ابتداءً، فإن عنوان رواية الكاتب وحيد الطويلة هذه "كاتيوشا" يعطي انطباعًا بأننا حيال رواية "حَربية"، وسوف يكون بطلها ذلك السّلاحُ السّوفييتيّ الشهير، المرتبط بأغنية شهيرة تحمل الاسمَ نفسه، عن الفتاة "السّوفييتيّة" التي ذهب حبيبُها إلى الجبهة ليدافع عن شرف الوطن، وهي تعِدُه أن تحافظ على حبّه وتدافع عن شرفه. لكنّ القارئ لا يلبث أن يفاجأ بأن هذا العنوان ما هو إلّا ذريعة لتناول العلاقة بين الرجل والمرأة/ الحبيبة، والمرأة/ الزوجة، بل علاقة المرأة بالمرأة، وما يحدث في هذه العلاقات من خيانات تدمّر روحَ الإنسان.
في هذه الرواية (منشورات بتانة، 2021)، عبارتان قصيرتان مكثّفتان، ولكن صاعقتان، أطلقهما رشيد، الروائي الشهير، بل هو "نجم من نجوم الرواية"، بوجه زوجته الكاتبة المغمورة مُشيرة. ففيما هو يقود سيّارته، وإلى جانبه زوجتُه التي ترافقه إلى المطار لتودّعه في رحلته إلى القاهرة، زوجته التي تحبّه، وتعتني بشؤونه كلّها، وتوفّر له كلّ ما من شأنه أن يساعده ليتمكن من إنجاز ما يريد من كتابة، على حساب موهبتها، يفاجئها إذ يوجّه لها صفعة عاطفيّة قاسية، حين يقول لها على حين غرّة "أحبُّ واحدة غيرَك".
ولا تكاد مشيرة تستوعب هذه العبارة، وتقيس مدى جِدّيّته في قولها، حتى يصعقها بعبارة أشدّ قسوة وعنفًا، إذ يضيف "أحبُّ صديقتَك"، فما كان منها إلّا أن "اختلَعَته" عن مقعد القيادة، فاصطدم رأسُه بالمِقوَد، وانفجر منه الدمّ، واختلّ توازنه، لتنقلب السّيارة أربع مرّات تمامًا، ولهذا العدد دلالته، ويدخل هو في غيبوبة طويلة. وخلال غيبوبته، وجلوسها بجانبه في المستشفى، ستجري حوادث هذه الرواية التي سنقف على الأبرز من ملامحها.
خيانة مزدوجة
العبارتان المذكورتان هما ما يحرّك رواية "كاتيوشا" وبِنيتها ومضمونها. العبارة الأولى "أحبُّ واحدة غيرَك"، لأن مشيرة فوجئت بها، ولم تتصوّرها، فهي، كما تتصوّر، جاءت بلا مقدمّات، والثانية، وهي الأكثر قسوة وفاعلية، هي "أحبُّ صديقتَك"، أكثر قسوة لأنّها تعبّر عن خيانة مزدوجة، خيانته هو لها، وخيانة صديقتها لها، إن كانت هذه الصديقة تشاركه الحب. عبارتان تشعلان النار في روح مشيرة وعقلها وجسدها، وتجعلانها تفقد صوابَها، فـ"تختلع" زوجها من مقعده بلا تفكير في العواقب، إذ لم تعد الأشياء تعني لها شيئًا. فأوّلًا لماذا يحبّ غيرها، والأدهى أن يحبّ صديقتها!
وأقول إن العبارة الثانية أقسى، لأنها ستدفع بمشيرة إلى أن تدور في الشوارع، تكلّم نفسها، باحثة عن هذه "الصديقة" التي يحبُّها زوجها رشيد (غير الرشيد طبعًا!)، وتروح تفتش في ذاكرتها وألبوماتها عن "الصديقة" بين صديقاتها، خصوصًا ممّن عرّفت هي زوجَها بهنّ، فتقف على أربع منهنّ، وتروح تستدعيهنّ، واحدة تلو أخرى، وتقوم بما يشبه "التحقيق" مع كلّ منهنّ، وهذه التحقيقات هي ما يصنع هذه الرواية الشائقة التي نتناولها هنا، من دون تفاصيل.
الرواية تقدم "البطلة" مشيرة، في صورة المرأة/ الأنثى والكاتبة "المتحرّرة"، لكنّ تحرّرها غير عميق، وربما كان ينطوي على قدر من الرغبة في كسب الزوج، وفي هذا الإطار ربّما تقدّم له صديقاتها للتعرف والصداقة. ومن هذا الباب فالرواية تقدّم رشيد الروائيّ الشهير، ومن نجوم الرواية، في صورة "دونجوان"، لا يتورّع عن إقامة علاقات مع صديقات زوجته اللاتي تقوم هي بتعريفهنّ عليه، وتعريفه بهنّ، لكنه يستغل تحرّرها، وربّما طيبتها التي تبلغ حدود السّذاجة. فهل اختار وحيد الطويلة هذه الشخصية الأنثوية الرّاضخة؟ ربّما نعم، وربما ثمة ما وراء الأكمة!
المرأة/ الكاتبة المقهورة
مشيرة، "البطلة المهزومة"، في رواية وحيد الطويلة هذه، هي رمز للمرأة/ الأنثى المهزومة في الواقع، وأحد التعبيرات الفنية عن هذه المرأة. وعلى لسانها، هي الراوية الأولى والأساسية في الرواية، تجري كثير من الأسئلة والتأمّلات والحكايات عن واقع المرأة أساسًا، وعن علاقة المرأة بالرجل أيضًا، هذه العلاقة بأبعادها الإنسانية والجنسانيّة (الجندريّة) والاجتماعية، من دون أن ننسى ـ طبعًا ـ نظرة المثقف والمبدع العربي إلى المرأة، وتأطيرها في زاوية ضيقة، وخصوصًا "المبدع" الذي يمثله الروائي النّجم رشيد "الدونجوان".
تظلّ مشيرة طوال الرواية، ومنذ "غيبوبة" رشيد، تقف عند رأسه، أمام سريره، تعاتبه حينًا، وتسائله حينًا، وتشكّك في حياته وحبّه لها أحيانًا، تحبّه وتغضب منه وتحقد عليه، لكنّها طوال الوقت تبحث بين صديقاتها الأربع عن "صديقتها" التي يحبّها. تبحث بجنون وضعف وشعور بالخذلان، فلا نعرف مَن مِنْ بين هؤلاء الصادقة ومن الكاذبة، فالثلاث الأوائل منهنّ ينكرنَ أيّ علاقة سوى الصداقة معه، فيما الرابعة تعترف أنّها هي "الصديقة" المقصودة بحبّه. لكنّ القارئ لا يشعر باليقين حيال شيء.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الأساليب التي استخدمها المؤلف، ما بين الفانتازيا والواقعية، وبين الجدّ والسّخرية، تسهم في وضع علامات استفهام على كلّ حركة في السرد، فهو يريد لقصته، أو "حكايته"، أن تحمل كثيرًا من الأوجه، مع الحفاظ على جوهر القضية المطروحة، الجوهر المتجسّد في مفهوم الحرية والتحرر، والفارق بين هذا المفهوم وبين الانفلات الذي جسّده رشيد، فقضى على روح مشيرة. وكذلك الفارق بين الطيبة والسّذاجة، بين التضحية من أجل من نحبّ، وبين التهوّر في عدم فهمنا للآخر، سواء كان هذا الآخر زوجًا، أو صديقًا، أو صديقة!
مغامرة ومفاجآت نهائية
وكما بدأت الرواية بمفاجأة غيبوبة رشيد، نتيجة "ثورة" مشيرة، فهي تنتهي بمُفاجأتين من العيار الثقيل؛ الأولى أن يصحو رشيد من غيبوبته، فتدخل مشيرة في غيبوبة، ولو لأسباب مختلفة، ثم تقضي نحبَها، والثانية أن يتسلّم رشيد "ترِكة" مشيرة، ومن بينها مجموعة من الأوراق، فيأخذ في قراءتها، لنكتشف أن الأوراق هي رواية، كتبتها مشيرة في أثناء إقامتها بجانب سريره، وهي رواية لحياته معها ومع صديقاتها/ حبيباته، وآخرهنّ تلك التي اعترفت لها بحبها له، فأشعلت لدى مشيرة نيران القلق والغيرة، والرغبة في قتل هذه المرأة، ثم العودة للتصالح معها، وذلك في تداخل للوقائع والكوابيس التي تعيشها مشيرة، إذ ترى أن هذه المرأة تذبحها وتقطّعها وتدفنها... إلخ.
ليس هذا بالطبع عرضًا لرواية تحتشد بالتفاصيل، بقدر ما حاولنا أن نقف على أبرز ملامحها ومحطّاتها، ولكن يبقى السّؤال عن لعبة "الرواية داخل الرواية"، وهي لعبة تنطوي على كثير من المغامرة، حيث نجح الكاتب في خوضها بما لديه من ثقافة وخبرة، وقد استخدم ثقافته على نحو شديد السلاسة، مستخدمًا القصص والحكايات والطرفة، ومستحضرًا كثيرًا من أسماء الفنّانات والفنّانين والكاتبات والكتاب، حتّى إنّه يتكئ على معرفته بحكايات بعض أصدقائه من الشعراء المعروفين في مواضع "فضائحيّة"، إن صحّت طبعًا، وربّما تدخل في باب "الطّرافة"، كما هي الحال مع الشاعر الرّاحل، حلمي سالم، وهو ما لا أحبّذ التطرّقَ إليه، رغم صحّته ربّما!
الرواية عمومًا مغامرة تجريبيّة تُحسب لوحيد الطويلة، فيها كلّ عناصر المغامرة والجرأة والتشويق، بدءًا من الحادثة الأساسية التي تقوم عليها، وتسبُّب مشيرة بغيبوبة زوجها الذي ظلّت حائرة بين حبّها وكراهيتها الشديدة له بسبب خيانته لها، مرورًا بالغوص في أعماق الأنثى، واستخراج ما في هذه الأعماق من مشاعر متناقضة في كثير من الأحيان، وصولًا إلى الخاتمة المفاجئة. هذا فضلًا عن لغة متعددة المستويات، ما بين الفصيحة الأدبية والعميقة، بل إنها المتّسمة بقدر من الشّاعرية، وبين الاقتراب من العامية في بعض المحطّات. كما يُحسب للرواية "فضحها" لكثير من ممارسات وسلوكيّات المثقّفين والمبدعين، وكثير من الادّعاء في الوسط الثقافيّ، الأدبيّ والفنيّ، بأسلوب يقارب أدب السخرية الذي تفتقر إليه الكتابة الأدبيّة العربية، أو تكاد.