Print
عمر شبانة

مذكرات دان فانتي وسيرته.. صور من القذارة الأميركية

3 يناير 2022
عروض

ما بين السيرة الذاتيّة والأسَريّة، وبين ذكريات الحياة الشخصيّة والعامّة، الاجتماعية والثقافيّة الأميركيّة، الفضائحيّة والإباحية، الشبيهة بروايات هنري ميللر، يقع كتاب "مذكرات دان فانتي: إرثٌ عائليّ من كتابة وشُرب ونجاة" (دار أثر، الدمّام)، من تأليف دان فانتي (1944 ـ 2015)، ابن الروائي الأميركيّ/ إيطاليّ الأصل جون فانتي صاحب "اسأل الغبار"، و"رباعية بانديني"، وغيرهما كثير، هو كتاب من يسمّيهم "مهاجرون إيطاليّون إلى أميركا.."، يقع في 42 فصلًا ومقدمة وخاتمة و(ألبوم صور)، ترجمة عبير عبد الواحد.
يبدأ الكتاب باستعارة من فريدريك فون شيللر، يقول فيها "ليس اللحم والدّمّ، ولكنّه القلب مَن يصيبنا آباء وأبناء".. ومن الشاعر والمُغني المعروف، حائز نوبل بوب ديلان قوله "مَن لم ينشغل بميلاده، مشغول بِمَماته".
ومع تناولها سيرته الشخصيّة، وسيرة عائلته الممتدّة منذ هجرة أسرته الإيطالية إلى أميركا، تشبك "المذكّرات" كثيرًا من تفاصيل الحياة الأميركيّة، في جوانبها المتعدّدة، وهي حياة حافلة بصور لبلاد إمبرياليّة، تمنح الحريّات، وتسلب الإنسانيّة والحقيقة لشخص مبدع حقيقةً، ويبرز فيها كلّ ذي قوّة، في أيّ مجال من مجالات الحياة، لذا ينتكس المبدع مرّة بعد مرّة، ويظل روائيّ حقيقيّ مثل (جون فانتي)، ومن بعده ابنه دان فانتي (صاحب هذه المذكّرات)، غريبًا ومقهورًا يعاني "سكرات الموت"، حينًا، ويحتلّ مركزًا مرموقًا حينًا آخر.


المخمور بالوراثة
يعيش دانيال بن جون فانتي ويكتب بحريّة وانفعال، بحرارة وتدفّق، تجربته مع الإدمان، ومحاولاته "الإقلاع"، بلا جدوى، ويبدو وكأن الأمر جاءه بالوراثة عبر أجداده، وصولًا إلى والده، ثمّ شقيقه الأكبر الذي حاول قتله ثلاث مرّات على الأقلّ، غيرةً منه بسبب الرعاية الزائدة التي يتلقّاها من والدته التي حاولت إجهاضه ولم تستطع، فراحت تعطيه فيض حنانها تعويضًا عن ذلك.




وفيما هو يكتب عن سيرته ومعاناته، وعن خساراته وصعوده في عوالمه الغنية بالتجارب، والتنقّل بين أصناف من العمل، غالبيّتها مبتذلة وقصيرة المدى، فهو يكتب عن مجتمع مبتذل وحقير في استغلال فرديّة الإنسان وخصوصيته. يكتب: "دمّرَ الخمر حياة جدّي ووالده من قبل وحياة والدي. وبالطبع، تدمّرت حياة أخي أيضًا. كان نيكولاس جوزيف فانتي رجلًا ألمعيًّا، ولكن بطريقة ما، لم تطأ قدماه كوكب الأرض فعليًا. في الظاهر بدا طبيعيًّا، ولكنه كانَ مخمورًا طوال الأسبوع، وعلى مدار الساعة. أفضل إنجازاته هي كونهُ عضوًا في فريق التصميم الذي صنع أرجُل مركبة الهبوط على سطح القمر".
وليست مذكّرات دان عن نفسه فقط، ولا عن تأخّره في الكتابة والاعتراف به كاتبًا مرموقًا، بل هو يستمرّ في الكتابة عن والده الروائيّ الذي، رغم تنوّع مجالات كتابته، ظل يُعد روائيًّا، وظلّ حريصًا على هذه الصفة التي ضاعت، بين فترة وأخرى، خلف كونه كاتب سيناريو لأفلام هوليووديّة شهيرة.. وهو ما كان يدفعه إلى مزيد من "الكحوليّة"، أو العكس، فكثير من الكحول هو الذي كان يجعله ينسى كونه روائيًّا، ويغرق في "دولارات" هوليوود لتحسين ظروفه المعيشيّة، فيغتني حينًا ويفتقر أحيانًا، حتى استقرّ في "الغِنى".
صاحب هذه "المذكّرات" دان، أو دانيال، وقبل أن يغدو كاتبًا معروفًا ومعترفًا به وبكتاباته، مارس أشكالًا من العمل لا يمكن حصرها، لكنّ الأبرز كان عمله في المُراهنات والملاهي وأعمال الرياضة والمتاجرة بالسيّارات، بيعًا وشراء وإدارة في شركات جدّ مرموقة، أهمّها عمله مع شركة ليموزين، حيث اشتُهر بنقله كبار الفنّانين العالميّين، ممثّلين وممثلات ومغنّين ومغنّيات، وكبار التجّار الذين يحققون له مكانة عالية، ماليًّا ونفسيًّا، فيرتبط بهم، ويشكّلون حماية له، لكنّه سرعان ما يرتكب "حماقات"، ويجد نفسه خارج العمل. ومن هؤلاء ملياردير يرتبط معه ومع صديق (عاشق له) بعلاقة وديّة عميقة، حتى أنه يكتب له قصيدة هديّة لبيت جديد، يقول:
قصيدة هدية للبيت:

لو أنّه تسنّى لكل إنسان
زمنٌ مميّز؛
حيّزٌ تلتقي فيه كل خطوات الفصول
بحسب التصميم
على شفيرٍ صخريٍّ عصفتْ به الرياح
فوق مروجٍ لا يشوبها النقصان
حيثُ تتشقق بذور الصيف قِطعًا حمراء وخضراء
مخضلّة بالماء تحت سماء ناصعة..

وما بين قبول ورفض، وتمرّد وخضوع، تسير أيّام صاحب المذكّرات لتكشف عن روح الإنسان ونفسه القلقة التي تصل حدود الرغبة في الانتحار، سواء بسكّين في الجسد، أو بطلقة في الفم "صوّبت المسدس الماغنوم 375 إلى رأسي عدةّ مرات. لا أعرف لماذا لم أمت. أردتُ قتلَ نفسي، ولكنني لم أستطع الضغط على الزّناد". لكنه ينجو، ويستعين بكثير من أشكال التخلّص من "الإدمان"، عبر الغرق في العمل حينًا، أو العلاقات العاطفيّة ـ الجنسيّة حينًا، حتى أنه لا يتورّع عن تلقّي ما يسمّيه دائمًا "الجنس الفمَويّ" (شكل من أشكال تجارة الجنس في شوارع أميركا، يقول عنه "هناك كثير من الرجال المخنّثين الممارِسين في أميركا، رغم ندرة الحديث عن هذا الموضوع، معظمهم في الخفاء")، يلجأ إليه للتخلّص من شهَواته، قبل اللجوء إلى التّشافي عبر نظرية ومنهج "الخطوات الاثنتي عشرة للعلاج من الإدمان".. وهي طريقة عالِم متصوّف وروحاني يُدعى كين أوبانيون في العلاج من الإدمان.




ومن بين سماته وسلوكيّاته، تبرز صفته في انتمائه السياسيّ، في عداوته لكلّ ما هو عنصرية تجاه الزنجيّ واليسار، وهو ما يسمّيه أيضًا بسلوك البلطجة في طرد المستأجرين وسحقهم لمصلحة أصحاب العقارات، وما يبتكر له عبارات متجددة مثل وصفه نيويورك بأنّها "حفرة المجاري العميقة والمتجذرة في سياسة مدينة نيويورك". كما يبرز موقفه الجذريّ المعارض للحرب في فييتنام، ونراه يؤيد حزبًا لمكافحة عنف الشرطة ضد السود، يقول "نحن نقتل الزنوج من أجل لا شيء"، ويقف مع "حركة القوة السوداء"، التي نشأت كرّد فعل "على الاضطهاد والقهر والشعور بالدونية والهزيمة، فقامت على أساس الاعتزاز بالذات السوداء، والفخر العِرقيّ، واستحضار الحضارة الأفريقية". ويتحدّث أيضًا عن الغيتو، ويقصد "أحياء السود والأحياء الفقيرة الموجودة في المناطق المدنية الحديثة".
ورغم ما يبدو في شخصيته من ملامح العبث والجنون، فهو يتمسّك بمواقف ويعتنق مفاهيم تنمّ عن جدّيّة تجاه كثير من الأشياء، فهو يعتقد مثلًا أن "رواية جيدة بإمكانها تغيير العالم"، وذلك في حديثه عن رواية لوالده، يقول: "أظهرَ هذا العمل جون فانتي في أفضل حالاته، حيثُ السُّخرية والدّعابة اللطيفة اللاذعة والقراءة السلسة والنثر المقتصِد الرشيق". ويضيف نقلًا عن والده: "إذا كان ما أكتبه جيّدًا، إذن سوف يقرأه الناس. لهذا وجِدَ الأدب. الكاتب يضعُ قلبه وجرأته على الورق. ولمعلوماتك، الرواية الجيّدة بإمكانها تغيير العالم. ضَع ذلك في عين الاعتبار. قبل أن تحاول الجلوس إلى آلة كاتبة. لا تهدر وقتكَ مطلقًا بكتابة ما لستَ مؤمنًا به في قرارة نفسك".
كما يصف نفسه بكونه "مجنونًا سياسيًّا راديكاليًّا. وكنتُ قادرًا في ذلك الوقت على إقحام نفسي في خطاب سياسيّ شديد اللهجة عن الحرب الفييتنامية، وريتشارد نيكسون، وروبيرت ماكنمارا، وعن ذلك الوغد الميكافيلي (الانتهازي) الشرير هنري كيسينجر. لذلك، وبكل إنصاف لجهلي الخاص، فإن ما قرأته كان مُفلترًا من مصفاة هاتيك الماهية العقلية".
وكذلك فهو يوجّه انتقادات لاذعة لصناعة النشر في أميركا، فيصفها بأنّها "أُتخمت لسنوات طوال بالإصدارات الصّفراء ـ كتب السير الذاتية والفضائح Tell- all books، والتسلية، والروايات الرومانسية، مدفوعة بالكامل تقريبًا بالحد الأدنى من الربح". وذلك انطلاقًا من تجربة والده، وتجربته هو مع كتابه الأول، ووكيلة النشر التي عرضت الكتاب فلاقى الرفض من ثلاثين ناشرًا قالوا "إنّ النص شديد الانفعال والجنون. وجريء للغاية"، حتى وجد الناشر الباريسيّ إديشينز روبيرت لافونت، الذي أرسل له بعد ثلاثة أسابيع "عقدًا وشيكًّا مصرفيًا بالبريد. وغدا كاتبًا فرنسيًا!!"، وكان ذلك في خريف 1996.


الكتابة ولعنة المال
يظل حديث داني عن نفسه وتجاربه مرتبطًا دائمًا بالحديث عن والده، وتظل الوالدة حاضرة في كثير من المناسبات، وهي تحضر عند الحديث عن خيارات الوالد بعيدًا عن خيار الروائيّ، خصوصًا خيار الكتابة لهوليوود الذي كان لعنة كبيرة، سببها الرغبة في تحصيل الأموال، يقول عن والده إنه "لعنَ نفسه لأربعين سنة من أجل ما أسماه بيع روحه لهوليوود. وعلى حدّ قوله، اختار أبي الراتب بصورة شبه دائمة تقريبًا. لم يكن لأمّي علاقة بمهنته الكتابية في ما عدا استخدامها لمهاراتها العظيمة في التنقيح بالنيابة عنه".




وعند حديثه عن وفاة والده جون فانتي، يكتب بحرقة وحبّ "رحلَ أبي، الإنسان الأحبّ على قلبي في هذا العالم، الرّجل الذي رفضَ تقديم التنازلات لأيٍّ كان، الرّجل الذي علّمني بالبرهان ما كان عليه أن يكون الفنان الحقيقيّ. كُنّا قد أصبحنا أبًا وابنًا متحابَّين، بعد بداية متزعزعة دامت ثلاثين عامًا. كانت هدية جون فانتي لي هي طُمُوحه، وأَلمعيّته، وقلب الكاتب النَّقيّ الذي حملهُ بين جَنبيه. بدأ الحياة أبًا سِكّيرًا كارهًا لنفسه. عاد من جحيم الفقر والتحيّز. وها قد أنهاها كأفضل نموذج عرفته على الإطلاق في الشجاعة والتواضع. جون فانتي هو قدوتي".
وعن نفسه، يُنهي كتابه هذا باعتراف "لم أرغب بأن أكون عميقًا، أو أديبًا، لأنني لستُ شخصًا عميق التفكير. لطالما أزعجني الادّعاء الأدبيّ. أنا قارئ وأحبُّ الكتب، ولهذا قررت، ولم لا؟ لماذا ليس أنا؟ سوف أكتبُ عن حياتي.. كتابة الجرد وفق طريقة كين أوبانيون. الذّهن التّالف أسوأ من السّرطان. السّرطان الذي أُصبتُ به في جسدي، وليس في قلبي، ليس في تفكيري.
عنونتُ الكتاب بِـ"تشامب تشينج /فكّة تافهة".
ثم يختم بـ"قصيدتان عن أبي"، أجمل ما فيها "طيفُ أبي"، ومنها: يا لها من ميتة حقيرة لرجل امتلك يومًا طاقة جبّارة/ لرجلٍ اتّسعتْ كلماتُه للكثير من الجمال!