Print
محمد هديب

"كتاب الحمّص".. تاريخ الطبخ والازدراء والقداسة

5 مايو 2022
عروض

 


يذكر شمس الدين المقدسي في سِفره الكبير "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" أن أهل الشام يعيبون على المصريين أكل الحمّص ويسخرون قائلين "نقلهم الحمّص وجبنهم الحالوم وحلواهم النيدة (حلوى عاشوراء من القمح المسلوق المحلى)".

والنقل، بفتح النون وضمها، هو ما يمكن إجماله هذه الأيام بالتسالي من مكسّرات وفواكه جافة، ومنها "القضامة"، أي الحمّص المحمّص، أو الحمّص الأخضر المشوي، وهما أو أحدهما ما كان المصريون يتنقلون به، أي يتسلّون.

لاحظوا أن هذا الحكي وقع قبل أزيد من ألف عام. قبل أن تتقلب المذاقات على مهلها طوال هذه القرون، ليصبح الحمّص في بلاد الشام كما هي صورته اليوم، لو أزحته من المشهد سيبدو سكان هذه البلاد أشبه باليتامى بلا أمومة غذائية، إذ صار الحمّص أساسيًا ونجم الموائد العابر للطبقات، وسمح للمصريين أن يسخروا هذه المرة من صنع الفلافل بالحمّص، أو حتى مجرد خلطه بالفول الذي يرفض الشراكة مع قرنيات أقل مرتبة. كثير من المصريين لا يعلمون أن انتماء الشوام للحمّص، وقد تنكروا له سابقًا، جعلهم يخترعون طبقًا من الحمّص المخلوط بالحمّص وسمّوه "مسبّحة".

"كتاب الحمّص" الصادر حديثًا، يتتبع فيه الباحث الفرنسي روبير بستولفي والكاتب والناشر السوري الفرنسي فاروق مردم بك هذا الصنف من القرنيات "ذات المسار الخفر في التاريخ"، ونصل معهما إلى مناطق بحثية شائقة لحبة الحمّص التي رافقت البشرية منذ ما قبل التاريخ.

والكاتبان، ولهما كتب أخرى في تاريخ الطعام، أصدرا "كتاب الحمّص" بالفرنسية عام 1998 وجاءت ترجمته أخيرًا إلى العربية عبر مشروع "كلمة" في الإمارات واضطلعت بالمهمة المترجمة ماري طوق.

وكان بعض هذا الكتاب بيانًا تضامنيًا بسبب ما لحق بهذه القرنية من حط في قدرها، إذ ارتبطت بالتقشف وشظف العيش وكان هذا الحط متفاوتًا في حوض البحر الأبيض المتوسط الذي غالبًا هو الموطن الأول للحمّص.

فبحسب عالم النبات السويسري كاندول (1778-1841) هناك 15 نوعًا من الحمّص البري المعروفة يعود أصلها إلى اليونان أو آسيا الغربية وواحد منها من الحبشة.

ولكن العثور على أدلة تثبت استهلاكه منذ الألفية السابعة قبل الميلاد في جنوب فرنسا، يجعل الكتاب يقترح أن العلاقات التجارية بين شرق المتوسط وغربه أقدم عهدًا مما نعتقد، أو أن تدجين الحمّص البري حصل في الوقت نفسه في أماكن مختلفة.

 لوحة جورج دو لاتور.. رجل وامرأة معدمان يتقاسمان صحن الحمّص



ويلاحظ الكتاب عبر أمثلة عديدة كيف نُظر إلى الحمّص نظرة استعلائية في الحواضر بوصفه طعام الأرياف، ولكن أيضًا ارتبط استهلاكه أحيانًا، ولا يزال، بطقوس وتقاليد مهمة وخصوصًا برموز زمن الفصح لدى المسيحيين، حتى كان يقال في تقليد أوكستاني (جنوب فرنسا) "إن المنازل التي لا يؤكل فيها الحمّص يوم الشعانين ليست مسيحية حقًا".

بل قبل ذلك الزمن، لم لا يكون الحمّص أيام فراعنة مصر جزءًا من تقاليد دينية؟ إذ أن اكتشاف قبر في دير المدينة بصعيد مصر يشير إليه الكتاب، يعود إلى 1300 سنة قبل الميلاد، وضمن ما رافق الميت إناء مليء بالحمّص الذي كانوا يسمونه "هرباك".

في الحضارة اليونانية كان الحمّص يقدم خلال جلسات الشراب محمّصًا مع الفواكه الجافة والكعك بوصفه من التسالي المقرمشة.

ودائمًا هناك ظرف تاريخي يحكم سيرة ومسيرة الأشياء، يدفعها إلى المقدمة أو يرجع بها إلى الوراء.

وكان الحمّص غذاء الطبقات الدنيا، بيد أنه في العصر الروماني تجده ذا قدر عال عند ملك الفرنجة شارلمان الذي أمر بزراعته في جميع أراضي الإمبراطورية.

هذا لم يمنع، إذا لخصنا أبرز ما يأتي به الكتاب في هذه النقطة، من وجود حمّص مبجل لدى ملك، في محل الازدراء بوصفه قرنية تحيل إلى طبقة كما هي الحال في روما القديمة حيث المترفون لا يقربون هذا الطعام، وصولًا إلى القرن العشرين حين يقول جان بول سارتر لوصف تبدل الحال من الوفرة إلى العوز "اليوم شريحة لحم طرية من البقر وغدًا حمّص".

هذه القرنيات العظيمة، ورغم ما قدمته للبشرية من خدمة لا تزال مجال استعارة للدونية وخمول الشأن، تأتي على لسان فيلسوف مثل سارتر كما تجري على ألسنة العامة، في أمثلة شعبية شهيرة.

أبعد من ذلك كان الحمّص وصف استهزاء بشعوب، إذ يورد المؤلفان كيف كان الكاتب المسرحي الروماني بلاوتوس (184- 254 ميلادية) يهزأ من الأيبيريين الذين يؤثرون تناول هذا النوع من البقول، وكما قال الشوام عن المصريين بعد ذلك بسبعة قرون.

بل إن هذه القرنيات لم تسلم من ابن سيرين وهو يفسر الأحلام إذ أن رؤيا الحمّص في المنام تعني الحزن أو الاضطراب، ولم تسلم من العباد وهم يتنمرون على قصير القامة حين يقولون في مثلهم الشعبي "بنقّي الحمص عالواقف".

بالتساوق مع كل هذا الازدراء وليس بديلًا منه سينطلق دعاة مشهورون لجعل الحمّص أمثولة للفضيلة. فالفساد في اليونان ومن علاماته المآدب الباذخة يجد أحد المتصدين له، ألا وهو أفلاطون الذي دعا إلى نظام غذائي يقوم على الحمّص لاستنهاض رجولة المواطنين.

إذن، الازدراء والرجولة والمقدس استعملت الحمّص جسرًا للتعبير. لكن خذ عندك الحمّص في السحر الأسود، والطب الشعبي، ومنافعه للفحولة الجنسية، وإدرار البول، وإدرار الحليب للمرضعات وطرد الدود، وغير ذلك تجدها حاضرة في أدبيات كثيرة يعرضها الكتاب بالتفصيل.

لقد بلغت مناقبية الحمّص أن صار قهوة الفقير. ويسجل الكتاب كيف حلّ الحمص محل البن في كثير من البلدان بأقل كلفة ممكنة، عبر تحميصه حتى الاسوداد وطحنه، وكانت قهوة الحمص رائجة في مناطق أوروبية خلال القرن الثامن عشر، بل أعيد إحياؤها إبان الحرب العالمية الثانية.

ثلاثة أرباع الكتاب ستذهب إلى وصفات منوعة تثبت انتصار حبة الحمّص، عبر 130 وصفة تتوزع ما بين التسالي والمقرمشات والهرائس والأحسية والثرائد والفطائر والأطباق الرئيسية من اللحوم والأسماك والدواجن وأخيرًا الحلويات.

كثير من هذه الأطباق ميراث من تاريخ بعيد تلاقحت فيه ثقافات مختلفة أبدعت في فنون طبخ الحمّص حول البحر الأبيض المتوسط، وخصوصًا في المطبخين البغدادي والأندلسي، وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية، وصولًا إلى الهند التي دجنته وتربعت على عرشه، حيث تبلغ حصتها 70% من إنتاجه العالمي.