Print
عمر شبانة

رواية "تماس المدن".. الواقع العراقيّ حتّى سبعينيات القرن الماضي

12 مايو 2022
عروض

 


تنطوي الرواية الجديدة/ القديمة "تماس المدن" للعراقي نجيب المانع، وهي روايته الوحيدة، على روايتين تتشابك خيوطُهما التي نسجها المؤلف ليخوض من خلالها محاور عدّة في عمل واحد؛ أبرز هذه المحاور "قصّة" أنيسة الفتاة (العانس) في علاقتها وصراعها مع صور من الذكورة، وضمن هذا المحور ثمة النظرة إلى المرأة في شرقٍ متخلف اجتماعيًّا، وثانيها علاقة شرق/ غرب، وخصوصًا على مستوى علاقة الرجل العربي مع المرأة الغربية، وثمة محور ثالث يجسّد رواية ثانية لكنها على صلة بالأولى، وهو محور يتمثّل في علاقة المناضل بالكون والحياة والحب والزواج وغيرها من التفاصيل، وغير هذه المحاور ثمة محاور في المضمون وأخرى في الشكل والأسلوب واللغة كما سنوضح تاليًا. وبسبب من ثراء المادة الروائية، نكتفي بقراءة أبرز ملامحها، شخوصًا وحوادث ومحاور شكّلت بنيانها.

يقول الناقد حمد البلهيد، في تقديم الطبعة الجديدة من هذه الرواية (صدرت مؤخرًا ضمن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، وكانت صدرت منها طبعة وحيدة في بغداد أواخر السبعينيات، إنّها تبرز كون مؤلّفها كان متأثرًا بكلّ من دوستويفسكي وبروست وستندال خصوصًا، وبالأدبين الروسي والفرنسي عمومًا، "وقد قاده شغفه بالمعرفة، وغنى التجربة، إلى درجات قصوى من المثالية والأحلام الوجودية، فجعل الرواية تجريبًا فكريًّا يعبّر عن مجتمع يستشرف مستقبله، حيث تلك لحظة القلق، مجتمع تتناهب أفراده متاهات الخوف والأهواء، والرواية تصور المجتمع العراقي في تلك اللحظة التاريخية: أحداثها حاضنة لسياق تلك الحقبة التي شهدت نشاط المدّ اليساري ثم انهيار الأحلام، اهتمت بفكرة الوحدة العربية وعبد الناصر وفشل الفكرة والتجربة". ويتابع "لذا سوف نطلّ على زمن هو زمن الأحلام والآلام بحوادثه وشخوصه". ويختم البلهيد "ونحن نقدم إلى القارئ هذه الطبعة الجديدة من رواية "تماس المدن" إنما نحاول رفع بعض الإهمال النقدي الذي قوبلت به الرواية في حياة مؤلفها، ولعلّ في تغيّر السياقات الثقافية فرصة لإعادة تأويلها وبعثها من النسيان، وهذه أقلّ من تحية خجولة لنجيب المانع، ذلك المثقّف النادر".

مزيج الفكرية والواقعية

هي إذًا رواية تنتمي إلى نمط الروايات الفكرية والذهنيّة، إذ تحتوي على نقاشات فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية مطوّلة، لكنّها تقدّم هذه النقاشات والأفكار من خلال أدوات سرديّة شتّى، تُعنى عناية شديدة بالأساليب التي تجعل منها رواية تجريبيّة وريادية بامتياز، فهي تستخدم أدوات السرد والتصوير والتشبيهات الغريبة ولغة الحوار بنجاح كبير يجعل من الحدث غنيًّا وبعيدًا عن الجفاف الفكريّ، كما تلجأ إلى الوصف والتصوير والتأمّل، فضلًا عن استخدام مبدِعٍ للرسائل بين الأصدقاء، إذ تكون الرسائل وسيلة ناجحة لنقل صورة الواقع والتاريخ والعلاقة بين الحضارات، دون أن تأخذ صيغة المحاضرات المملّة والمُضجرة.. بل إنها نمط من الرسائل الساخرة التي يندر العثور عليها في الأدب العربي، سخرية تبلغ حدود أن يسخر الصديق من صديق، بل من نفسه أيضًا.

وإذ قلتُ في مطلع مقالي إن الرواية هي روايتان، فإنما لأنظر إلى قصة "عشق" بين أنيسة وأحمد رضوان، العشق الذي سرعان ما ينتهي من جانبه، فيبقى هو في بيروت وتسافر هي عائدة إلى بغداد، لكن عشقها له يستمرّ بجنون وإلحاح ومطاردة، فهو حلمها المتمثّل في "الشاعرية في تناول العالم" كما تظل تردد، إلى درجة أن تبلغ ما يسمّى سنّ "العنوسة"، فهي ترفض أربعة ممّن "يلاحقونها" كلّ بطريقته و"ذكوريّته" التي تتصدّى لها "العانس"، محتمية بشخصيتها وعشقها من طرف واحد مع أحمد.

عدد من كتب نجيب المانع وفي الوسط غلاف الطبعة القديمة من الرواية


وهنا تبرز صور المجتمع المتخلّف في نظرته البائسة إلى العانس التي يريد الكلّ اصطيادها، لكنّها تقاوم وتظلّ تحلم بعودة أحمد الذي يظل يوقظ هذا الحلم برسائل متباعدة. ويستمر هذا حتى نهاية الرواية المتمثلة في وصول صحف لبنانية تنبئ بمقتل شخص اسمه أحمد، فحين تتأمل الصور ينتابها الشكّ إن كان هو أحمد(ها)! والمهمّ في هذا الجانب هو ما يبرزه المؤلّف من نظرة المرأة نفسها إلى المرأة، حيث يبرز في الحوارات أن الكثير من النساء تفضّل "ظِلَّ راجِل ولا ظلّ حيطة"، فضلًا عمّا يبرز من تمييز هذه المرأة بين أولادها الذكور وبين بناتها، فمن حديث امرأة عن زواج بناتها الأربع إنه هو الأهم "أما مَن تزوجنَ وكيف يُعامَلنَ، فهذا لا يهمّ. وأمّا أبناؤها الثلاثة فليس مهمًّا أن يظلّوا عُزّابًا لآمادٍ طويلة". وهو طرح كان نادرَ الحضور في زمن كتابة الرواية ونشرها.

يشتغل المؤلف على هذا المحور، الحامل للهمّ الاجتماعي أساسًا، من خلال وسائل وأساليب عدّة أيضًا، يطغى عليها أسلوب التأمّل في الذات وفي الآخر، تأمّلات تجيء في صور استعادة الماضي عبر (فلاش باك)، أو التفكير في المستقبل المجهول في لحظات الارتباك التي يعيشها شخوص الرواية. ومن بين ذكرياتها يأتيها صوت أحمد مخاطبًا أو معترفًا "أنا عديم القدرة على الثبات فوق أرض الاستقرار المحايدة.. إنني أشدّ سطحية من مدّ جذوري في أرض مستقرّة". أو قوله في إطار البعد الوطني والقومي الذي يأتي عبر خيط رفيع "إن هذه الأمّة أكبر مني بمائة وخمسين مليون مرة، ولا بد من الانتباه لهذه الملايين من النداءات قبل أن يلبّي أحدُنا نداء نفسه، وإن كان ذلك عسيرًا كلّ العسر".

في المحور القوميّ

منذ الفصل الحادي والعشرين تبدأ الرسائل بين صديقَين عراقيّين، سليم الصابري في بغداد، ورائد عبد الكريم في باريس. وإذا كانت أنيسة وأحمد يلعبان دور البطولة في الفصول العشرين الأولى، فإنّ سليم الصّابري ورائد سيحتلَان مركز السرد والرسائل في فصول قادمة، ستتركز في هموم المثقف العراقي بأشكالها، قبل أن تعود الرواية إلى أنيسة وأحمد الذي سيلتقي بسليم في بيروت، ثم ليرسم المؤلّف النهاية المأسويّة بغموض نهاية أحمد وبصدمة أنيسة.

الرسائل بين الصديقين "الكاتبين المفترَضَين"، رسائل ساخرة، تلك السخرية التي تحمل وجوهًا عدّة، المأسويّ والهزليّ والعميق والمرح وغير ذلك كله، ولكن بلغة أدبية بديعة، وتحمل ثقافة واسعة ومعمّقة، في الثقافة عمومًا، وفي الأدب والفنون، الموسيقى والتشكيل وغيرهما، ثقافة تقدّم لقارئها إطلالة على ثقافة ذلك الجيل الذي أطلق عليه البعض من العراقيّين "جيل الستينيات"، وإن كانت تعود بنا إلى تجارب الروّاد والخمسينيات وثقافتهم. 

وإلى الجانب الثقافي، بل إلى جواره ربّما، تُبرز الرسائل مواقف من الكون والوجود، من السياسة والمرأة. وفي إطار الموقف من علاقة الرجل بالمرأة مثلًا، يبرز الموقف "التقدّمي" للشاعر الصابري في انتقاده لصديقه رائد وعلاقاته النسائية التي يبدو فيها "دون جوان"، وذلك حين اشتكت له الفرنسية أوديل من صديقه رائد الذي تتعدد علاقاته ولا يحترم المرأة، فكتب سليم لرائد ما بين الهزل والقسوة طالبًا منه ألّا يعامل المرأة "كأنها صينيّة بقلاوة"!

وبعد تأمّلات كثيرة في الوجود والفكر، وكتابة الصابري للمقالات الساخطة، يجري اعتقاله وتعذيبه ليعترف عمّن "وراءه"، ورفضه للاعتراف، وتهديده بالأشدّ، ثم الإفراج عنه بكفالة من صاحب الصحيفة التي يكتب فيها، يهرب إلى دمشق مثل كثير من الشيوعيين ومن القوميّين العراقيّين، فيكتشف فيها "جنّته"، ويكتب عن "الوحدة السورية المصرية، وسحر عبد الناصر"، وحين ينتقل إلى بيروت، يكتب عنها كما لو أنه يكتب عن بيروت التي نراها اليوم، وليست بيروت الستّينيات والسبعينيات: "في بيروت، في بستان الفقدان هذا، تنمو الرّؤى والمصائرُ والإرادات.. فهذه المدينة تهلك في انعدامها على التعيُّن، في انعتاقها من التبلور.... وهناك مَن يرونها مدينة المال، والمال فيها قِشريّ، نعم في مصارفها التي لا تُحصى أموال مودعة، ولكن يمكن سحبُها في أية لحظة من لحظات الهلع، وعندها يتَهاوى اقتصاد هذا الكيان الورقيّ".

في النهاية، نحن حيال رواية يمكن القول، بلا تردّد، إنها تركيبة تجريبية صعبة، لكنّها تؤشّر إلى وعي مبكر بالهزائم، ودعوة إلى "تجميع الأمّة"، لكنّها دعوة إلى التأمّل في شؤون الوجود كلّها، وأسئلة كثيرة في هموم الإنسان الفرد والمجتمع، لكنها لا تقع في الخطابيّة، بل تشتمل على تأمّلات شاعرية في غير موضع منها، ولعلّ أوصاف البصرة من بين أجمل ما فيها، حتى وهو يصف الضياع في صحرائها، والعيش مع عائلة ريفيّة وما قدّمته له في ضياعه ذاك. وأكاد لا أشكّ في أن الكاتب يصف تجارب شخصيّة عبر شخصية الصابري، فهل هو كذلك؟ ربّما! وهل هذا كلّ شيء؟ بالتأكيد لا، فما هو إلّا قطرات من بحر الرواية.