Print
إيهاب محمود

"الجمعية السرية للمواطنين".. المهمشون أبطالًا

6 مايو 2022
عروض

 

منطلقًا من الحادث الشهير لسرقة لوحة "زهرة الخشخاش" لفان غوخ من متحف محمود خليل وحرمه في مصر، يبني الروائي المصري أشرف العشماوي سرديته الأحدث "الجمعية السرية للمواطنين" والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، ليحكي عن أبطاله المهمشين، العاديين، محاولًا نقلهم من الهامش إلى المتن، ومنحهم أدوار البطولة حتى لو من خلال نص مُتخيل.

أهدى العشماوي روايته إلى "أولئك البعيدين عن المركز، الذين يتكدسون في الحواشي، ورغم ذاك التكدس، لا تلقي لهم عينٌ بالًا. تصير حيواتهم، مجرد محاولات للنجاة وحسب، وتنقضي أعمارهم من دون أن يعيشوها" مصدرًا إياها بعبارة لافتة: "الحياة جديرة بالاهتمام إذا لم تكن عاقلًا".

"الحياة رحلة طويلة من المتاعب، والسعادة فواصل قصيرة بينها، نفحات فرح محلاة بالصبر ليستكمل المواطنون المواجهة بحلبة ملاكمة، يرتقونها عندما يدق الجرس، يتلقون ضربات موجعة من الزمن، يتألمون كثيرًا، يترنحون أحيانًا، ثم يتهاوون ببطء، وفى النهاية يموتون خاسرين". ربما يكون هذا الاستشهاد من أبرز فقرات الرواية دلالة على مضمونها ومكنون شخصياتها من المهمشين الذين طمح العشماوي في إرسالهم للواجهة.

اختار العشماوي عام 1976 ليبدأ حكايته، وهو العام الذي سرقت فيه اللوحة الشهيرة، غير أنه اختار "عزبة الوالدة" في حلوان (جنوبَ القاهرة) لتكون فضاءً مكانيًا للسرد، وقد تمكن عبر هذه العزبة، التي استمدت اسمها من اسم قصر بناه الخديوي إسماعيل من أجل والدته "الملكة هوشيار خاطر"، من خلق خط سردي مواز يحكي من خلاله فترة حكم الخديوي إسماعيل، ليمزج من جديد بين التاريخي والواقعي ويمرر إسقاطات سياسية، تؤكد بما لا يدع مجالا لشك أن التاريخ يخلق أزمته المتكررة باستمرار، حيث يتصارع الماضي والحاضر في خلق ثنائيات الخير والشر، والقوة والضعف، لتنتج في الأخير خيانة يتجرعها إسماعيل المفتش بيد أخيه بالرضاعة الخديوي إسماعيل، عندما قتله بسبب خلافاتهما المالية، في الوقت الذي يذوق فيه "معتوق الرفاعي" الكأس ذاتها، بيد صديقه وجاره غريب أبو إسماعيل، الذي سرق إبداعه ونسبه لنفسه. ثم استخدمه في سرقة "زهرة الخشخاش"، من دون أن يعطيه نصيبه من ثمن اللوحة المسروقة.





لجأ العشماوي إلى أسلوب المشهدية، ليتمكن بذلك من تجسيد الأحداث وإكسابها صفات الحركة والآنية لتنضح بالحياة. وكانت كذلك وسيلة ناجعة للإحالة، وإنتاج الدلالة وهو ما تجلى في استخدامه عبارة "الإخوة المواطنون"، وأيضًا في دلالات أسماء الشخوص (معتوق، راوية، مينا، زهرة، غريب، شنكل...). ولم يكتف الكاتب بالإحالة اللغوية وإنما استخدم نماذج من شخصياته لتحقيق غاياته الدلالية ذاتها وهذا ما بدا في شخصية "مدحت" الصيدلي وآرائه ومواقفه غير الواضحة، وانحيازاته غير الثابتة، التي تحيل إلى موقف بعض جماعات الإسلام السياسي، تلك التي تتلوَّن وتتغيَّر خياراتها وفقًا لمصالحها.

بدا واضحا ميل الكاتب للمزج بين المتناقضات في تقنياته وحيله السردية التي زاوَج عبرها بين استرجاع لجأ إليه لاستعادة مأساة "معتوق" في طفولته، واستباق ما ستؤول إليه لوحته من اتساع وما ستحويه من شخوص، كما لجأ إلى إبراز تقنيات التناظر والتماثل بين ضعف "معتوق" أمام "غريب"، وبين القط الهزيل أمام الكلب الضخم، عذابات "معتوق"، وعذابات فان غوخ، حبه لـ "راوية" الذي لم يكتمل، وحب الخديوي إسماعيل للإمبراطورة أوجيني. في حين أبرز التقابل بين الجمعية السرية والحكومة، فالأولى تدعم المواطنين ماديًا وتكفلهم، وإن كان دعمها من مصادر غير مشروعة، بينما تنفض الثانية يدها عنهم.

لجأ العشماوي إلى التناص مع الموروث الديني والشعبي، فضلا عن اللجوء لاقتباسات وإسقاطات فلسفية زادت من جاذبية السرد، القلب الذي لا يشيخ وإن شاخ الجسد، البكاء الذي يعلن عن الحياة، و"بالون" الظلم الذي لا ينتفخ إلا بالخوف.

تطرق العشماوي لعدد من القضايا الاجتماعية خلال تلك الحقبة التاريخية التي شهدت عصر الانفتاح في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، حيث الحقيقة غائبة وتائهة وسط سيل من الزيف والكذب. وقد انسابت هذه الفكرة بين جنبات النص، كوسيلة الكاتب للعبور نحو العديد من القضايا الاجتماعية واستثارة مزيد من الجروح النازفة منذ انفتاح السادات، كالغلاء، التضخم، رفع الدعم عن السلع، الغش التجاري وبيع اللحوم الفاسدة وذبح القطط والكلاب، سرقة الأعضاء، رواج المخدرات، تردي التعليم، الاختلاس، تجسس الكل على الكل، الأعراف الفاسدة، القبلية، المحاكمة الاجتماعية للأبناء على ما اقترفه الآباء.

بدا الزيف وكأنه ثيمة رئيسية للنص، وتشاركت الشخصيات في اقتراف الخطأ، لينجح بذلك الكاتب في أن يزين أخطاءهم بالتعاطف المبرر كنوع من الانتصار الضمني للضعف الإنساني، وأيضًا كمحاولة لمحاكمة الجناة الحقيقيين الذين يفرون دائمًا من العقاب. كما أنه - وسط قتامة المشهد- زجَّ بومضات مضيئة تعبر عن الجوهر الحقيقي للمجتمع المصري. وبدا ذلك في تكافل أهل العزبة، وإسراعهم بتقديم العون لكل من يحتاجه منهم، رغم الفقر الذي يرهقهم ويدمر حياتهم، حتى ليجد القارئ نفسه بين شخصيات يعرفها، وينجذب إليها، ويتماهى معها. ثم توَّج الكاتب هذه المشاركة الفاعلة من جانب المتلقي، بنهاية مفتوحة، منح حق تقريرها للقارئ والتاريخ.