Print
صدام الزيدي

"يدٌ لا تهادن".. تلصصٌ على صندوق أسرار الحياة

19 يونيو 2022
عروض
أمل الأخضر 

ضمن منشورات "مقاربات"، في "فاس" المغربية، صدرت حديثًا للشاعرة المغربية أمل الأخضر مجموعة شعرية جديدة بعنوان "يدٌ لا تهادن"، محتوية (25) نصًا، تتوزع على 103 صفحات.
تتخذ النصوص تقنية المقاطع القريبة من كتابة النص المفتوح بأسلوب شعري يوظف مشهدية الحياة اليومية في كتابة متفجرة تتلصص على صندوق أسرار الحياة ببشرها وكائناتها، غير مستسلمة للهزيمة بروح عنيدة معلقة على جدار أعزل، لكنها تقاوم بالشعر وبالأمل وبالحب.
ولا يخلو الكتاب من فسحات رومانسية ترتب خلالها الروح ضجيجها العميق مصغيةً إلى ما يهمس به القرنفل للشرفة الوحيدة، ومترقبةً طوفانًا سيغرق فيه كل العالم، قبل أن تجيء خيول القيامة، وينتهي بنا المآل المرير..


تنصُّل..
تفتتح الأخضر المجموعة بنص عنوانه "لست معنية بشيء"، تسترسل فيه؛ متنصلة من كل ما يحدث في محيطها، وفي هذا العالم، في الوقت الذي تغرق في محيط شعري ممتد إلى الأقاصي، فهي تعلن ذهابها في طريق منفردة بعيدًا عن حروب العالم ومآسيه، وإن حملت هموم العالم في سياق كتابة شعرية، فهي بهذا تجلد العالم الذي بات مسرحًا للفوضى وللموت وللتشرد: "لست معنيّةً بالكم الهائل من صور القتلى والمعطوبين على التلفاز، ولا بالنهر يلفظ جثث المنكوبين الباحثين عن الخبز في بلاد الإفرنج"،... إلخ، تلك التنصلات من صور كثيرة تدمغ يومياتنا بالانكسار والتشظيات، بما في ذلك صور "المرضى البسطاء"، ويوم الإثنين "البغيض"، على حد تعبيرها، والذين يتسلمون روشتة الدواء بجيوب فارغة، والذين يكتبون وصيتهم الأخيرة، والمجنون المرابط بزاوية الدرب، وأشلاء الحروب، وبحّة نجاة الصغيرة، وأغنيات أم كلثوم، وتفاصيل وشخوص أخرى... غير أن الشاعرة مخنوقة بكل هذا الواقع الملغوم بالفوضى وشحة الحياة، الذي بات يمثل شبحًا يقلق لحظتها: "لست معنيةً... فقط تخنقني كل هذه الصور، كلما أغمضت عينيّ، وهدّني بعض التعب".




وفي نص بعنوان "الشاعر"، تكتب الأخضر عن شاعر "خلاسيّ" لا وقت له، مرّ في بالها؛ شاعر كمنجاته مثقلة بالمجاز والموسيقى (مرّ ببالي هذا الصباح، هيأت له مقامي ورغوة اندهاشي). وتستحضر ـ في السياق ـ كل شعراء الكون، وليس فقط الشاعر المقيم في البلد، أو الغريب عن البلد، أو ذاك الواقف بباب الله، يسأله أن يسقي وردته التي ذبلت، وأن يعيد له حبيبته الغاضبة، كما يسأله الكثير من "بلل الكلام".
وحتى تلك الفوضى الأثيرة التي تعمّ حياة الشاعر، المقيم ـ جبريًا ـ في حقول ألغام، لا تمنع العصافير من أن تستيقظ على الحياة من صدره، حيث بالقرب حدائق (الشعر) مليئة بثمار التفاح وعناقيد العنب.
وبعد أن أعلنت الشاعرة تنصلها من أعباء الحياة التي تثقل كثيرين هنا وهناك، وتنصلها من كل ما تخلفه حروب العالم ومآسيه الراهنة، تظل منشغلة بهذه العوالم وبتأثيثها شعريًا. كما تعلن تمجيدها للشعر، فهو يرتب فوضى الحياة ويمنحنا حدائق الجمال برغم كل شيء.
وفي النص الذي حمل عنوان المجموعة "يدٌ لا تهادن"، تفتح الشاعرة نافذة للروح مشرعة على عوالم مرئية وغير مرئية: تمجد "الأرق"، الذي رأت فيه رفضًا للروتين اليومي، أو فكرة الاستسلام مبكرًا، فالأرق مثله مثل أصابع يد تظل دائمًا مرفوعة "لا تهادن"... ومن ناحية: من خلال الأرق يمكننا أن نمعن في تأمل العوالم من حولنا، فهو يوفر للروح المتعبة فسحة لتتأمل في "هجعة العالم"، كما أنه يصنع لحظة جديدة لصحو العبارة، ولدويّ أجراس الصمت المعلقة في شارع الحياة الطويل.
تغذي الشاعرة فكرة عدم الاستسلام للواقع المرير، إذ تنفخ، بناي الفرح، في البتلات الساقطة على ساعد الأريكة، بعد أن تصدت للوقت (الهارب): قبضت عليه وأحكمت رباطه، لكي تلقي تحيتها على العالم "صباح الخير أيها العالم" من بعد أرق مرير ـ جميل، وهي تحية محبة، ودعوة محفزة على الأمل، تجاوزت ندوب الحياة الموشومة على وجه منهك: (صباح الخير أيها العالم/ رتّقت جيوب روحي المهترئة/ وأمعنت في تطريزها/ ودلفت إلى فسيح بهوك).
وتصغي الشاعرة لمواء قطط مبحوح في كبد الليل، ثم تهرب إلى ضفاف بحيرة جافة (نشيدها الأمل) لتجد هناك "مالك الحزين" ينشد أحزان أجداده، وتعود لتداهمها أصوات صراصير تحت ركام خردوات، وثمة رقصة بهلوانية أخيرة لعنكبوت يموت دهسه أحدهم، وغير بعيد: عصافير هزيلة تقرر الانتحار، ودبيب حياة في مملكة نحل... تنشغل الشاعرة بكل هذه الأصوات بطقوسها المتباينة بين الإصرار على الحياة، أو الاستسلام على طريق الفناء. غير أن الفضول لدى الشاعرة يدفعها للانتباه لكل هذه الأصوات الآتية من حيوات قريبة، أو بعيدة منا، لتتلصص على صندوق أسرار كل هذه الكائنات كما تلصصت - في سياق نصوص تخللتها المجموعة ـ على صناديق أسرار أناس في الجوار، لتمنح قارئها كتابة تؤنسن بها تجاعيد حياة مكلومة عبر تدوينة حب تكتبها بمداد دهشتها، ثم تنثرها في ليالي "العارفين".


"نشيد أوبرالي"....
ويستمر التلصص الجميل على العوالم الداخلية للشاعرة، من خلال تقنية الأسئلة: (أما زلت أنتِ؟/ ترددين النشيد الأوبرالي على مسمع الكون/ حولك الجوقة/ الكورال/ ترانيم ملائكية/ والفضاء الأوسع...)، ويحدث ذلك بينما تعترف الشاعرة بأن سقوف القلب باتت خفيضة جدًا، يعتصرها الندم، والحبر استحال مكانًا لنبتة "وله"، وإقامة في عوالم التيه، ومطاردة لشطحات الروح: امرأة/ شاعرة تقتات أحلامها الشاردة، وتشرب نخب الألم، وتلعن ـ في صمت ـ فلول الظلام، والغبار الواجف، والنزق الأرعن.




وفي المجمل، تفتح الشاعرة نافذة، تطل من خلالها على عالم منهك بحروبه وكوارثه، مثقل بمناحاته وأحزانه، لتصنع لحظاتها الجميلة؛ لحظات مسترقة من زنازين الفوضى، تكتبها شعرًا، في لحظة ليل، أو في نزهة، أو فسحة من يوم إجازة: (سأحكي عن كرسي يوم الأحد/ عن عاشقة جسورة تلوي يد حبيبها/ تكاد تبترها/ عن بهجة المسرات/ وعن سكرة المحبين/ وخمرة العشاق...)، ولكن تلك اللحظات المستقطعة من فوهة بركان الحياة، تستدعي إلى ذهن الشاعرة، غصص المكلومين، وجوقة الضياع، وقهر المستضعفين، فهي مسكونة بالجمال وبالآهات وبأحزان الناس وأوجاعهم، حتى وإن تظاهرت بأنها ليست معنية بها، كما أنها في ذروة لحظات الفرح، تداهمها نوبات قلق عتيد، كأنما نظرات أخيرة إلى غرقى في بحيرة، وليس في يدها ما تفعله لإنقاذهم.