Print
أشرف الحساني

"هكذا في الحكاية التي لم يروها أحد".. التخييل البصريّ

26 يوليه 2022
عروض




يُعدّ الكاتب والشاعر اللبناني عبده وازن (1957) من الشعراء العرب الذين جدّدوا نصوصهم الشعريّة وشذّبوا حدائقها داخل جدارية الشعر العربيّ المعاصر. فهو لم يستهوه مفهوم الصنعة الجماليّة في صياغة النصّ الشعريّ، بقدر ما ظلّ مُتيّمًا بشعريّة تقوم على تأمّل اليوميّ، والقبض على العابر في سيرته وجسده وأحلامه. ومن يقرأ مختاراته الشعرية الأخيرة "هكذا في الحكاية التي لم يروها أحد" (دار العائدون، الأردن) ينتبه إلى ذلك التقشّف الشعريّ المُتوهّج على مُستوى اللّغة، حيث نجدها قريبة من الدرجة الصفر، بتعبير رولان بارت. مع العلم أنّ هذه اللّغة، تتحوّل نفسها إلى خطابٍ شعريّ مركزيّ في نظام النصّ. لكنّها ذائبة، بلا ملامح وبلا صوتٍ أو أيّ شيءٍ يجعلها حيّة في شعريّة القصيدة. إنّنا هنا أمام لغةٍ، وقد غدت صمتًا أو شبحًا لا يُعبّر عن شيء، وإنّما تترك القارئ يحدس بالندوب وجراحها، وتتولّد معها موجة من الظلال الآسرة والصُوَر الساحرة، وهما يغوصان في الطفولة والتاريخ والذاكرة والوجود والجسد وينسجان علاقة حميميةٍ مع ماهية الشعر وأسئلته الأنطولوجية الأولى. ليس الشعر عند وازن، ما تركه الشعراء القدامى في مُخيّلته من لغةٍ وصُوَر ومجازات، ولا تصويرًا ميكانيكيًا للواقع وما يحبل به من مآزق وتصدّعات، بقدر ما يترك الشعر منسابًا عبر جسده وذاكرته الشخصية مُحمّلًا بسيلٍ من الصُوَر الشعرية، التي لا تجد مرجعها الشعري إلّا في ذاته.



يمتلك وازن لغته الخاصّة ونسقه المجازي النوعي في مقاربة العالم واستشكاله شعريًا. ولم نرَ وازن يومًا في حوار صحافي أو لقاءٍ تلفزيونيّ يدّعي أنّه يمتلك مشروعًا شعريًا (إنّه كذلك)، أو أنّه كتب مؤّلفًا يُقدّم فيه نفسه فاتحًا للشعريّة العربيّة المعاصرة، بل يكتنف الرجل غموضٌ شديدٌ وصمتٌ رهيب وتواضعٌ يجعل نصّه الشعريّ يتقدّم في صمتٍ، دون أنْ يحفل بالصيحات الجماليّة التي تطال الموجة الجديدة في الشعر العربي المعاصر. وليس غريبًا أنْ يُطالعنا وازن بميسمٍ جديدٍ مع كلّ مجموعةٍ شعريّة يصدرها، فتجربته تتطوّر باستمرار، وتخلق لها مسارًا شعريًا مُتفرّدًا يبدأ باللغة وينتهي بالصورة، وإنْ كانت الأخيرة تحمل بُعدًا فكريًا يُوجّه فعل الكتابة لديه، كما أنّ أغلب نصوص المختارات الشعرية يغلب عليها النفس الشذري الذي يُحوّل النصّ إلى إشراقة سريعة يصعب القبض عليها. وهذا التشذير الشعريّ له علاقة أساسًا بمفهومي اللغة والصورة.



في لغة عبده وازن يتحرّر الخطاب من غوغائيته، ويغدو أشبه بسرابٍ سرعان ما يتحوّل بنفسه إلى صحراءٍ من عدم، حيث التعبير البلاغي يضيق، لكنّ الرؤية تتّسع، ويُصبح النصّ مفتوحًا على تحوّلات الجسد والمُتخيّل، ما يجعل سُلطة اللغة تتراجع وتذوب أمام جبروت اليومي وانحناءات الواقع، مع أنّ سُلطتها تبقى في نظام القصيدة فقط كظلّ أو أثرٍ أو علامة جرحٍ عابر. هنا تتدخّل العين بكل عنفوانها ومرجعياتها الفكريّة وحمولاتها الجماليّة لتبني نسقًا جديدًا لشعريّة وازن، فهي ترصد مُختلف التحوّلات التي ترجّ الذات بشكلٍ حسّي، ما يُفسّر الكتابة الآلية أو النفس التلقائي الذي تتّسم به أغلب النصوص، لا لأنّها مدفوعة بطابع الاستعجال، بقدر ما تسبقها عملية تأمّل دقيقٍ وتفكير كبير، يجعلان الجسد يتدفّق صُوَرًا شعريّة، لا تجد مرجعها الدلالي، إلاّ في سيرة الشاعر في علاقة بفضاء الجسد. إنّنا هنا أمام نصّ حداثي، يُكسّر مفاهيم الصنعة الفنّية والتراث المعرفي لصالح كتابة شعريّة بسيطةٍ وبريئة، لا تلهث وراء الواقع الفيزيقي وأحداثه، ولا تسقط أحكامًا ولا تُعلّق اتهاماتٍ في حقّ التاريخ والواقع. كلّ شيءٍ في شعريّة وازن، يبدأ من الجسد وينتهي داخله، إذْ لا وجود للأنساق الشعريّة الكبرى ولا للتراث المعرفي ولا للمرجعية الشعرية العربيّة، بل فقط خطٌ شعريّ مُتواصلٌ ومُتدفّق مثل نهرٍ دائم الجريان. نصّ لا يعطي للقارئ إلاّ الوهم ويتركه مُندهشًا من وقع السحر وأثره على الجسد. لكنّ صعوبة هذه النصوص الشذرية، أنّها تفترض قارئًا له سعة خيالٍ وذوقٍ وإحساس، حتّى يستطيع تملّك القصيدة واختراق صُوَرها، مع أنّها لا تتطلّب أيّ مجهودٍ فكري من حيث أساسها الماهوي، الذي يشدّ ويحكم نظام الصُوَر الشعريّة.


إنّ قصيدة وازن لا يُمكن إدراكها إلاّ بالمفهوم الهايدغيري للشعر، لا بوصفه فضاءًا لتملّك الذات والعالم، وإنّما لإبراز تناقضات الأشياء داخل الوجود. إنّ شعريّة وازن لا تُفكّر، لكنّها تُدرَك مثل أيّ عملٍ فنّي، لأنّها ذات علاقة وجوديّة صارمة بمفهوم الشعور ويصعب التفكير في نصّه باعتباره وثيقة تاريخيّة أو مراودة تفكيرٍ يومي أو حتّى إخضاعها إلى تأويل فلسفي مجرّد. لكنّ فعل الإدراك عند عبده وازن، يختلف من قصيدةٍ إلى أخرى، تارة يأخذ بُعدًا جماليًا مجرّدًا، وتارة أخرى، لا يمكن فهم ميكانيزماته، إلاّ بالرجوع إلى سيرته الذاتية وعلاقته بالذاكرة والأمكنة والجسد. لكنّ الغالب في تعدّد مفاهيم الإدراك في مجموعاته الأولى يبقى حسّيًا، حيث النصّ يكاد يُسمع ويُرى ويُشمّ ويُعاش مثل أيّ جسدٍ حيّ.


أمّا الصورة، فتكاد تكون العمود الفقري الذي تتأسّس عليه شعريّة وازن، إذْ لا وجود لصنعة الخطاب، أمام سطوة البصري في تشييد قصيدته. وعلى الرغم من جدّة الموضوع، يكاد النقد العربيّ المعاصر، لا يعطي اهتمامًا للجانبين التشكيلي والسينمائي في صياغة النصّ الشعري. فقد قاد انفتاح المعرفة المعاصرة على باقي الأجناس الفنّية والقوالب الجماليّة إلى تطوير النصّ الشعري وتجديد مائه، وذلك بالاستناد إلى توليفاتٍ فنّية، جعلته في السنوات الأخيرة يعيش حداثة حقيقية. لكنّ يبدو أن النقد الأدبي ما زال يتنكّر لمفهوم الحداثة البصريّة وتأثيرها على فعل الكتابة الشعريّة والدفع بحدودها الضيّقة إلى نوعٍ من التجريب الفنّي الذي يُصبح فيه الشعر أفقًا بصريًا وقادرًا على تحويل اللغة إلى صورة أو توليف الخطاب إلى صُوَر سينمائية شذرية، لا تقبض على الواقع العيني المُباشر، بقدر ما تظلّ تُطارد المعنى وتُعيد تشكيله بصريًا، انطلاقًا من جسد الشاعر ومُخيّلته وذائقته الجماليّة وصنعته الفنّية، كما نُعاين ذلك في تجربة اللبنانيين عبده وازن وشربل داغر، مع اختلاف واضحٍ في طرق التخييل والمفهوم البصريّ الذي يستند عليه كلّ واحدٍ منهما.

والحقيقة أنّ وازن يكاد يكون بارعًا في هذا التوليف البصريّ، إذْ لديه قُدرة هائلة في الاشتغال على اللغة ومُراودتها في أنْ تغدو مشاهد بصريّة قابلة للتحويل السينمائي. فأسلوبه الشذري يُعطي للعين إمكاناتٍ جماليّة مُذهلة في مُمارسة السُلطة على النصّ، إذْ تدفع به إلى حدوده القصوى، لا كخطابٍ شعري يُؤسّس معنى النصّ، وإنّما كضوءٍ بصريّ نابعٍ من شغاف الروح. لكنّه مع ذلك، حريصٌ على إقامة تناظُرٍ بصريّ بين الواقع والخيال، إذْ لا وجود للحدود بينهما ويصعب الإمساك بتلابيبهما، لكنّهما يُصبحان في لحظةٍ شعريّة ما، صورة واحدة مُصغّرة عن جسد الشاعر، حيث ينتفي مفهوم الذوق الجمالي ويغدو خاضعًا لمفهوم التمثّل الشعريّ الذي رغم أنّه مُعطى فيزيقي ذاتي، تتحكّم فيه عوامل برانية بامتياز تتعلّق بالدفقة الشعورية ومفهوم الذوق الجمالي والحدود المنهجية والمرجعيات الثقافيّة والرؤية الفنّية، وهي عناصرٌ فكريّة يتكوّن منها مفهوم التمثّل وتصوغ أفقه التخييلي البصريّ.