Print
دارين حوماني

"أنا أخطئ كثيرًا".. مواجهة مفتوحة مع الخطيئة والحياة

28 يونيو 2022
عروض



"أنا أخطئ كثيرًا" (دار نينوى، 2022) لوفاء أخضر، رواية عني وعنها وعن نساء كثيرات، وكما هن النساء كائنات ممتلئات بالأحاسيس كالنهر الذي يمكن أن يفيض في أي وقت، جاءت هذه الرواية مشحونة بنا جميعًا، بكل عواطفنا المرئية وغير المرئية، من كل مكان ولامكان فينا، بكل حكايانا المستقرة فينا التي لا تغادرنا وتلك العابرة.. إنها ما جعل وفاء أخضر "الشاعرة" تكتب رواية. "ما جعلني أكتب هو كمّ من الإحساسات تتعاظم أحيانًا لتتحول إلى أحاسيس إله أو كاتب حقيقي.. إن لم تكن إلهًا، لا تكتب"، تقول وفاء أخضر في مقدمة الرواية.

أما عناوين فصول الرواية الستة فقد جاءت مثل إسقاط للنصوص إلى دواخلنا من قبل أن نقرأ.. مع تمهيد للنصوص يمكن أن يُقاس بكثافة الأعشاب في يوم ربيعي بعد مطر غزير.. "كل العالم غاضب مني، أخطئ كثيرًا يقولون، أصدُقُ كثيرًا أقول"، "أين الله"، "أحتاج أن أشعر أني حية"، "لماذا لا نقول لا؟"، "أكون أو لا أكون، تلك المعضلة"، "وحده الحب يمنحنا حقيقتنا اللاجسدية، وللمفارقة لا يتم هذا إلا جسديًا"، و"لن تحب المرأة رجلًا تخافه، أو يخافها، لا يبيت الخوف مع الحب"، ولا تختلف كثافة العناوين عن متن الرواية الذي يحتشد بصور فوتوغرافية عن عمر كامل شبّت فيه تجارب كثيرة مشبوكة بالأخطاء، منذ الطفولة، استرجعتها "شمس" الراوية خلال غيبوبتها في المستشفى، فحين قررت شمس ترك أطفالها وعذاباتها واللحاق بحبيبها عمر إلى عمّان تتعرّض لحادث سير وتبدأ الرواية.

"أعرف معرفة يقينية أني ميتة.. أنا التي اخترت وطنًا على الحافة، وزوجًا على الحافة، وحبيبًا على الحافة، وأولادًا على الحافة"، بهذا الشعور بين الحياة والموت، تختار صاحبة "في فمي بريق" كلماتها، بين أن نكون نحن ولا نكون، حين تصير أجسادنا في مكان أما نحن فنكون في مكان آخر.. وشمس فتاة من قرية لبنانية حيث اللعب مع الصبية "عيب"، واللباس المحتشم "واجب"، والزواج نجاةٌ للمرأة من سجن، سجن عمّرته كل أم تقنع بناتها من صغرهن أنهن قريبًا سيصبحن عانسات لذلك عليهن الزواج بأول رجل يتقدّم لخطبتهن، وسجن عمّره كل أب يربّي بناته بالصفعات كي يمشين على "الصراط المستقيم"، "عزمي على المغادرة عزّزته صفعات أشد وأقوى، نزلت على وجهي وجسدي ذات مساء. كانت بسبب أني فتحت التلفاز في أيام "الحداد العظيم، أيام عاشوراء المجيدة"، غادرت بيت أهلي إلى الزوج، هل خروجي منه سيكون إلى القبر فعلًا؟". على أن الهاجس الأبرز في الرواية هو الخطأ والخطيئة.. "ما كل هذا الخوف من الخطأ والخطيئة".. "لماذا أصدّق أن العالم كله خسيس؟ لأني شغوفة بالصراط المستقيم، مسكونة بالسوط والصفعات".

لكن شمس مع زوجها ستشعر أن الحياة لا تستحق أن تُعاش وأنها ترى موتها وهي حية، وستحاول أن لا تشبه أمها في تربيتها لأطفالها، لكن تلك الأم ستسسلّل إليها في لاوعيها حين تضع أطرًا لأولادها وتنهرهم بالضرب. وهنا تتبدى لنا قدرة الكاتبة على تعرية النفس من داخلها عبر خارجها، فحين تموت ابنتها، تتحول صرخاتها إلى الله: "هل يموت الأولاد قبل الأهل؟ كيف يفعلون؟ وكيف يجرؤ الله على مثل هذا الفعل القبيح؟".. كل ذلك قبل أن يكتشف زوج شمس خيانتها له حيث عشقت "عمر" الذي يعيش في عمّان وكانت تتبادل الرسائل معه.

على أن الحديث إلى الإله سيتكرر في الكثير من مفاصل الرواية، وكأن الكاتبة تريد أن تعبّر كيف تم تحويل الله إلى عصا في الوقت الذي تتخطى علاقتها الروحية به كل ما قيل عنه؛ "دخلت بيت الله لأتعرّف عليه.. الله الذي أعرف يقطن القلوب فقط، لا يسخط ولا يغضب، يحب ويدعم ويتفهم ويرحم، الله هذا عنده مقتنيات برائحة مقزّزة ورجالات وتوابيت وسبحات، خفتُ من المكان واختفيت.. لم أجد الله، كان الشرّ أكبر منه".. وفي فصل معنون "رسائل إلى الله" وآخر "مواجهة مفتوحة مع الله"، تحكي وفاء أخضر من منطلق هذا الإله الذي تم ترسيخه بكثافة في دواخلنا منذ الطفولة منتقدة كل التعاليم التي تم حشوها بها، وكأنها تريد أن تقتلع تلك النواة من الأكاذيب التي زرعوها فيها عن إله يراقب ويعاقب طوال الوقت، لتنتقل إلى إحدى تجاربها القاسية وتنادي: "عاقبتني بشدة يا الله.. لماذا فعلت هذا وأنت تعرف أني أحيا في لبنان، في حقبة الحروب، حرب إسرائيل على لبنان، وعلى جنوبه الذي أنا منه وفيه أقيم، وحرب المخيمات بين الحركة والفلسطينيين، وحرب حزب الله والحركة، وحرب أبي وأمي وحروبي مع ذاتي وعاداتي السيئة وحروب أهلية داخلية وخارجية"..  وسيحضر الله مع تساؤلات كثيرة عن الوجود في عدد من الحوارات داخل الرواية: "صحيح أننا اخترعنا الله، ولكن هل نستطيع أن نكون بأمان في هذا العالم إن لم نتخيل الله؟" و"عندما أصبح كلّي كومة فشل مقيت.. ماذا يتبقى من الله؟".





وبين وعي الكاتبة ولاوعي الراوية شمس تتمظهر الرواية عن نقد عميق للمجتمع بتقاليده وتعاليمه، بحكامه وسياسييه، مع حزن فردي جماعي يخصنا جميعًا. فحين بدأت شمس بمزاولة مهنة التعليم وجدت نفسها أمام تلاميذ يتعلمون الكذب والنفاق وحب أسياد الطوائف وكره الوطن، حب الله وكره العدل والحق والحرية. تقول أخضر: "أنا أعتذر عن أني أم، أنا أعتذر عن أني حبيبة، أنا أعتذر عن أني عربية، أنا أعتذر عن أني لبنانية، أنا أعتذر عن أني أؤمن بالإنسان، أنا أعتذر من الله لأني ضعفت وخذلته مرارًا، وما زلت أفعل. هم أقوى منك يا الله. يتحدثون بلغة الدم والموت والمصالح والاستراتيجيات والأسلحة. أنا يبدو حمقاء في زمن الخوف.. هنا كلهم قتلوا الله يا نيتشه ويقتلونه، هنا كلهم يجهزون على ضمائر أولادنا وعلى أحلامهم..". كما تصف الراوية نفسها في وطنها بأنها مواطنة لقيطة في بلد غير آمن وغير عادل يخص الفلسطينين والسوريين والإسرائيليين، ومؤلف من "أحزاب زعران" وميليشيات يسمون أنفسهم لبنانيين، بلد لا تعرف منه سوى انقطاع الكهرباء والخبز والمياه وخوفها من أبيها وتحذيرات أمها.

خلال تسطيرها للرواية سنكون أمام وفاء أخضر الشاعرة في أكثر من مكان، كأن هذه الرواية هي تمارين شاعرة على الكتابة بشكل فضفاض عن الأحاسيس المتراكمة التي تحتاج لتخرج من انضباطها ومسطرة الشعر الدقيقة. تكتب أخضر: "هنا ألمٌ، وهنا أمي، وهنا حي مغبرٌ ورفاقٌ زقاق، وإله نسيني مع عضو غول، مع سماء غير متماسكة، مع أم تخشى العيب أكثر مما تخشى موتي، اليوم وأنا زوجة وأنا أم لا زلت أخشى ذلك المكان كما خفته وأنا في الخامسة من عمري.. وكما كنت أخشاه في العشرين..".  

تمرّر صاحبة "لستُ بخير أبدًا" عددًا من الحكايات لصديقاتها من داخل حكايتها لتنفذ من طبقة إلى طبقة داخل الروح الممزقة؛ سنكون أمام حكايات شهرزادية عن الأنثى والجنس وعلاقة المرأة بجسدها.. وكأن الراوية تبحث عن الحقيقة من خلال كتابتها، عن تفكيك معنى الخطأ والخطيئة الذي يتمثل في المحرّم الذي تمارسه المرأة في علاقة جنسية غير مصانة بالزواج. وستحيك وفاء أخضر سلسلة من العذابات النفسية لنساء عشن بالتراضي مع الموت، "الرجال يستمتعون بسهولة، مع مومس، مع أيديهم، مع صورة! هل علينا نحن النساء أن نتخلص من فكرة أن الجنس مرتبط بالحب وبالشخصية ككلّ؟ هل علينا أن نصدّق أن القصة هي جسد متوتر واسترخاء؟ هل وعيي مسكون بالتابوهات".. ومن حكايات شمس صديقتها "لبنى" التي بالكاد يلمسها زوجها كل شهرين ولكنها لا تريد الانفصال عنه كي لا يأخذ منها أطفالها، و"جايا" التي كان زوجها يلوك جسدها ثم يبصقه فشعرت أنها على عداء مع جسدها إلى أن وقعت في حب رجل آخر. وخلال حديثها مع ابنتها تقول شمس: "كنت أصغي وأنا أحاول أن أتجاوز ما أحمله من إرث الخوف والاشمئزاز من كل ما هو جنسي". وفي مكان آخر سينادي مدير المدرسة الراوية شمس ليخبرها عن ابنتها التي كتبت بالإنكليزية على الحائط "Fuck myself"، وليخبرها أن هذا فيه خطورة كبيرة لأنه إشارة إلى ممارستها العادة السرية.. تفكك أخضر بإسهاب مفاهيم مجتمعية أشعرتها بالرعب بسبب تضخيم الحدث، ثم تعود إلى نفسها وتقول: "لم أكن أعتقد أن البنات يمارسن العادة السرية.. كنت فعلًا لا أفهم كيف يحصل هذا.. وجدت أننا فعلًا نحوّل الجنس إلى غول كبير، الموضوع لا يستحق كل هذا الجزع.. الموضوع ببساطة تفريغ للتوتر مما يمنح الجسد والدماغ سكينة وراحة..".

أما القصة التي بدأت مع محاولة الهرب إلى "عمر" فستنتهي معه حين تسأل الكاتبة: "نمارس الحب لنبق معًا أو نبقى معًا لنمارس الحب؟"، وفي هذا التساؤل ما يؤكد تواطؤ وفاء أخضر مع الشك في كل شيء حتى في وجود عمر نفسه، "غدًا يوم آخر غدًا لن يأتي الغد"، وفي الشك بقدرتها على أن تكون ما تريد أن تكونه، فهي لا تعرف إن كانت تحب عمر أم تكرهه وإن كانت تحتاج الله أو لا تحتاجه، لكن الأمل بغدٍ أفضل يلاحقها حتى نهاية الرواية وهو ما دفعها للهرب إليه ثم الاصطدام بالسيارة في مطلع الرواية: "أعرف جيدًا أننا في عالم حقير وأن الغاب أكثر عدلًا وأمانًا من أوطاننا وأعرف أنني وعمر نحمل ماضيًا ثقيلًا".. وعمر هو الوحيد الذي تشعر معه شمس أنها تمارس الحب "بلا دنس"، والوحيد الذي اختارت أن تقترف الخطيئة معه دون خوف؛ لتعود وتقول أخيرًا في احتفاء بالحلم والتحرّر من عذابات الماضي الثقيل: "عمر عاد واختفى. هل عاد؟ كأني اخترعته. كأن الحكاية كلها بدون حكاية!..".

إن الصوت الداخلي للسرد يدفعنا إلى التماهي مع النصوص بشدة حتى لنظن أنها سيرة ذاتية للكاتبة ولنا أيضًا، قبل أن ننتبه إلى أن هذه النصوص كُتبت عن عالم كامل من نساء من العالم العربي في مواجهتهن للمجتمع وللحياة ولمفهوم الخطيئة، وربما استخدمت الكاتبة صيغة "الأنا" حيث أن تواجد مثل هذا النمط السردي يجعل روح الكاتبة وفاء مندمجة مع الراوية شمس، ويمنح هذه "الأنا" رؤية عميقة وقدرة على عرض الأحداث ونقلها للمتلقي بما يساهم في بلوغ المعنى.