Print
عزيز العرباوي

"فتنة بذرة الجمال".. في مداعبة النص

1 أبريل 2022
عروض



 


اختار الكاتب الصحافي والناقد المغربي عبد العزيز كوكاس في كتابه "فتنة بذرة الجمال: محاولات في مداعبة النص" الصادر عن منشورات النورس عام 2021، نصوصًا أدبية لمقاربتها نقديًا على أساس كونها نسيجًا لإقامة علاقات عشق معها امتدت لسنوات طويلة، إضافة إلى نصوص أخرى فاجأته بشكلها البنائي واكتنازها لمعنى متحول، يغتني ويتجدد مع كل مصاحبة أو ألفة في عملية القراءة؛ هي نصوص تحترف اللعب من خلال مسار خاص يكتسي سلطة فرضت نفسها على أجيال متتالية وما زالت تفعل. إن ما يجمع هذه النصوص كما يرى كوكاس هو أن فيها بذرات من جمال الجسد الإبداعي، أو علامة فارقة في مسار تطور النصوص وتناسلها الإبداعي سواء كانت شعرًا أم سردًا أم كانت تقع بينهما، تلك النصوص التي تقود القارئ إلى باب الغواية بأفق مفتوح على التلقي تجريبًا ومغايرة وإبدالًا في الكتابة.

استطاع الناقد عبد العزيز كوكاس أن يختبر مسارات جديدة في نصوصه المختارة لاستحداث فتنة بذرة الجمال، أو ما يسميه القدماء "ماء النص ورونقه"؛ وفي هذا الصدد يستحضر تفريق رولان بارت بين نظاميْن للقراءة؛ قراءة تذهب رأسًا إلى مفاصل النص آخذة في اعتبارها امتداد النص الخطي وهي بهذا تجهل ألاعيب اللغة، وقراءة أخرى تهتم بالرغبة وتتميز عن النقد. فأن يمر الناقد من القراءة إلى النقد، حسب كوكاس، هو أن يقوم بتغيير رغبتنا "وأن لا نرغب لا العمل المؤلف بل لغتنا الخاصة كما يؤكد صاحب لذة النص". وفي هذا الإطار يقف على العديد من النصوص الأدبية، إضافة إلى تطرقه إلى العديد من القضايا الأدبية نذكر منها: الكتابة النسائية والإخصاء الذكوري (مي زيادة، نازك الملائكة...)، المرأة والكتابة الأدبية (أحلام مستغانمي)، وبنية المحكي الشعري وتجلياته (جبران خليل جبران)، المرأة المغربية المبدعة...

المسألة الأجناسية

يعتقد كوكاس أن المسألة الأجناسية في الأدب تعد من بين المقولات المركزية في نظرية الأدب، وتبقى شعرية أرسطو والتأويلات التي اهتمت بها، من بين المراجع الأساسية في هذه النظرية؛ فتصنيف النص ضمن خانة أجناسية يجب أن ينطلق من جوهر النص نفسه، لأنه استطاع أن يحطم القيود والحدود القائمة بين الأجناس الأدبية، وأن يُمزج بين مقولات تنتمي لأجناس ظلت متباعدة إلى حد التناقض. فهذه المسألة تطرح قضايا شائكة ترتبط بحدود الاتصال والانفصال، التقاطع والتداخل فيما بينها، لأنها بكل بساطة "وضعية مشتركة بين الشعرية القديمة والحديثة، كما يقول ديكرو: [إن مشكل الأجناس الأدبية من مشاكل الشعرية منذ القديم، عددها وعلاقاتها المشتركة، كان دائمًا موضوع نقاش]".

إن مقاربة النص الشعري الشعبي ليس بالأمر الهين كما يرى كوكاس، فأن تكتب عن شاعر الزجل في المغرب كأنك تكتب عن مبدع زئبقي في الكتابة لا يحتفي بالكلمة فقط، بل إنه يستدعي اللغة العامية من أجل تشريح الواقع والشعور والوعي والفكر كما هو الشأن عند الشاعر عبد الرحيم لقلع في ديوانه "سلطان الحروف". في حين يستقيم الاتجاه نحو الشعر الفصيح مع دواوين شعرية مكتنزة بماء الشعر ورونقه بتآلفها المطرز والمتناغم بين الصور والإيقاع والأساليب كما هو الشأن مع ديوان "أرق الملائكة" لعائشة البصري؛ ومع الشاعر المتعدد الأبعاد المصطفى غزلاني في دواوينه الثلاثة "خرائط الغيم" و"مهاجر اليتم" و"أشياء أخرى"؛ ومع ديوان الشاعر مصطفى ادزيري "نديم الطير".




شخصيات المحكي الشعري

أثرت متغيرات الوعي الجمالي الغربي وتطور معطيات العلوم الإنسانية عامة، كما يرى كوكاس، على تناول مفهوم الشخصية، ورصد شكل حضورها في التحليل السردي؛ فذوبان الشخصية وفراغها يسمحان بتدخل الروائي وحضوره الكاسح والكبير الذي يقتحم عملية السرد تحت قناع راوٍ، حيث إنه "يعطي قيمة للأحداث وللسرد معًا، فكل ما انتزعه من الكائنات المستقلة بذاتها للرواية الكلاسيكية، يقدمه لنفسه على شكل راوٍ، ولعل هذا ما يفسر الكم المتزايد للمحكيات الشعرية التي كتبت بضمير المتكلم المفرد، يعلل جيرودو هذا النمط من الكتابة السردية قائلًا: [أكتب دائمًا بضمير المتكلم المفرد، لأنني لا أريد أن أصطنع شخصية أخرى، ولا أعتبر ما قمت به سوى ضرب من الهذيان الشعري]".

ومن هنا نخلص إلى أن بطل المحكي الشعري يتحول إلى كائن زئبقي لا يمكن القبض عليه، وهو ما حاول ج. إ. تادييه تأطيره من خلال محكي جيرودو، بروست، كوكتو ولاربو، حيث يصير البطل عنده مجرد رؤيا وصور وأحلام ولغة، فهو الذي يعيد خلق العالم من جديد، هذا العالم الذي لا يوجد إلا في نظرته، وتشوهاته هي التي تحرك المشهد فيما تبدو باقي الشخصيات كظلال أو كأشباح تخرج من العدم بحيث يصير السارد هو البطل الرئيس وتتحول باقي الشخصيات إلى مجرد دمى متحركة. فبطل المحكي الشعري بدون محتوى يحدد معالمه، حسب كوكاس، ليس له أي ماضٍ يعود إليه، بل ليس له غير المشاهد الممنوحة له، ومن ثمة نشعر كأن ليست له انفعالات دائمة، فيما علاقاته بباقي الشخصيات الأخرى تكون دائمًا منحرفة لأنها ببساطة ترتبط بالحمل وتعانق ضفاف الأسطورة، فهي مجرد مخلوقات لغوية وظلال شاحبة يمنحها السرد حياة فاتنة فيما يتدخل السارد دائمًا ليمارس عليها سلطته الخاصة عبر وسائل متعددة.

بستان السيدة

أما أن تختار الكتابة عن نص روائي باذخ مثل نص الروائي عبد القادر الشاوي "بستان السيدة" فأنت تحاول أن تبحث عن معنى حيوي لمفهوم الرواية وانفتاحه على كل الإمكانات الجمالية التي تستدعي الحلم والتأمل والوهم وأشباهه عبر كتابة تسلط الأضواء وتضع نقط الاستفهام حول القيم والعواطف والمشاعر والعلاقات والأنساق والبنيات الثقافية والتمثلات التي تحملها الرواية في حد ذاتها. 

فنص عبد القادر الشاوي هذا غير قابل للاحتجاز النصي، فهو يرسم مساره الحر في ذاكرة المتلقي المفترض ليرسو على شكله الأجناسي، باعتبار أن المؤلف الروائي لا يفرض صيغة رواية إلا بما تفرضه مواضعات المؤسسة الأدبية، لكنه في إطار آخر، وخاصة في فجوات النص ومضمراته "يقوم على الالتباس، الاشتغال على النص أثناء كتابته ومساءلة أدوات الكتابة، موضوعًا وأسلوبًا وبرنامجًا سرديًا". وفي هذا الصدد يؤكد كوكاس أن الرواية "بستان السيدة" لعبد القادر الشاوي "تولد من تأملات فلسفية حول الانتحار، انتحار حنان الداودي المعشوقة الافتراضية لمؤلف الرواية الافتراضي، نهاية بعد بداية حب مفترض، حالم وواهم... موت حنان جاء في سياق تجربة ترجمة كتاب من اللغة العربية إلى الفرنسية، أي منح النص المراد ترجمته حياة جديدة في حضن لغة أخرى".