Print
باسم سليمان

"أبكر قليلًا من الموت".. النَمنمة الأخيرة بحياة فنّان المُنمْنمات

17 يوليه 2022
عروض


عندما نتكلّم عن الحقيقة الروائية، يجب أن نضع في حسابنا أن ما يقدمه الأدب من حقيقة قد تخالف أو توافق الحقيقة التاريخية، لكن لا تقطع أو تصل معها بشكل مطلق، فهنالك نوع من المسارّة بينهما؛ وهذا ما قصده ميلان كونديرا عندما تحدّث عن المقاربة التاريخية، بأنّ الإخلاص للواقعة التاريخية مسألة ثانوية بالنسبة لقيمة الرواية، فالروائي ليس مؤرخًا ولا نبيًّا؛ إنّه مستكشف وجود.
تأتي الحقيقة الروائية كما لو أنها منقذ للتاريخ عندما يصبح عقيمًا، فالثيمة الإخبارية التي عادة ما يتم الحكم عليها بالصدق، أو بالكذب، كبرهان على وجودها أو بطلانها، لا تعود تجدي نفعًا، عندما يصمت التاريخ عن واقعة بحجم مقتل رسّام المنمنمات الجزائري، محمد راسم، في الثلاثين من آذار/ مارس عام 1975. إنّ ما يفعله التاريخ هو أن يستنجد بالقانون، ليقول لنا بأنّ إخباريته قد شُطبت، لأنّه لا توجد أدلة كافية لإيجاد معلوم، هكذا تغلق قضية مقتل محمد راسم وزوجته، وتقيّد ضد مجهول.
لقد كان الأولى بالتاريخ أن يتوسّل بالرواية، فيتخلّص من جفاف وثائقيته، ليطلق العنان لمخيالية قادرة دومًا على تخصيب المسكوت عنه، فيعود السؤال طازجًا، وتفتح من جديد قضية مقتل فنان المنمنمات، بموجب القانون الروائي، كما يحدث عندما تظهر أدلّة جديدة، فإغلاق القضية لنقص فادح في الأدلة لا يعني محوها، بل تحيّن الفرصة التي تأتي من رواية لها الجرأة أن تقول: لا جريمة كاملة.



إنّ رواية "أبكر قليلًا من الموت"، للروائي الجزائري محمد جعفر، الصادرة عن منشورات ضفاف/ لبنان، والاختلاف/ الجزائر لعام 2022، تعود إلى ذلك الزمن، مستحضرة روح فنان المنمنمات محمد راسم عبر آلية قناع الرسائل التي يوجّهها إلى مجموعة من الشخصيات الثقافية والفنية الفاعلة في ذلك الزمن، كالرسّامة باية وزوجها الحاج محفوظ محي الدين، ومحمد خدة، والشاعر جان سيناك، والصحافي الطاهر جاووت، وغيرهم. وهنا لا بدّ من التنويه، على الرغم من أنّ الروائي محمد جعفر قد رأى أن ورود هذه الأسماء من باب الاختلاق التخييلي، أن وجودهم التاريخي له من القوة ما يمكن أن يحرف بوصلة التخييل نحو وثائقية واقعية تشير إلى أدلة تومئ إلى ظنون اتهامية عن الجهة ذات المصلحة في اغتيال فنان المنمنمات.
لقد قتل الشاعر الفرنسي ذو الروح الجزائرية الصافية جان سيناك قبل سنتين من مقتل فنّان المنمنمات، بعد أن ظهر اختلافه مع جبهة التحرير التي أصبحت الحزب الحاكم إثر الانقلاب على الرئيس بن بلّة. ومع تعاظم تحالف التيارات الدينية مع الأجنحة اليمينية في الحزب الحاكم، أصبح نقد جاك أكثر جذرية ويسارية. وقد رأى هذا التحالف الجديد بين الأصولية والنظام الحاكم في ذلك خيانة لشهداء ثورة المليون. طرد وزير الثقافة والإعلام، أحمد طالب الإبراهيمي، سيناك من الإذاعة، ومن منصبه كمستشار لوزارة التربية، على الرغم من تاريخه الطويل في النضال مع الجزائريين، متذرعًا بأسباب أخلاقية تطال ميول سيناك العاطفية، ليتم اغتياله في قبو مظلم في قضية سرقة! إنّ مروحة المتهمين في مقتل جان سيناك تبدأ بالمخابرات الفرنسية التي تقف المخابرات الجزائرية إلى جانبها في المسعى نفسه، وليس غريبًا أن يكون ثالثهما الجماعات الأصولية التي روعت الجزائر في العشرية السوداء، و.. وهي ذات المروحة التي سنجدها في اغتيالات أخرى.
اغتيل الطاهر جاووت الذي أنجز آخر حوار مع فنان المنمنات. الحوار لم ينشر لأسباب غير مبررة شرعنتها كواليس النظام الحاكم في ذلك الوقت. لقد كان مقتله في العشرية السوداء بعد زمن طويل في التسعينيات من القرن العشرين. وجهت أصابع الاتهام إلى التيار الديني، إلّا أنّ رفض جاووت أن يصبح عينًا للمخابرات، وإصراره على أن يظل وفيّا لقلمه الحرّ، يرمز إلى تعدد الجهات التي كانت وراء الاغتيال المدبّر.

محمد راسم 


هل لنا أن نسأل، هنا: هل يختلف قتل محمد راسم عن اغتيال جان سيناك والطاهر جاووت؟ وهو الذي لم يمض على نجاته من ذبحة قلبية أشهرًا عدة، وقد طال الزمن عليه كما طال على لُبد، وهو نسر الحكيم لقمان، ألهذه الدرجة كان فنّه مقلقًا للسلطات الحاكمة والجهات الأصولية؟
هذا التأطير التاريخي الحاكم على سردية الرواية استطاع جعفر الهروب منه، وفي الوقت نفسه الولوج فيه حتى الرمق الأخير لفنان المنمنمات. يستيقظ الرسام إثر العملية الجراحية على حياة كان قد غفل عنها، وهو يحيا في خضمّها، لتحاصره أسئلة من قبيل: ماذا بقي له من عمر، أو بالأحرى ماذا يفعل بالباقي منه، حيث لا يراه الآخرون إلّا من خلال لوحاته التي جابت العالم، وحققّت له شهرة لا تقل عن شهرة سيزان وغويا، فماذا عن ذاته؟ وماذا عن وحدته وعزلته في آخر أيامه؟ وبماذا سيفيده هذا الجسد الذي لن تنفع معه عمليات الترميم التي تجرى على الآثار الفنية القديمة، فتعيدها كأنّها ابنة اللحظة. وماذا عن صديقه اليهودي جاكوب ستيرن، الذي رفض الهجرة إلى فلسطين، والذي انقطعت عنه أخباره. تتكاثر الأسئلة على فنان المنمنمات، فيرسمها عبر رسائل تتطاير منه كحبات الطلع لربما تلقى إجابة أو ردًّا. ولأنّ المنمنمات هي تفاصيل التفاصيل، يستحضر محمد راسم تاريخه في الجزائر، وكيف أخذته المنمنمات إلى كلية العالم. لقد كانت منمنمات راسم رصاصة الثورة الفنيّة التي استطاع دويّها أن يكون أقوى من أصوات المعارك، فلماذا تأكل الثورات أبناءها الطاهرين؟ هذا هو السؤال الملّح في كل رسائل راسم التي لم يلق عنها جوابًا. هذا السؤال لن نعرف إجابته أبدًا إلى أن تنتصر الثورة على ذاتها، فمتى يكون ذلك؟




اختار راسم أن يعيش في الجزائر، أو أن يختم أيامه فيها بصحبة زوجته ذات الأصول السويدية المهاجرة إلى فرنسا، والتي لم يكن راسم جزائريّا أكثر منها. لكن الجزائر المصابة بعمى ألوان الأنظمة الشمولية أصبحت ترى بأنّ هذه الفرنسية التي ترتاد الكنيسة تمثل خطرًا، فطلبت من راسم أن يوعز إلى زوجته أن تُوقف ذهابها إلى الكنيسة، لأنّ هنالك جهات أصولية أغضبها أمر هذه الفرنسية التي أحبّت الجزائر، وهم بهذا الطلب يسحبون الفتيل من البارود، يا لهذا العذر الأقبح من ذنب.
تتكالب تفاصيل الواقع على فنان المنمنمات، فيلجأ إلى الرسائل التي يوجهها إلى صديقه جاكوب لعله يلقى ذكرى حيّة في حاضره تعيد إليه بعض القوة للمواجهة والاستمرار. ويفعل الأمر ذاته، فيوجّه رسائل إلى أصدقاء/ (أعداء)، لربما حلم بأن تكون هذه الرسائل كسيف الإسكندر الذي امتحنوه بعقدة حبل لا تفكّ، فما كان منه إلى أن جرد سيفه وقطعها نصفين، لكن هيهات، فقد وجه إحدى رسائله إلى وزير الإعلام، أحمد طالب الإبراهيمي، مبينًا له ما آلت إليه حاله، وكيف أنّ لوحاته ما زالت محتجزة في المطار، وليس من سبب واضح لذلك، إضافة إلى ما جرى من إنكار حق زوجته بارتياد الكنيسة، والضبط الذي أودعه في سجلات الشرطة عن هذا التهديد المجهول الذي يطارده هو وزوجته، مذكرًا هذا الوزير بأنّ حاله قد تنتهي إلى خاتمة تشبه جان سيناك!
يظهر استنجاد فنان المنمنمات بوزير كان له اليد الطولى باستبعاد الشاعر جان سيناك ضيق الحال الذي وصل إليه، أو لقناعته بأن مآل جان سيناك هو الإشارة النهائية إلى آخر تفصيل، أو منمنة، سيضعها راسم في لوحة لم يشأ التاريخ الجزائري أن يرسمها.
تخبره زوجته بأن رسائله إلى جاكوب تُعاد من قبل البريد لعدم وجود مستلم لها، وعندما تسلّمه إياها يكتشف راسم بأن أغلفة الرسائل مفضوضة، فهل علمت زوجته بما يحدث؟ ولماذا سكتت عن خيانته الخيالية مع فتاة الشرفة. لم يُمهل فنان المنمنمات أن يفك اشتباكه النهائي مع الحياة ليخرج منها بميزان تعادلت كفتاه، ففي مساء الخامس عشر من مارس عام 1975، نشرت الصحف خبر مقتله مع زوجته في جريمة سرقة، كما رجّحت الشرطة.

محرك البحث غوغل يحتفي بفنان المنمنمات الجزائري محمد راسم 


إنّ هذا الجدل بين التاريخ والتخييل الذي تغيّاه الروائي الجزائري محمد جعفر، أملته عليه الحقيقة الروائية التي تجبر كسر التاريخ عندما تصيبه الأنظمة الحاكمة بهشاشة المصداقية. ومن هذا المنطلق، كان استناده إلى أسلوب الرسائل، كسيرة شبه ذاتية يكتبها بقلم/ ريشة فنان المنمنمات، كي يقيم تاريخًا موازيًا بصوت الفنان القتيل، ليتجاوز مدونة القاتل إلى جوهر جذر قتل، والذي يعني معرفة كنه الشيء.




إنّ الحقيقة الروائية التي قدّمها جعفر، عبر سرده السلس والمحكم، استطاعت أن تحيّن من جديد قضية مقتل فنان المنمنمات محمد راسم، والأهم أنّها تعيده إلى نطاق البحث، كما فعل google عندما احتفل بذكراه. هذا التحيين هو جوهر الرواية التاريخية، ومن دونه تصبح تسجيلًا باردًا للأحداث الماضية.