Print
صقر أبو فخر

صُور مصر في كتب الرحّالة المغاربة.. أين رحلة العِبدري؟

23 فبراير 2022
عروض





أدب الرحلة ضرب من ضروب الكتابة الجميلة، بل فرع من فروع البلدانيات ووصف الأماكن وتسريح الأبصار وتجميع النوادر والأخبار. والرحلة في حدها الأدنى، هي نوع من دراسة شعب بأقلام أفراد من شعب آخر وبعيون مختلفة. ولنا في تراثنا الأدبي رحلات مشهورة جدًا مثل رحلة إبن بطوطة ورحلة إبن جبير ورحلة إبن فضلان، علاوة على رحلة ناصر خسرو الفارسي. واليوم تحتشد في المكتبة العربية المئات من كتب الرحلات وأسفار الرحّالة، وهي، على العموم، ذات طابع وصفي ومشاهدات وحكايات ونوادر. أما تقصي المعارف والمعلومات فهو قليل إلا في كتب مخصوصة تَوَفرَ مؤلفوها على البحث والنظر في ما وراء الوقائع العابرة، ذلك لأن زمن الرحلة المحدود لا يتيح الانكباب المتأني على مثل هذه الأمور. ولا شك في أن كتب الرحلات تفيدنا في التعريف بالبلاد التي مرّ بها الرحّالة، وفي معرفة حال اللغة العربية في الفترة التي كُتبت بها نصوص تلك الرحلة. والمعروف أن دوافع الرحلة في الأقطار العربية هي إما الحج إلى مكة والمدينة وتسمى "الرحلات الحجازية"، أو الطواف في البلاد لدى هواة الترحل، أو الرغبة في المغامرة واكتشاف المجهول.

في هذا الميدان المعرفي صدر مؤخرًا كتاب لربيع عوّادي عنوانه "صورة مصر في كتابات الرحّالة المغاربة" (973 صفحة من القطع الكبير). ولا ريب في أن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، ودار السويدي في أبو ظبي، تحمّلا المشقات الجسام لإصدار هذا العمل الذي حاز جائزة إبن بطوطة في عام 2021 التي تمنحها دار السويدي. ويدرس هذا الكتاب مؤلفات الرحّالة المغاربة التي كُتبت في القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين، أي منذ نهاية عصر المماليك وبداية عصر محمد علي باشا حتى سقوط آخر ملوك السلالة الألبانية العثمانية التي حكمت مصر طوال تلك الحقبة، وانتهت بسقوط الملك فاروق في سنة 1952.

ما هي الصُور التي انطبعت في أذهان الرحّالة المغاربة عن مصر؟ إنها صُور متضاربة ومتخالفة ومتنافرة ومتناقضة، وهذا أمر طبيعي جدًا. والانطباعات السلبية التي رصدها هؤلاء الرحّالة لا يمكن الركون إليها تمامًا، لأن معظم هؤلاء كانوا في طريقهم إلى مكة لإتمام فريضة الحج، ومرّوا بمصر، لكنهم لم يقيموا فيها الزمن الكافي لاستكشاف ما هو مستور عن العين العابرة. ومهما يكن الأمر فإن هذا الكتاب ليس كتابًا عن مؤلفات الرحّالة المغاربة فحسب، وإنما هو، فوق ذلك، كتاب في التاريخ ودراسة متعددة الجوانب استند المؤلف فيها إلى بعض كتب الرحّالة، واستخدمها كمدخل ضروري ليكتب كل شيء عن مصر في الفترة التي اختارها. ففي الباب الأول قدم دراسة أكاديمية عرّف فيها بالرحلة وأنواعها وخصائصها وفروعها، ثم انثنى إلى التعريف برحّالة الحقبة الزمنية التي اختارها كحقل لدراسته هذه، واستهلك في ذلك 268 صفحة، أي ربع الكتاب. أما بقية الصفحات (705 صفحات) فهي عبارة عن دراسة مطوّلة في التاريخ المعاصر لمصر كرّسها للكلام على الأوضاع الاقتصادية في مصر، وعلى الملكيات الزراعية وفيضان النيل والمحاصيل الزراعية والصناعة والأسواق والموانئ، ولم يُغفل النظام الجبائي والجمارك والنظام النقدي. كذلك ركّز على التعليم والمكتبات والمطابع والحياة الدينية والثقافية والصحافة والترجمة والفنون والتصوف والأضرحة والكرامات والمزارات، علاوة على الجوالي الأجنبية والأطعمة والأشربة والملابس ومظاهر العمران كالمباني والآثار.

بين يدي الكتاب

 الكتاب هو، بهذا الوصف، كتاب في التاريخ لا في الرحلات. وحصة التاريخ فيه أكبر بكثير من حصة الرحلات وتحليل نصوصها. وعلى سبيل المثال، استعمل المؤلف 39 كتابًا في الرحلات فقط، بينما عاد إلى 332 مرجعًا عربيًا وأجنبيًا من المصادر والأطروحات والدوريات والمؤلفات الجماعية، في التاريخ وتاريخ مصر وتراجم الأَعلام وسِيَر الرجال. وحبذا لو أن الكاتب عمد إلى دراسة مدى انطباق مشاهدات أولئك الرحّالة على الواقع، وأن يقارن أحوال المدن الموصوفة في الكتب كما كانت في بدايات الفترة، بأحوالها في نهاياتها، لأن المعارف لا تستقيم إلا بالمقارنة، ولا جدوى من الآراء والأفكار إذا لم تخضع للاختبار من خلال الاحتكاك مع المختلِف. فالمقارنة تتيح اكتشاف التحولات التي خضعت لها تلك الأمصار والأقاليم والمدن. وهنا، في هذا المجال، أود أن أشير إلى رحلة مغربية مهمة جدًا، لكنها سابقة على الحقبة التي يدرسها الكاتب هي رحلة العبدري المسماة الرحلة المغربية. والعبدري هو أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري الحيحي، وقد صدر الكتاب في سلسلة الرحلات الحجازية عن وزارة الدولة للشؤون الثقافية والتعليم الأصلي في الرباط في سنة 1968، وقد حققها وقدم لها وعلّق عليها رئيس جامعة محمد الخامس الدكتور محمد الفاسي.

هل كان العبدري مفتريًا على أهل القاهرة والاسكندرية وعلى أخلاقهم الموصوفة في كتاب رحلته؟ 



إن العودة إلى رحلة العبدري التي دوّنها مؤلفها في سنة 1289 ميلادية، أو إلى غيرها من الرحلات، شأن علمي بحيث كان يجب الاشارة إليها من باب الإحاطة والشمول، ولأغراض المقارنة، كمقارنة أحوال المصريين في القرن الثالث عشر (أي في زمن رحلة العبدري) بأحوالهم في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين (أي في زمن كتاب ربيع عوّادي). واللافت أن الرحّالة العبدري المغربي امتدح تونس فيما هجا قابس ومدينة طرابلس، فيقول: "وصلنا إلى مدينة قابس ذات المنظر الخبيث والمحيا العابس (...)، ثم وصلنا إلى مدينة طرابلس وهي للجهل مأتم وما للعمل بها عُرُس، أقفرت ظاهرًا وباطنًا وذمّها الخبير بها سائرًا وقاطنًا". أما عن تونس المدينة فيقول: "أَربتْ على البلاد في كل فضيلة، وما رأيتُ لأهلها نظيرًا شرقًا وغربًا، شيمًا فاضلة وخلالًا حميدة ومعاشرة جميلة [...]، بلد لا يستوحش به غريب ولا يعدم فيه كل فاضل أريب". وعن نساء برقة يقول: "من العجب عندهم أن كل امرأة لا بد لها من خرقة تسدلها على وجهها يسمونها البرقع، وهي تتخلل الناس مكشوفة الرأس والأطراف، حافية القدمين لا تهتم بستر ما سوى وجهها، كأن ليس عورة سواه".

العجيب والغريب في رحلة العبدري هو ذم المصريين وسلوكهم وعاداتهم خلافًا لما يذكره رحّالون آخرون. فتحت عنوان فرعي هو "اعتراض أهل الاسكندرية للحجاج" يقول العبدري: "ومن الأمر المستغربْ والحال الذي أفصح عن قلة دينهم وأعربْ، أنهم يعترضون الحجاج ويجرّعونهم من بحر الإهانة الملح الأجاج، ويأخذون على وفدهم الطرق والفجاج، يبحثون عما بأيديهم من مال، ويأمرون بتفتيش النساء والرجال. وقد رأيتُ من ذلك يوم وردنا عليهم ما اشتد له عجبي، وجعل الانفصال عنهم غاية أربي [...]. وما رأيتُ هذه العادة الذميمة والشيمة اللئيمة في بلد من البلاد، ولا رأيتُ في الناس أقسى قلوبًا ولا أقل مروءة وحياء، ولا أكثر إعراضًا عن الله سبحانه، وجفاء لأهل دينه من أهل هذا البلد". أما عن أهل القاهرة فكان ذمه أقذع وبلاغته في الشتم أبدع، فيقول: "حسبُها شرًا [أي القاهرة] أنها جرين لحثالة العباد، ووعاء لنفاية البلاد، ومستقر لكل من يسعى في الأرض بالفساد من أصناف أهل الشقاق والعناد والإلحاد. استولى الحسد على قلوبهم. واستوى الغش في جيوبهم، فنار الحسد مضطرمة في الجوانح، وسهم الغش ممزوج في عسل النصائح [...]، فهي سوق ينصب الشيطان بها رايته، ويجري إليها غايته، ويُري فيها لأتباعه وهم أهلها آيته. أطبقوا على سوء الأخلاق، وتوافقوا على رفض الوفاق، وتراضعوا ألبان اللؤم وتحالفوا ألا وُجد منا افتراق. فجوّادهم أبخل من الحباحب، وشجاعهم أجبن من صافر الجنادب [...]. وقد رأيتُ فيهم من قلة الحياء وعدم التنزه عن الخناء والفحش، ومن قلة التستر عن قضاء الحاجة والأكل ما تقضيتُ منه العجب. وأما بغضهم للغريب وتمالؤهم على ذلك فأمر لا يحيط به علم إلا مَن عاينه. وقد رأيتهم في طريق الحجاز إذا سمعوا مهارشة شخص منهم لغريب يتجارون من كل ناحية كما تصنع الكلاب إذا رأت كلبًا غريبًا بينها. وما رأيتُ بالمغرب الأقصى والأندلس على شكاسة أخلاقهم، ولا بأفريقية وأرض برقة والحجاز والشام فريقًا من الناس أرذل أخلاقًا وأكثر لؤمًا وحسدًا ومهانة نفوس، وأضغن قلوبًا وأوسخ أعراضًا وأشد دمامة وخيانة وسرقة وقساوة، وأجفى للغريب من أهل هذه المدينة المؤسسة على غير التقوى [...]، وهم جعلوا الخنا شعارهم والحسد المورّث للضنا دثارهم [...]. ومن الغرائب عندهم تضييع المساجد والجوامع وإهمالها وقلة التحفظ فيها حتى تصير مثل المزابل وتسوّد حُصُرها وحيطانها من الأوساخ [...]. ومن المألوف عندهم الأكل في الأسواق والطرقات والمحافل، والعرض عندهم ساقط".

***

هل كان العبدري مفتريًا على أهل القاهرة والاسكندرية وعلى أخلاقهم الموصوفة في كتاب رحلته؟ وهل إن أخلاق سكان المدينتين ما برحت على هذه الحال حتى لو افترضنا أن كلام العبدري كان صحيحًا؟ وإذا كانت أخلاقهم قد تغيرت جراء طول الزمن والتمدن، فما هي أسباب هذا التغير؟ وما هو أثر الاحتكاك بأوروبا وبلاد الشام في تعديل المزاج المصري وتقويم سلوك المصريين؟ إن جواب هذا التساؤل يحتاج بحوثًا في المقام الأول، وكتب الرحلات لا تشفي غليل الباحث.