Print
حسام علي العشي

"شيء من البحر فينا".. عن المجتمع التونسي المعطوب

4 يونيو 2022
عروض


تبدأ رواية "شيء من البحر فينا"، للمحامية وكاتبة السيناريو التونسية، درة الفازع، الصادرة بطبعتها التونسية عن دار (سندباد للنشر، ط1، 2021، 482 صفحة)، وطبعتها المصرية الأنيقة عن دار (المحروسة، ط1، 2022، 488 صفحة)، بعملية تحرش واعتداء جسدي مذل من الشاب (بشر الإمام) على فتاة فقيرة تبيع الخبز على الطريق، وهي (نور عبد القادر)، لتتوسع دائرة الأحداث عن مجموعة من الحكايات المترابطة والمتقاطعة بين عائلة (علياء) الأرستقراطية أم بشر، وأخيها المحامي (مناف)، وعلاقته مع (هند)، التي تسودها الرتابة، وميول مشاعره نحو (غادة)، الممثلة وصانعة محتوى الإنستغرام، وعشيقة بشر، أمام عائلة (مريم) الفقيرة أم (نور)، و(سليم)، و(عادل)، وما يحيط بالشخوص من علاقات مع شخصيات أخرى.
رواية درة الفازع فيها عدد من الشخصيات تأخذ تقريبًا مساحة السرد نفسها، أي أننا أمام بطولة جماعية، رغم أن أحداث الرواية تدور في حوالي 5 أشهر، من 1 سبتمبر/ أيلول 2012، إلى حدود 8 فبراير/ شباط 2013، بعد يومين من اغتيال السياسي التونسي شكري بلعيد، فالكاتبة اعتمدت السرد الاسترجاعي بالعودة إلى ما قبل الثورة لمعرفة أصل حكاية كل شخصية ومصيرها وتقاطعاتها مع شخصيات أخرى ممزوجة بأحداث ومحطات سياسية في تاريخ تونس بمنطق السببية الدرامية، وحبكة الفيلم السينمائي، مما حقق التشويق في الرواية.


البطولة الجماعية.. لكل شخصية حكاية
علياء، بشر، ليتيسيا، مناف، هند، غادة، مريم، نور، عادل، سليم- مجموعة من الشخصيات تقدمها لنا درة الفازع عبر ثمانية عشر فصلًا، في كل مرة شخصية، بأسلوب الحكايات المتعددة وتوليد السرد، بين مناخات الطبقات الأرستقراطية، ومرارات الطبقات الفقيرة المعدومة، وهواجس الطبقة المتوسطة، عن العلاقات المتوترة والمعطوبة، وعوالم النفس البشرية التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية، والظواهر المعاصرة المتناقضة، من التشدد الديني والإرهاب عند (عادل)، وصولًا إلى صانعة الشهرة والنجومية عبر مواقع التواصل الاجتماعي المتمثلة في (غادة).. بين لوعة حب هند لمناف، وفتوره عند هذا الأخير، عن الظلم الاجتماعي والقهر المسلط على (نور) إثر تعرضها للاعتداء من (بشر)، الذي تسبب في التنمر من سكان القرية، وحتى في المدرسة الثانوية. هذا إلى جانب الأمومة، بشتى تجلياتها، في مختلق الطبقات الاجتماعية، من (سعاد) أم هند التي ترملت في ريعان شبابها محاولة ترميم أوجاع القدر وتعويضه في ابنتها، و(مريم) أم نور المرأة المطحونة بين الفقر وقهر زوجها، وحادثة ابنتها، وابنها (سليم) الذي استشهد في صفوف الجيش الوطني، و(عادل) المنخرط في تنظيم إرهابي.




رغم كل هذا، (مريم) في كل فجر تخبز لتبيع خبزها من أجل بعض الدراهم لتغطية مصروف دراسة ابنتها.. أمام (علياء) أم (بشر)، وما تحمله هذه الشخصية من دسامة في السرد، وعلاقتها المركبة مع ابنها الذي قتل زوجها الثاني ثأرًا لأبيه، وتعلقه المرضي بأمه، فهذه الثنائية بين علياء وابنها بشر قائمة على مد وجزر بين الأم، التي تحاول التحكم في مصير ابنها ليكون في سياق صورتها الاجتماعية، والابن المتمرد من جهة، والغيور عليها من كل من يقترب منها، وكأن علياء أمه ملك شخصي، مما ولد في بشر شذوذًا في علاقاته النسائية، بنزعته الانتقامية والسادية المتجلية مع (غادة) التي أحبته حد الجنون رغم طرق إذلاله لها، والتلاعب بنفسيتها، إلا أنها لا تستطيع أن تتركه.. هنا نجد أن درة الفازع ابتعدت عن الصورة النمطية لغريزة الأمومة في الضمير الجمعي للمجتمع العربي، فراوحت بين النزعة الشكسبيرية والفرويدية بشروط واقعية وضرورة درامية في مفاصل السرد، ليصعب علينا انتزاع أي شخصية من الرواية، رغم كثرتها، بسبب الترتيب البنائي المنظم للوقائع، فلكل شخصية قوس جعل الرواية مشحونة بعديد قضايا المجتمع التونسي المعاصر، وهذا أمر طبيعي تحمله لعنة الرواية الأولى، كأن الكاتبة تريد أن تقول كل شيء، وكل ما لم يقل، حتى حيال الظواهر المستحدثة في ولادتها الاجتماعية المتجسدة في شخصية (ليتيسيا)، هذه الفتاة الأفريقية الخادمة في بيت (علياء) بمنطق عبودية القرون الوسطى، من دون أي وثائق، أو قانون يحميها، وإنما بالضرب والمهانة.. كل هذه الحكايات وأكثر، بينما بشر في غرفة الإنعاش بين الحياة والموت، نتيجة محاولة انتحاره انتقامًا من أمه التي اكتشف علاقتها مع شاب في غرفة نومها، استطاعت درة الفازع من خلال هذا الحدث أن تخلط كل الأوراق بين الماضي والحاضر السردي لتجعل القارئ يلهث وراء كل شخصية مدركًا لسؤال جوهري: ما هذه البشاعة التي نعيش فيها؟ عن أي حرية، عن أي حداثة، عن أي حب، عن أي أمومة، عن أي ثورة، عن أي عدالة، عن أي شهرة وفن، عن أي تدين... كل شيء معطوب في هذا المجتمع، إنه زمن العار، هذا ما أرادت أن تقوله الكاتبة عن طريق الأسلوب السينمائي، والتشويق البوليسي.


الأسلوب والتقنية السردية
استطاعت درة الفازع أن تستثمر تقنيات السينماتوغرافية في الكتابة الروائية، ونجحت في إقحام أدوات السرد الفيلمي في الرواية، فكانت النتيجة في "شيء من البحر فينا"، بعيدة كل البعد عن البنية السردية الكلاسيكية التي أوصلها نجيب محفوظ إلى ذروتها، فالرواية تقوم على تقنية التقطيع السينمائي، والكاتبة تقطع السرد في اللحظة الحاسمة والمشوقة، لتنتقل إلى مشاهد روائية أخرى، إما بالعودة إلى بداية الحكاية في سرد استرجاعي، أو الانتقال إلى شخصية أخرى، وحكاية جديدة، فتترك القارئ في حيرة من أمره، وفي شوق إلى معرفة الأحداث اللاحقة، أو انتزاع شيء من الغموض عنده ليجد نفسه يلهث وراء الصفحات طالبًا مزيدًا، وشاعرًا بمتعة كبيرة. ففي بداية مشاهد الرواية، على سبيل المثال، تتعرض نور لعنف جسدي حد الإذلال المفرط من شخص مجهول.




وتقفل الكاتبة المشهد عند هذا الحد متلاعبة بمشاعر القارئ الذي لا يعرف مصير نور، وتنتقل إلى عرض عدة مشاهد أخرى من الرواية تدور أحداثها في فترة ما قبل الحدث الأول... هذه التقنية التي استخدمتها درة الفازع في الرواية يجعل من الكاتبة دكتاتورية، وأكثر سطوة في الرواية، وكأنها في غرفة المونتاج، ترتب المشاهد في ظاهرها بشكل فوضوي، لكنه مقصود تبعًا للذي عليه الدور، والشخصية التي عليها الدور تكون مرسومة بدقة وعناية فائقتين، لا تتصرف ولا تتحرك إلا وفق ما تقرره الكاتبة، خاصة أنها هي الراوي العليم والوحيد في الرواية، من دون اعتماد على أي شخصية من الرواية تكون فيها الراوي، مما أعطى التوازن في الأحداث، وسطوة مفرطة للكاتبة. ومما زاد على هذا الأمر لغة الرواية التي غلبت عليها الجمل الفعلية، أي فعل الشخصية، باعتباره هو الحدث، ما جعل نسق الرواية في تصاعد دائم من دون ترك فسحة للقارئ للتأمل، ليس أمام تسارع الأحداث فقط، وإنما بتقاطع الشخصيات أحيانًا في مكان واحد، رغم أن ما يحدث مع كل شخصية يساير الأحداث الأخرى، ولا يتقاطع مع غيرها.
درة الفازع تشتغل على المكان في الرواية ليس باعتباره مسرحًا تدور فيه الأحداث، أو توثيقًا روائيًا للأمكنة في تونس، باعتباره مقومًا من مقومات الهوية الطبقية فقط، وإنما يأخذ المكان وظيفة السببية الدرامية في التقاء الشخصيات، لدفع الحبكة إلى الأمام من جهة، ومن جهة أخرى جمالية في نسج الأحداث كأنه منطق قدري بلعبة سردية تدل فيها الكاتبة على حذقها في فن الحكي الروائي المعقد، مما يشكل الانبهار عند القارئ في متعة الحكي.. لكن هذا التوظيف السينمائي على مستوى اللغة، والمونتاج السردي، في الرواية، كان حاضرًا بقوة على حساب البعد النفسي للشخصيات الذي لم تعطه الكاتبة الحيز الكافي أمام فن رسم الحبكة، حيث تظهر براعة درة الفازع، وهذا أمر نادر نوعًا ما في الكتابة النسوية العربية لفن الرواية، وليس بغريب على الفازع، باعتبارها كاتبة سيناريو قبل أن تدخل غمار الكتابة الروائية، فبقدر ما كانت الأحداث متماسكة بقدر ما نرى الضعف في عدم الغوص في أغوار نفس كل شخصية، خاصة أنها شخصيات مركبة ومعقدة في تصرفاتها، والحاجة الملحة لتوضيح هذا البعد النفسي مرده الظواهر المستحدثة في المجتمع التونسي والعربي المعاصر، وهي محل بحث في شتى الحقول المعرفية تناولتها الرواية بمنطق السرد والإخبار من دون تعمق كاف، خاصة أن الرواية تتحمل هذا الثقل رغم حجمها الكبير، وطولها الذي يتقلص بهذا التشويق المنقطع النظير، فرهان الكاتبة في الرواية على هنا والآن، فالحاضر الجنوني لظواهر اجتماعية تعيش بين ظهرانينا تحتاج إلى البحث والتنقيب المعرفي أكثر، كمقوم أساسي لفعل التخييل الروائي، كما أن هذا الإقحام المباشر للسياسي، شكري بالعيد، مجاني نوعًا ما، وكان من الممكن أن يكون موظفًا بطريقة فنية أمتن في مفاصل السرد، من خلال انعكاس السياق السياسي في تلك الفترة على أحداث الرواية، ومصير الشخصيات، خاصة وأن الرواية العربية اليوم أصبحت ديوان العرب، وهي بمثابة وثيقة لمعرفة المجتمع.




ومع ذلك لا بد من القول: أثبتت المحامية، وكاتبة السيناريو، درة الفازع، في روايتها الأولى، أنها كاتبة محترفة، تعرف كيف تلتقط شخصياتها من أحشاء المجتمع التونسي، وكيف تأخذها في مسارات متشابكة ومعقدة. كما عرفت كيف تصل إلى وجدان القارئ العادي من دون القطع مع ثقافته السائدة، مما حقق المتعة والمعرفة. من جهة أخرى، "شيء من البحر فينا" رواية تستحق الاقتباس إلى الدراما التلفزيونية بوفاء كامل للنص، لما تحمله هذه الرواية من مقومات الحكاية البصرية.