Print
محمود عبد الغني

"عائدٌ إلى بياضة".. رواية الاستعادة المجروحة

22 يوليه 2022
عروض





في ذكرى اغتيال الكاتب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني (1936- 8 تموز/ يوليو 1972) ظهرت رواية مغربية للكاتب محمد خراز تحمل عنوان "عائدٌ إلى بياضة" (منشورات دار فضاءات، 2022)، في إحالة مباشرة إلى رواية كنفاني الأشهر بين أعماله "عائدٌ إلى حيفا"، والتي صدرت طبعتها الأولى سنة 1969.

لم يظهر محمد خراز إلى الساحة الأدبية قبل هذا العمل. فهو باحث في علم الاجتماع ومهتم بالتراث الثقافي المغربي. والناس طبعًا يحكمون على بعضهم بصورتهم الاجتماعية وليس بناء على ما يكتبون ويبدعون. حتى جاءت روايته الأولى "عائدٌ إلى بياضة"، التي طبعت في مطابع المشرق العربي الجيدة (دار فضاءات).

"عائد إلى بياضة" (وبياضة حي شعبي في مدينة آسفي العريقة) رواية تتميّز بالتناسق، فما أعلنته منذ البداية هوما استمرت في بنائه وتوسيعه. رواية استعادية، تتناول ذاكرتها الشخصية الرئيسية أحمد بوناجي. وبذلك فهي رواية استعادية تقود قارئها إلى أمكنة وأزمنة بعينها، دون حاجة إلى تأويل أو حفر في ما بين سطورها. يفرض الأدب على دارسه عدم الاعتماد فقط على الكلمات الحاضرة، بل على الكلمات الغائبة: الكلمات/ الظلال. والكلمة الغائبة هنا هي "حي". إذ كان يمكن للعنوان أن يكون "عائدٌ إلى حيّ بياضة". لكن مثل هذه العناوين يمكن أن يجد فيها القارئ تماثُلًا مع عناوين روايات أخرى تحضر فيها لفظة "حي"، مثل "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، أو "الحي الخلفي" لمحمد زفزاف، أو "الحي الخطير" لمحمد بنميلود. وبالإضافة إلى الكلمات الغائبة، يفرض الأدب المقارنة مع عناوين روايات من الأكثر شهرة. وروايتنا تعود بنا هنا إلى نص غسان كنفاني "عائدٌ إلى حيفا".

محمد الخراز  خلال حفل توقيع الرواية



عنوان الرواية

العناوين في الأدب دومًا تطرح مجموعة من مشاكل. وتزيد من حدّة هذه المشاكل الأعمال الكبرى، الخالدة، أو الأعمال الكلاسيكية. فما أن تكون رواية عالمية، أو رواية ذاع صيت كلمات في العنوان حتى يتهيّب الأدباء من استعمال تلك الكلمات، أو إحداها، في عناوين أعمالهم. مثلًا: العزلة؛ فمن يجرؤ من الروائيين، في أميركا اللاتينية، وغيرها فيما بعد، على استعمال مفردة "عزلة" بعد أن استعملها غابرييل غارسيا ماركيز في روايته الشهيرة " مائة عام من العزلة"، ونفس الشيء في رواياته الأخرى: "الجنرال في متاهته"، "الحب في زمن الكوليرا". لم يعد أحدٌ من الروائيين يجرؤ على استعمال كلمة "الجنرال" أو "الكوليرا" في عناوين رواياتهم؟

فكيف استعمل محمد خراز "عائدٌ إلى" التي تحيل مباشرة إلى رواية "عائدٌ إلى حيفا" الصادرة سنة 1969، وهي رواية مشهورة جدًا ومترجمة إلى لغات عدّة. خصوصًا وأن نقط تشابه ليست يسيرة بين العملين: فبطل الرواية "سعيد س" ظل يحلم ويأمل العودة إلى الوطن الساكن في وجدانه بعد نكبة 1948، إلى مدينة حيفا التي تركها وهو طفل تحت ضغط الحرب، وأحمد (أحمد بوناجي) بطل "عائد إلى بياضة" حالم بالعودة إلى الحي الشهير بمدينة آسفي "بياضة".

العودة هنا قضية كبرى للإنسان. العودة إلى الوطن، العودة إلى المدينة الأم، العودة إلى الحي.

إن نفسيات العائدين إلى أمكنتهم التي غادروها اضطرارًا تكاد تكون هي نفسها: تتجمّد اللغة على لسانه، يلتزم الصمت، يشعر بالأسى، تتبلّد مداركه، ثم تنتابه فكرة أن يرجع، أن يعود من حيث أتى، كأن المكان الذي غادره، يطرده بعد أن ارتكب في حقه جريمة الهجر. لنقرأ من "عائد إلى حيفا"، ثم نعود، كي نقارن، لنقرأ من مطلع "عائد إلى بياضه":

"حين وصل سعيد س إلى مشارف حيفا، قادمًا إليها بسيارته من طريق القدس، أحسّ أن شيئًا ما ربط لسانه، فالتزم الصمت، وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل. وللحظة واحدة راودته فكرة أن يرجع" (عائد إلى حيفا، ص. 5).

لنقرأ الآن من "عائد إلى بياضة":

"ثم عاد ليقف شاردًا، حائرًا وتائه البال كمن يكتشف البحر لأول مرة، علاقة شبه ملتبسة وقديمة، كانت ولا تزال، تربطه بالبحر وقت مغيب الشمس. وفي ما يشبه حالة شرود تتعطّل فيها المدارك وتتبلد معها الحواس" (عائد إلى بياضة، ص. 11).

 

حي بياضة في مدينة آسفي العريقة



الرواية لغة وليس كل شيء سيرة ذاتية

يهتم محمد خراز باللغة،وبمجرد قراءة الرواية يلمس القارئ جمالية لغته، خصوصًا في صيغ الجمع، استعمال كلمات نادرًا ما أصبحت تستعمل، إضافة إلى صياغات الجمل وتركيبها. كأنه انتبه جيّدا إلى نصيحة أسداها غوستاف فلوبير إلى الروائيين: "على الروائي أن يعتني باللغة أكثر مما يعتني الشاعر باللغة".

ساد الاعتقاد مؤخرًا أن الرواية مجرد حكاية، وليس المهم كيف تُحكى، ليس المهم شكلها. وهذا أمرٌ يتهدّد الرواية. فهي في طريقها إلى تكريس صنف "الرواية التقريرية". وهذا النوع من الروايات يجيد كتابته الصحافيون. ويؤكد ذلك فوز بعض الروايات برضى لجان التحكيم في بعض جوائز الرواية. وإذا استمرّ هذا الأمر فسيكون فنّ الرواية فعلا في خطر.

 

ساد اعتقاد كسول لدى النقاد العرب في السنوات الأخيرة بأن كل شيء سيرة ذاتية. فيقومون بتأويل سيء لأهم مقولات فيليب لوجون في جنس السيرة الذاتية. إلى درجة أنهم يعتبرون كل رواية سيرة ذاتية. وهذا أمر مرفوض حتى من الأدباء أنفسهم. لنتذكر حجة المسرحي العالمي بيتر بروك وهو يتحدث عن سيرته الذاتية "لننس الزمن" التي نعتها بـ"المذكرات الخاطئة". وإننا نلاحظ في الخمس سنوات الأخيرة الانتقال غير المبرر من الناحية الأدبية إلى الاهتمام بالسيرة الذاتية.  لقد بدأت الدراسات الحديثة تجعل من كل شيء سيرة ذاتية. مثلما كان في الستينيات والسبعينيات كل شيء بنيويًا. وبعد ذلك كل شيء سيميائيًا، وانطفأ كل شيء. ليس كل شيء سيرة ذاتية، والمبشرون بهذا الأمر مفسرون كسلاء، متخبطون في متاهة اللغة وظلالها، وإيحاءاتها. لا يتساءلون، لا يفككون، لا يفهمون الروح العميقة للأدب.

"عائد إلى بياضة" ليست سيرة ذاتية ولا رواية سيرذاتية، أو تخييلًا ذاتيًا، ولا رواية بيوغرافية لأحمد بوناجي، إنها رواية تكرّس سلطة أماكن موجودة، وأشخاص وجدوا وعاشوا فيها. وما تبقى قامت به اللغة، التخييل، الذاكرة، الحبكة، السرد، الوصف.

الروائي يحاكي بطله

حين رأيتُ صورة في صفحة الأخ محمد الخراز بالفيسبوك، رفقة أصدقائه داخل صالون مغربي ببيت عتيق، قلت ها هو ذا محمد يحاكي أحمد: "حتى المعارف والأصدقاء حدّوا من تعاملاتهم واختصروا اتصالاتهم، فصار صالون بيتنا شبه فارغ بعد أن كان يغصّ يوميًا بالأصدقاء والجيران، بمناسبة أو بدون مناسبة" (ص. 105)

لقد انشغل الروائي مثل بطل روايته بقضايا معاصرة: أوروبا، الآخر، الغرب وكيف يفكر في الإسلام؟ الهجرة، العودة إلى الأماكن الأولى. وحضور هذه الأماكن هو ما يجعل البحث عن المعادل الموضوعي لها في الرواية. فليس من الضروري العودة إلى المرجع الواقعي في مدينة آسفي، حين نقرأ: شارع الرباط، المدينة العتيقة، معامل تصير السمك، حي بياضة... لأن هذا البحث يشكل خطرًا على عملية القراءة.

لقد أضاف محمد خراز إلى مدونة الرواية المغربية نصًا بينيًا يستعمل الذاكرة، واللغة، والاسترجاع، وظلال الأمكنة وحقيقتها، الحقيقة الروائية التخييلية... كل شيء يخدم المعنى الحقيقي للنص، وليس المعنى الاستعادي فقط.