Print
محمود الريماوي

"الحجر والبركة".. رواية تستحق "عناء" قراءتها

22 يونيو 2022
عروض

 


يستخدم الروائي والناقد (والشاعر) المغربي عبد الرحيم جيران تكنيك تقسيم روايته "الحجر والبركة " (دار فاصلة، 2019) إلى دوائر: اثنتا عشرة دائرة، بدلًا من الأبواب أو الفصول أو التتابع الرقمي، ومن دون أن يحيل هذا التقسيم إلى شهور السنة أو عدد ساعات كلٍّ من النهار أو الليل بالضرورة أو بالحصر، إذ يكون الرقم 12 بالإيحاءات. أما المقصود بالدائرة فهو ما يحدثه سقوط حجر في بركة من تموجات متتابعة تجذب النظر وتثير الذهن. والحال أن المؤلف اعتمد تكنيك التموجات باستدعاء ماضي الأبطال ومحاولة تصفية الحساب مع هذا الماضي من خلال بطله "سليمان الثنائي" الذي يصل إلى سن متقدمة وقد نهشه الداء الوبيل: السرطان، وقبل ذلك وعلى امتداد صفحات الرواية (388 صفحة) تنهشه المراوحة بين الواقعية والحُلمية، أو بين الواقعية و"المثالية" وحيث يقف سليمان المثالي والحالم وقفة حارس ينبّه الواقعي على المحاذير ويزجره عنها، أو يميط اللثام عنها بعد أن تقع. ويتخذ العمل في أحد مستوياته منحى الحوار والمساجلة بين هذين المكونين، ومن خلال ذلك يتدفق السرد بأناة وإفاضة، ويتخلله القليل من الحوارات ومعظمها بالمحكية المغربية مما يتعسر فهمه على القارئ غير المغاربي، والنزر اليسير منها بالفصحى من دون مسوّغ ظاهر لهذا الانتقال وبخاصة أن المتحدثين بالفصحى من عامة الناس. إلا أن نسبة الحوارات المحدودة قياسًا إلى مجمل المتن تجعل من متابعة العمل أمرًا ميسورًا، علاوة على أنه شائق ومُترع بتفاصيل حيوية حسية وذهنية.

تتناول الرواية في موضوعها المهيمن سيرة البطل سليمان وانتقاله من القرية إلى مدينة الدار البيضاء للإقامة والدراسة الجامعية وخلالئذ النشاط ضمن منظمة يسارية سرية إبّان ستينيات القرن الماضي. ويبرع المؤلف في سرد يوميات البطل وعلاقاته العائلية وصداقاته وزمالاته والرفقة الحزبية. ويتبين للقارئ أن البطل يتمتع بالسيطرة على أفكاره ومشاعره وتصرفاته خلافًا لزمرة الأصدقاء والرفاق، وأنه إذ ينغمس في العمل الحزبي عن قناعة وببسالة، فإنما أيضًا بحذر وتفكّر وتساؤل، بغير اندفاع عاطفي، ولا قناعات قارّة ونهائية بالصواب السياسي والأيديولوجي التامّين. إذ يبقى دائمًا هناك في دخيلته قدرٌ من التساؤلات، وعقد مقارنات بين الوعود القصوى وبين ممارسات أعضاء التنظيم فالسلوك الشخصي يكشف جوهر الأداء السياسي وهذا يكشف ما تحمله الأيديولوجية من وعود وبشارات. ويتناول السارد ما آل إليه أبطال التنظيم من مصائر تكتنفها المأساوية، أو المفاجآت غير السارة .. مع تعريج على محطة انهيار المنظومة الأيديولوجية مع تفكك الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية وهو ما أثار لدى البطل مراجعة داخلية عميقة. ومع هيمنة هذا الخط الرئيس على مجرى الأحداث إلا أن رواية "الحجر والبركة" لا تنتمي لصنف الروايات السياسية ولا تحمل خطابًا سياسيًا بقدر ما هي رواية تتناول المصير الاجتماعي والفردي في زمن تحولات عاصفة،  بل إن المؤلف أفرد مساحات واسعة منذ مبتدأ الرواية حتى خاتمتها لتناول الأمور العائلية للبطل حيث احتفظ البطل بروابطه مع العائلة في وقت كان يسهر فيه على استقلاله الذاتي، وقد نجح في مسعاه لشقّ طريقه، وبينما نجح في حياته المهنية فقد واكب التباس الظروف وقسوتها علاقاته العاطفية، ورغم تمتعه بعلاقات واسعة فقد شاء أن يقترن في نهاية المطاف  بنادلة حانة "رباب" بعد أن تحول موقف الحدب عليها ورعايتها وتخليصها من مهنتها الشاقة، إلى حالة عاطفية نحوها.




وبالتوازي مع بحث البطل عن حياة ممتلئة ومتوازنة، فقد أمضّه البحث عن أبيه الغائب والمختفي الذي ترك البيت والعائلة، وأطلق أقاويل عن مصاعب شتى واجهها ووقوعه ضحية عمليات احتيال، إلى أن يعثر البطل عليه بعد أن افترسته الأمراض من دون أن يشعر نحوه بمشاعر البنوة. وثمة تفاصيل وافرة عن ذلك غير أن البطل سليمان نجح في مسار حياته بتعويض غياب الأب وأن يكون في المحصلة أب نفسه، وهذه ثيمة على درجة من الأهمية في مسار الرواية، وبخاصة أن ظروفًا مقلقة تكتنف حياة العائلة التي ينتمي إليها وبالذات الحاجة لويزا التي يفُترض أنها والدة البطل، لكن هذا ينعتها على الدوام بالحاجة ويتطرق إلى ظروف حياتها وعملها بمواربة وإلماح، وفي موضع حواري في أخريات الرواية يتبين أنها ليست الأم (زوجة الأب؟) إذ رغم توسع الكاتب في سرد جوانب حياة العائلة، إلا أنه يتكتم على مهنتها حتى أنها تتعرض للاعتقال دون تبيين سبب اعتقالها، وإن كانت تفاصيل لاحقة تذكر أنها كانت تتربح بتعاونها مع ولي فقيه في الحصول على مني رجال لفائدة نساء عقيمات، وعدا عن الترميز الذي قد تحمله هذه الوقائع، فإن البطل يبدو سليل عائلة مضطربة وعليه أن يبحث عن فرص التماسك النفسي لذاته، وأن ينجو من عقابيل هذا الاضطراب العائلي وهو ما حدث. إلا أن القدر كان له بالمرصاد إذ أدركه المرض الخبيث، من دون أن يفتّ في عزيمته، ومن دون أن يمنح السارد فسحة واسعة، ولعله تقصّد ذلك لهذه الإصابة الجسيمة، وذلك للنأي بالرواية عن أجواء الميلودراما.

إلى ذلك وعلى صعيد البناء الفني، فإن هذه الرواية التي فازت بجائزة المغرب للسرد في عام 2019، تحفل بضروب من الثنائيات التي أجاد المؤلف الإمساك بها، فثمة ابتداء ثنائية صريحة للبطل الذي يحمل اسم سليمان الثنائي، وتلي ذلك ثنائية في استخدام ضمير المخاطَب مع نقلات يلجأ فيها السارد إلى استعمال ضمير المتكلم الذي يصبح في هذه الحالة ساردًا إلى جانب الراوي، ويضاف إلى ذلك ثنائية السارد والمؤلف، فالسارد ينكب على كتابة رواية بعنوان "رمية نرد" وهي في واقع الأمر الرواية نفسها التي ينكب القارئ على قراءتها والمؤلف على كتابتها بعنوان "الحجر والبركة".. بهذا تمحي الحدود بين راوٍ وسارد ومؤلف وفي خطوط متوازية من جهة ومتضافرة من جهة ثانية، في تقويض للبنية الكلاسيكية للرواية، وبغير الوقوع في شكلانية تنزع إلى غرائبية متعمدة، فالسرد يحافظ على انسيابه على نسق واحد ومتجانس، وعلى تواصله العضوي ونبضه الواقعي، وكأنما الكاتب متوغلًا في السرد يلقي المزيد من الأحجار في بركة الزمن الشاسعة وكذلك في بركة السرد التقليدي، فتتسع الدوائر ومع اتساعها تنثال الذكريات والوقائع، ويستيقظ العقل على تأملاته وتصحو العواطف من مكامنها، فلا يملك القارئ إلا أن يدقق في كل سطر وهو يخوض في عالم الرواية التي تبدو مثل شجرة عملاقة كثيفة الأغصان وقد التفّت هذه على بعضها، مع فجوات ضئيلة تكفي لنفاد أشعة الشمس. بل إن هذا العمل الحاشد يبدو كأنه يضم في تلافيفه أكثر من رواية واحدة، فثمة حياة البطل العائلية من الجد إلى الحاجة إلى نساء البيت إلى الخال والأب الغائب وغيرهم، وهناك رواية سيرة البطل السياسية والتعليمية واكتشافه زخم الحياة وتعقيدها في مدينة كبيرة وهشاشة الصداقات ونبلها، وهناك رواية داخل الرواية تتصل بعلاقات البطل النسائية ورفقته لهن وخسارته لهن بصور شتى مع براعة في تحليل هذه الشخصيات وتشخيص مواطن قوتها وضعفها أسوة بتشخيص البطل لذات نفسه؛ لمواضع قوته وهشاشته، وكل ذلك مع احتفاظ الرواية بنسقها الدرامي الفوّار، وتركيزها على الوقائع والتفاصيل التي تفيض عنها التعليقات والتحليلات الذكية والموجزة التي تعكس خبرة العمر وتختزل الوعي المفارق للسائد ومن دون ادعاءات الانشقاق عن "الجماعة" الاجتماعية.

تمتلك رواية عبد الرحيم جيران هذه هوية سردية حداثية وناضجة، تم الإلماح عن بعض سماتها في هذا الموجز، في وقت يتوافر فيه المؤلف على دربة كتابة رواية كلاسيكية، ومن الشواهد على ذلك أنه يبرع في غالبية الدوائر في وضع خاتمة مثيرة تحبس الأنفاس، وتثير الفضول الشديد كما في السرد الكلاسيكي لمتابعة الدائرة اللاحقة (الموالية في التعبير المغربي)، غير أنه يفاجئ قارئه بتأخير الكشف عن كنه الحدث الغريب والملغز الذي اختتم به الدائرة السابقة، ولكأنما يريد القول إننا لسنا في معرض ذروات ولحظات تنوير، أو بصدد تشويق درامي مما أشبعتنا به روايات القرنين الماضيين، فهذه الرواية معنية بسرد أفقي لا عامودي أو رأسي، تتفشّى فيه الأحداث صغيرها وكبيرها وتنسرح فيه التموجات بما يكسر وهم بناء عالم تخييلي مفارق للواقع ومُعطّل للملكات العقلية، فهذه الرواية سليلة الواقع وشقيقته  وتوأمه، وتحمل قارئها على التبصر والتدبّر في أحابيل الواقع الممتد وإكراهاته، ولئن ينال القارئ بعض العناء في متابعة هذه الرواية الكثيفة فإن هذا العمل بما يحمله من بهجة فنية وعقلية يستحق هذا العناء.

يُذكر أخيرًا أن هذه الرواية هي الثالثة  للروائي والأكاديمي المغربي عبد الرحيم جيران، بعد روايتيه "عصا البلياردو" و"كرة الثلج".