Print
تغريد عبد العال

"الجهة الأخرى من الأشياء".. شعر قادم من العزلة

14 يونيو 2022
عروض
الخضر شودار  



يقول الشاعر الفرنسي آلان بوسكيه في إحدى شذراته: "الشعر هو يومي الثامن، وشهري الثالث عشر، وفصلي الخامس"، في إشارة إلى أن الشعر هو ذلك الزمن ربما الذي لم يحدث بعد.

وحين تخرج كتابة شعرية عن السائد، فإنها تحفز القارئ للحفر بعيدًا للذهاب في طرقات جديدة، والنظر إلى الأشياء بعيدًا عما نعرفها، فتبدو القصيدة مكانًا آخر.

في كتابه الشعري "الجهة الأخرى من الأشياء" (دار خطوط وظلال، عمان، 2022)، يطل الشاعر الجزائري الخضر شودار على العالم من مكان آخر وكأن كل شيء حوله يحرضه على الذهاب إلى جهة أخرى. هناك تبدو الأشياء أكثر براءة وتبدو لغته العذبة وكأنها عالم من الأشياء التي تتحرك وتتحدث. فندخل إلى عالمه لنصغي إلى صوته الخاص القادم من العزلة، الشاعر هنا يرى الحياة كتابًا آخر، نقرأه ونحن نصغي إلى شخوصه المختلفة. فكأنه في حواراته الداخلية مع بيسوا وشيمبورسكا وكتاب آخرين يذهب معهم إلى عالمهم الخاص لنكتشف من خلال تلك اللغة التي ينسجها بينه وبينهم أنّ الكتابة هي قراءة أخرى للأشياء.

 لا بل ربما كما يقول الشاعر في إحدى شذرات الكتاب: الخفة أن تكون آخر.

تذهب القصائد نحو الحديث البسيط والمتقشف وأحيانًا يتحول إلى مباغتات سوريالية تقربنا من الأشياء والأشخاص والمدن، فنتأملها لأنها شعر خالص يبتعد عن المبالغة والتكلف. ننتقل من نص إلى آخر ونحن ندرك أن هناك لغة أخرى، نتيه داخلها لنشعر ببساطة هادئة، تنفذ إلى داخل الأشياء.

لا يترك الخضر شودار الأمكنة في قصائده تزدحم دون تلك الفراغات من الصمت بينها. تلك الفجوات التي تجعلنا نتخيل أو نحاول أن نكمل المشهد، هي ما يجعل قصائد الخضر تنأى عن عوالم أخرى، وتبني بيتًا كالذي رسمه على دفتره لهذا العالم، كما يقول في إحدى قصائده: أحتاج أكثر من عزلة/ كي أخرج إلى الأشياء/ كما كنت طفلا/ قبل خمسين عاما /وأزور بيتا في دفتري/ بنيته/ لهذا العالم. الأمثلة على هذه الفجوات كثيرة، لكن في بعض القصائد تبدو واضحة أكثر كأن يقول: افترقنا/ صار كل منا في مداره/ ومثل رماد نجم بعيد/ مات من ألف عام/ أتهاوى على جسدك/ وأتراكم من تعب الرحلة/ لا أحد يعرف الآن/ من أين جاء هذا الغبار السميك على الأرض/ اليوم/ أرسلت ماء إلى الأشجار/ وحصى إلى النهر/ ونوافذ كثيرة إلى نظراتك.

هنا يبدو أن الطريق إلى البساطة ممتلئ بغموض جميل، وكأن تلك الحوارات الداخلية هي جزء من مشوار طويل، من "كتابة قبل الكتابة" وذهاب نحو لغة متقشفة تنقل تلك اللحظات النادرة وتصلنا بها. هكذا تبدو أيضًا الاقتباسات وكأنها جزء من عالم شعري لا ينفصل عن الكتب، وكأنها عوالم مكتملة داخل القصيدة فيقول الشاعر: في الصفحة السادسة والعشرين من /"ماذا خسر العالم؟"، هنا لا يتأمل الشاعر الخسارة فقط بل يذهب بعيدا ليرى الوجود وكأنه صفحات من كتاب كبير.

هكذا أيضًا تبدو شخوصه الكثيرة وكأنها في رحلة، لكن هذه المرة لا يعلن كل صوت عن نفسه كما يفعل بيسوا بل تدخل تلك الشخوص في عملية الكتابة نفسها، فيقول الشاعر في إحدى قصائده: كل يوم أخرج أتسكع بالمدينة مع نفسي في شخوصي الكثيرة/ وبكثير من الأريحية نتفرق مثل غرباء في الطرقات على الأرصفة والمسارح/ ومقاعد العراء والبارات/ لا أحد منا يشبه الآخر.

ويقول في قصيدة أخرى: لا يكفي أن أكون نفسي/ وأعيش هكذا طويلا كما أهوى/ على القدم والغابرين/ أريد أن أكون أي انسان آخر/ لا يحن مثلي إلى الذكرى/ ويصدق كلام ملارميه/ في العيش على الحظ بين هاويتين/ أن أكون أي شيء آخر/ بيتا للسكنى/ حيث تستيقظ العزلة وتنام.

في كل قصيدة يبدو العالم مختلفًا وكأن المخيلة تحرض على الاطلالة على أشياء مختلفة كل مرة. فننتقل من الشذرات إلى النصوص والقصائد لنعلم أن الشعر لا شكل جاهزا له ولا مكان محددا.

يحضر فان غوخ وأمبيرتو إيكو وهنري ثورو وشيمبورسكا وزوربا ورياض الصالح حسين  وروبرتو خواروث وغيرهم، فتكون تجربته معهم أيضًا مفتوحة على السؤال عن هذا العالم والوجود فيه. فيسأل روبرتو خواروث الذي ترجم له قصائد كثيرة: عزيزي روبرتو خواروث، أخبرني عن الوردة الأخرى التي لا هي في الحياة ولا في الموت. أو كما يخاطب الشاعرة البولندية شيمبورسكا التي ترجم لها أيضا قصائد: عزيزتي شيمبورسكا/ لا زلت منذ أشهر/ أبحث/ في أشعارك/ عن قصائد لي كتبتها/ عن الغريب.. فنعثر هنا على تمازج بين النص والكاتب.

هكذا يذهب الشاعر إلى كلمات الآخرين، وكأنه في تلك الجهة الأخرى يعيد اكتشاف كلماته، كما يقول في إحدى قصائده: منذ أعوام وأنا كالأطفال/ أخبئ كلمات الآخرين/ لنفسي/ تخرج بيضاء/ وتدور مع كل شيء/ إلى أن تأتي إلي/ كلمات داخل كلمات.

تبدو تلك الكلمات، وكأنها صار لها معنى آخر في ذهن الشاعر الذي يقول في شذرة أخرى: "الكلمات التي تعلمتها في صغري كلها صارت الآن بمعنى آخر". هكذا تبدو العلاقة مع اللغة كأنها أيضًا مكان آخر، يرى الشاعر كل مرة مختلفًا وبعين أخرى تنفذ إلى العمق. فنتحسس تلك الكلمات ونحن نعرف أننا نحفر حولها لنجد أنها كيانات مختلفة، كأن نتأمل مثلًا نهاية تلك القصيدة التي تفتح الباب على تأمل بدايتها فنعيد قراءتها مرة أخرى، أو نعثر على اسم الوردة لأمبيرتو إيكو لنرى كيف حضرت الرواية بشكل مختلف داخل القصيدة.

تتطلب قراءة الخضر قراءة أخرى مختلفة تذهب عميقًا نحو قراءاته وكتاباته وترجماته الجديدة دائمًا، وهنا أتذكر قصيدة روبرتو خواروث، التي يقول فيها: ينبغي أن نجعل النص الذي نقرأه يقرأنا/ ينبغي بمعنى ما أن نجعل الوردة التي ننظر إليها قادرة/ على أن تجعلنا نكون. وبهذا المعنى نجد هذا الكتاب الشعري فعلًا يتصفحنا كما يقول الخضر في إحدى الشذرات "فقط افتح الكتاب وهو سيتصفحك". وربما يبقى في الذهن ذلك الشعور الذي يرافق الشاعر أن لا ينتمي إلى هذا العالم، وهو عنوان الفصل الأول في الكتاب، وكأن العزلة هي ذلك المكان الآخر وتلك الجهة الأخرى من الأشياء.