من حيث، هي تجربة إنسانية وإقامة دائمة في المتخيّل والمعنى واللغة، الشيء الذي جعل هذه المجموعة لا تفقد كيانها وكينونتها بعيدًا عن سؤال الشعر وأصلانيته.

إنّه من المثير للانتباه، أن يعرف الإبداع هذه الدينامية وهذا البحث عن هويّة إبداعيّة خارج نطاق الشِّعر، وما يعنيه ذلك، من مُعانقة لأفقٍ معرفيّ آخر، علمًا أن مطلع الألفيّة الثالثة، شهد هجرةً قويّة لشعراءَ نحو محفل السّرد، مما يعطي الانطباع أنّ التّعددية في المتخيّل والانفتاح على طاقةٍ إبداعيّةٍ أخرى، قمينٌ بأن يُلامس حقيقة الكتابة في لغزيتها وتعرُّجاتها، فـ"مرآة الصمت" إبلاغ جمالي و"رؤية للعالم" تتأسّس على "وعي ممكن" وتمرّد على "وعي كائن"، في أفق الوصول إلى كتابة لا يقين فيها ولا ثبات، بل هي حفر مستمر في المناطق الداجية، وبهذا التّصور الذي لا يؤمن بالمواضعات في الكتابة، يمكن للإبداع أن يتوسّع وأن ينفلت، بدل أن يبقى مرتهنا في أفقه للانغلاقية والتّحجُّر.