Print
صدام الزيدي

"غيوم فوق جسر أبريل".. القصيدة خبز خلاصنا

9 يناير 2022
عروض


عن "العائدون" للنشر، في عمّان، صدرت حديثًا، مجموعة شعرية جديدة، تضاف إلى رصيد الشاعر العماني المقيم في السويد، زاهر الغافري، حملت عنوان "غيوم فوق جسر أبريل"، اتسمت بالخفة والاقتصاد في الكلمات، لحساب كتابة ما يشبه الوصية، لشاعر بلغ قسطًا كبيرًا من العمر، يحارب بالشعر ويتنفس ويتجدد بطقوسه كرعدٍ يضرب في الأنحاء، ويكون حاضرًا بين فترة وأخرى، بكتابٍ جديدٍ، وتقنية كتابةٍ لا تقف عند خطٍ معينٍ في كتابته لقصيدة النثر.
احتوت مجموعة "غيوم فوق جسر أبريل" أكثر من ثلاثين نصًا، اتسمت بالرشاقة، وتلوِّح ـ لقارئها ـ بيدٍ تحمل مشعلًا من نور الحكمة وصفاء الرؤية، حتى أن معظمها هي أقرب إلى أن تكون مقاطع لا نصوصًا، بمعيار الأسطر والكلمات المكونة لكل نص منفرد مسبوق بعنوان مستقل.

"نهر قديم.."
"لمعة في نهر قديم/ مركبٌ يعبر تحت أصداف الحرير/ هنا وليس هناك جزيرة صالحة للسكن/ اليوم أفطر على سنابل الشوفان/ وأحرث حقلي كلما تباعد الليل/ عن النهار/ من أسفل الضفاف أدخل/ وفي عيني/ ترتبك النجوم بلا سبب واضح/ من بعيد تلوح لي يدي/ التي صنعتها من تراب".




ذاك هو النص الأخير في المجموعة، وعنوانه "خبز الحياة".. إننا أمام نص يكتب لحظة انتظار هادئ للموت بصيغة ترصد التماعات نهر مرّ لتوه في فضاء الذاكرة.. مشهد يحرض على ممارسة الحياة بشغف من يقود مركبًا تتناثر فوقه أصداف حرير، ويظل (الشاعر) ممسكًا بمقود المركب (على خط الحياة) متناولًا الشوفان في أصبوحة جديدة، وذاهبًا لحراثة حقله مهما اتسعت المسافة. ثمة فتوّة يعيش الشاعر طقوس لحظاتها الجميلة، كاتبًا قصيدته برغم اليد/ يد النهايات (أو الموت) تلوح له من (بعيد) ناحية التراب....
نصوص المجموعة، في كثير من عناوينها، تشي للقارئ بأن شاعرًا يكتب ما يشبه رسالة أخيرة تتضمن رؤيته العميقة للحياة، واستشرافه لمآلاتها التي باتت على بعد تلويحة من يد التراب، محاولًا فك شفرات اليوميات التي انقضت وتصرّمت مشبهًا إياها بحصان تلتهمه النيران لتضع حدًا لجموحه، ضمن حكاية القدر ومنعطفات الحياة بحلوها ومرّها، وهي منعطفات تتموه وتتنوع بمضيّ السنين واندثارها سنةً تلو أخرى، بينما ينتهز الغافري نزهة سريعة متابعًا مغامرات قطاره المسافر في الجغرافيا وفي الكلمات، وكأنما السنوات تشبه بعضها، والقصيدة هي نفسها التي كتبها في البدايات، وسيكتبها لاحقًا، لكن الزمان في دوران لا يهدأ، وصروف الدهر تجعلنا أحيانًا نتوهم أننا لسنا إلا في رحلة نوم، وفي انتظار أن نفيق في يوم ما، فثمة أسرار وخسارات ويوميات تتجدد، لتمنحنا أفقًا لقصيدةٍ وفضاءً للحكمة والتأمل ومعاودة ما بدأناه ذات منعطفٍ قديم، ومن بين العناوين نقرأ: "بعد أن دار الزمان"؛ "لا أحد يبكي"؛ "هل كنت نائمًا؟"؛ "منعطف"؛ "حصان يحترق"؛ "القطار الوحيد"؛ "في تلك الأيام"؛ "سأعيد كتابة القصيدة نفسها"؛ "سرّ هذا الذئب"؛ "اللغز الكبير"؛ "ذات يوم بعيد"؛ "إعدام"؛ "خسارة".
افتتح الغافري مجموعته بنص عنوانه: "الرسالة"؛ قصيدة يهديها إلى "ماريا"، بينما يذكِّرها بالربيع الذي غادر المنزل فوق جسر أبريل: "من بعيد في طريق جبلية، بين غابات وأمطار، تغنّي الأجراس الذهبية، أغنية الفجر الأزرق، والسماء كأنما برفق ينهمر من قوسها العالي، ثلج مشبّع بالرغبات الأخيرة"، لكن الشاعر ذاته هو الرسالة، وهو احتراق البحر، وهو ما تبقى من ضوء في العين، ومن الأنفاس وأبخرة العالم، في لحظة انطفاء.

قصائد من نبيذ الحكمة..
وبمعاينة مجمل النصوص، نحن أمام كتابة شعرية مصفاة كنبيذ، يقطر حِكمًا ورؤيةً لحياة (جمعية، بكل مظاهرها وخباياها ومتونها وشجونها) تمثّلها الشاعر، أو استعادها، فيما أراد أن يكتب رسالة (شبه أخيرة) إلى رفيقة/ قصة حب وود، هي "ماريا"، لكن البريد أم مجهولة، والطريق ملتوية بين غابات وأنهار، والحياة لا تكفي لطريقين، ولا لنهار واحد تحت شجرة، وثمة منزل وأموات كثيرون بداخله، ولهذا، للأسف: "لن تصل الرسالة" إلى "ماريا"، ذلك لأن ساعي البريد (ولربما الشاعر) مات "في الطريق"، محاولًا الوصول بالشعر تارةً، وبحجرات يلمع في داخلها شيئان لا غنى عنهما: "الكتاب والخبز". وإذ وردت هاتان الكلمتان في سياق النص الأول من المجموعة، فإنهما تأتيان عنوانًا غير مباشر لنص أخير يختم به الغافري المجموعة، عنوانه: "خبز الحياة"، وكأن رسالةً ملغزة خفية تتركها المجموعة ككل، ليفطن إليها قارئ شغوف، أو لتفهمها (ماريا) التي لن تصلها رسالة الشاعر العاشق، ألا وهي امتزاج الشعر بالخبز، أو الشعر والخبز وبينهما رسالة حب خالصة كتبتها يد جريحة أملتها عليها قريحة "أثقلتها حجار المكابدة اليومية"، ضمن قصيدة ناصعة، مشذبة ورشيقة، يكتبها الغافري، مضيفًا كتابًا جديدًا إلى نزهة الحياة الجميلة التي يرممها الشعر، على الرفوف، وفي الدروب والمعتركات اليومية، كلما تداعت أرواحنا للانهيار والتشظي والابتعاد. القصيدة هنا هي المرادف للحياة، وهي أيضًا خبز خلاصنا، فيما يمشي شاعر، الآن، صوب الأبدية: مصغيًا إلى نغمة قيثارة، وصوت فتاة تغنّي بالآشورية، يمسح الظلام عن الفجر، تحيةً لآخر الفرسان بين التلال والمنعطفات.




وتتجلى الكتابة الشعرية بروح هادئة ورؤية ممعنة في الحكمة في "غيوم فوق جسر أبريل"، لكأنما هي قطوف من الشعر المصفّى، بعد كتاب كان مزلزلًا وهادراً، إذ أصدر الغافري، قبل نحو عام، "هذيان نابليون"، كتاب شعريّ ـ ملحميّ احتوى قصيدة طويلة، بوعي قرائيّ ومعرفيّ واسع، ممعنًا في أفق الخيال الجامح لكتابة جديدة، تحاكي استذكارات ومواقف، في حياة قائد عسكري (شقت عصاه البحار والقفار)، ضمن كتابة مبتكرة ومغايرة، في الفكرة والاشتغال، استعارت أفقًا تخيليًا مدوِّيًا بلسان "نابليون بونابرت" القائد الذي أذعنت له الجغرافيا، وبلغ بمغامراته وغزواته أبعد من حدود "فرنسا" بآلاف الأميال، عندما اقترب الغافري، من أنفاس نابليون بعد شهقة الموت، لنقرأ هذيانًا جميلًا لرجل لم يذعن للموت، وإنما أخذ يهذي وحيدًا في قبره متيقنًا من قربه من حركة الحياة على الأرض، التي مشى عليها وحارب وفتح الأصقاع على ترابها، ومتيقنًا أيضًا من نهايته، وقد صار جسدًا ذاويًا ينهشه الدود، ويأكله الصمت المرعب، وليس ثمة أحد يصغي لهذياناته/ استعادات أمجاده وفتوحاته الكبرى.