Print
رشيد الخديري

"بنصف سماء".. مَأْدبة شعريّة بطعم الوجع والفقدان

11 مايو 2022
عروض





"بنصف سماء" هو العمل الشّعري السادس في مسار الشاعر المغربي محمد عرش، بعد المجاميع الشّعريّة الآتية: "أحوال الطقس الآتية/1988"، "أنثى المسافات/1996" "مغارة هرقل/2009"، "كأس ديك الجن/2012"،"مخبزة أونغاريتي/ 2018"، وتأتي هذه التّجربة الشعرية الجديدة للتأكيد على سيرورة الشعر والآفاق الجمالية التي ما فتئ يفتحها في جسد القصيدة المغربية منذ سبعينيات القرن الماضي. تجربة محمد عرش في الكتابة كما تجربته في الحياة، نصوص مُهادنة، هادئة هدوء أفروديت، مفتوحة على احتمالية المعنى وتأويلية القصيدة بما تنطوي عليه من تحولات وافتراضات، فمسار الشاعر الممتد في الزمن الشعري المغربي، يظل أبدًا ممهورًا بوعد شعري له خصوصيات معينة، ولعلّ من أبرز هذه الخصوصيات احتيازه لشعرية تنتصر للأنثويّ والطُّفُوليّ في الآن نفسه، أليست الأنثى هي البدءُ والمنتهى، المهد والمُشتهى؟ أليست مراقد الطّفُولة، أوّلُ البدايات، أمّ البدايات؟ وعليه، فإن مجهول الشعر عند محمد عرش يَتَخَلّقُ ضمن تُخُوم هذا المُتَخّيل الشّعري ويَلتحمُ به لغةً وإيقاعًا وتركيبًا ووعدًا. يَتَفَتّحُ كتابُ الطُّفُولَة ويَتَوَهّجُ في هذه الاعترافات: "على باب المقبرة/ قطرة اليتم/ في الكأس/ نسيت ظلها/ وتاهتْ/ ها رياح الغابات تراقص ذكريات الغيوم/ هل ماتت طفولتك/ تحت أقدام النائحات/ وأنت تحبو نحو النار/ علاماتها اعترافات قديس.." (اعترافات/ص: 8-9).

كثيرًا ما تبدّى صوت الطّفُولة في نصوص محمد عرش ممتزجًا باليتم والانطفاء والمكابدة. طُفُولة تلتحم بالذّاتيّ، بخبز الأم، بعزلة بيضاء هناك، حيث الأنثى – أفروديت تستعد للظفر السعيد في حضرة الكتابة، ومن الكتابة ينبع الماء، أقصد ماء الكتابة كما درجت على تسميته المقولات النّقدية العربية، وبين الماء والجسد الأفروديتيّ، صلة توصل الماضي بالحاضر، ولحظة الشعر بلحظة تماس الشاعر مع الزمن الشعريّ. تتوالى الجُمل الشّعريّة ناسجةً خيوطها وبوحها السّامي من فيوضات المعنى، وحريّ التّنصيص ها هنا، الحضور اللافت للأم، ليس في هذا المنجز الشعري فحسب، وإنّما في كل التّحققات النّصيّة، كنوع من الاستعادة أو اقتفاء أثر النداءات البعيدة، وبين الغامض والمجهول في رحلة الكتابة.. في رحلة الشعر، يَتَشَعّبُ المعنى، مُعلنًا الإقامة في الشعر.. في حضن الكتابة وفي حضن الأم، المدار الأساس في تجربة الشاعر محمد عرش، لنقلْ إنّها إقامة مُضاعفة في جوهرانيّة الشعر وما يضطلع به مسؤوليات. يقول الشاعر: "آه/ يا دمعة أم/ تبكي ظلها/ انهمري/ من ينثر القمح؟/ من ينصب فخاخ المعنى/ قريبا من النّهر/ ها طائر/ مثل أرملة/ تغزل الصوف/ في انتظار المساء/ في انتظار صور الغمام/ ابك وأنتَ تتوسّد عتبة خارج النص/ لا تبك وأنتَ لا تتوسّد عتبة داخل النص/.." (قبعة المجاز/ص:17- 18)، هي ذي الإقامة في الشعر، جنوح نحو استعادة ما تبقّى في دروب الحياة واليتم والوجع، ومنها يَتَفَتّقُ الوعد الشّعريّ، ويسير بالمُتخيّل نحو الانتساب للكلمات والأشياء والعالم والإنسان، غير أنّ هذه الانعطافة في التّحقق النّصيّ المُستند أساسًا على البوح الطّفوليّ الشّفيف والالتحام مع صوت المرأة، الآتي من تخوم الذاكرة، (هذه الانعطافة) لم تُخف انشغال الشاعر بهموم الإنسان ومآله، حيث نلمسُ عودةً سريعةً إلى شعريّة مسكونة بوهج الاحتجاج التي ميّزت الشعر المغربي في فترة السبعينيات من القرن الماضي، فانحصرت مهمة الشعر وظيفيًا في مهمة الهتاف والاحتجاج المباشر، لهذه العودة إذًا، وجهان: وجه رمزيّ وهو إعادة الاعتبار للشعر "الوظيفيّ" الذي مارسه جُمَّاعُ الشعر المغربي في مرحلتي: السبعينيات والثمانينيات، ووجه ثان، يتجلّى في البعد الأنطولوجي، على اعتبار أن الشعر يَتَعَيّنُ وصفه أسرارًا من اللغة والتّخييل والتّركيب والفيض والمعرفة، وبين هذا وذاك، لم تَتَخَلَّ القصيدة عند محمد عرش عن مداراتها، من حيث هي ملامسة للوجود الإنساني وتعبير حيّ عن الكينونة والذات: "هذه اللغات/ تأتي من آثار المناجل/ وصراع الأمواج/ هي مالحة إذن/ وعرقانة/ ذاك حلم/ فرانز فانون.." (ص/18-19).

إن العبور نحو وعود الشّعر وأسراره، هو عبورٌ متعدّد، ومُتَشَعّبٌ في الآن نفسه، في هذه الإضمامة وغيرها، نلمسُ تحوّلًا واضحًا على المستوى التّيماتيّ، وإن هذه المجموعة الشّعريّة الأخيرة، لم تفقد صلتها بمدارات الكتابة عند الشاعر، أضفْ إلى ذلك، ما تميّزت به من انغماس في روح الشذرة والاشتغال على الجمل الشّعريّة القصيرة: "من أنت/ باقات يابانية/ زهورها، هايكو/ من أنت/ نقطة في كأس، فاضت.." (أرض بلا جاذبية/23-24)، فالشاعر ها هنا، يختبرُ تجربته الشّعريّة بما هي تجسيد للوجود والحلم والحلم الرؤيويّ، لذلك، فإنه يحرص على التّنويع في المعرفة الشعريّة، عبر دمج التّخييليّ بالذّاتيّ، التّعبير الجمليّ الطويل بالشّذريّ، السّرديّ بالشّعريّ، المرجعيّ بالرّمزيّ، الجوّاني بالبرّانيّ في مسعى للانهمار والتّعبير عن الدّفق الإنسانيّ عبر مضاعفة المنافذ إلى تسرّب الشّعر وتحقُّقاته النّصيّة.

في ضوء ما أومأنا إليه أعلاه، يُمكننا العثور في "نصف سماء" على بعض الإشارات التي أسهمتْ في تحقق الوعد الشعريّ، نذكر منها:

أ‌- الانشغال الدائم والأبديّ على الإقامة في مجهول الشّعر، من خلال توليد المعنى وإنجاز الكتابة وفق رؤية للعالم يطبعها التّأمل والمتابعة والحفر العميق في افتراضات القصيدة ومُستنداتها. إن محمد عرش يصون وعد الشّعر انطلاقًا من وعي المضاعف بقيمة ما يَكتب، وما قيل ولم يُقل، وما ينجزه من شعريّات لا تنتصر للشكلانيّ السّكوني، بل هي قابلة للامتداد والتّمدد وتجاوز الحدود الضّيقة، ووفق هذا التّصور للكتابة، فإن الشاعر يحرص على تتبع ينابيع الكتابة، الخفيّ منها والظّاهر، مما يضمن توقّدها واستمراريتها.

ب‌- العودة إلى شعرية تنشغل بصوت الأيديولوجيا، حيث الإنسان والأرض والجوع والقهر والعبودية والقمع، وبدت هذه الإضمامة الشّعريّة – في جزء منها- كما لو كُتبت في فترة السبعينيات، وسواء أكانت هذه العودة مُتعمّدة أو عن غير قصد، فإنها تُمثلُ انعطافة إلى البعيد، بهدف خلق تجاور بين النّصوص البعيدة بقصائد آنية وقادمة في الآن نفسه، علمًا أن الشاعر سبق أن أصدر في بداية الثمانينيات مجموعةً شعريةً  تحت مسمّى "أحوال الطقس" يحتفي من خلالها بصوت الشّعب في قالب تنبّؤي هُتافي، لذلك، فإن الكتابة عمليّة مُعقدة مُتشَعّبَة تنطلق من صميم الشعر وأسئلته ومسؤوليته أيضًا في الإنصات لنبض الإنسان المقهور، المشحون بأسئلة الواقع الضاغطة.

ت‌- الانفتاح على جماليات شعرية جديدة لم تعد تتحمَّلُ التّأجيل مثل الشّذرة، فقد لمسنا اشتغالًا واضحًا على هذا الوهج الشّعريّ المختلف والمُسهم في استكمال تأويليّة المعنى وبناء نصوص شعريّة مفتوحة على احتمَالات شتّى، ومن مُنطلق الحرص الذي يوليه الشاعر لسيرورة القصيدة المغربية المعاصرة، فإنه يعمدُ إلى التّجريب. تجريب مسالك أخرى للكتابة، ولعلّها التفاتة رائقة للشذرة الشّعريّة باعتبارها امتدادًا لولبيّا للشعريّة العربيّة وحد هبّإحدى هبّات الحداثة الإلكترونيّة في الشعر، غير أنه، وتوازيا مع كل ذلك، يظلُّ محمد عرش وفيًّا لإشراقاته الشّعريّة التي خطّها بأناة وحرص منذ سبعينيات القرن الماضي، وما زال يرصُّ مُتخيّلها ومجهولها، بما يليق بسأأأأسرار الشعر وفيوضاته.

وعليه، فإن هذه التّجربة الشعريّة الجديدة، تأتي لتُكمل البناء النّصيّ وتحويل التيه الشّعري إلى مبادرة للحلم والحب والحياة وتعويض "رمزي" عن حنان الأم المفقود والإجابة عن نداءات الشعر، في كل زمن، وفي كل مكان، فالحق في الشّعر هو حق في الحياة، ورهان على الذات من أجل خوض غامضها ومجهولها انتصارًا لسؤال الشعر والكتابة.