Print
أسامـة الصغيـر

"ثـورة الأيـام الأربعـة".. حفـرٌ معرفـي

29 يوليه 2022
عروض

 



عَتَبَـةُ الكاتـب

عبد الكريم جويطي روائي ومترجم مغربي، أصدر سنة 1992 "ليل الشمس" أول نصوصه الروائية، فحازت جائزةَ اتحاد كُتّاب المغرب للأدباء الشباب، وبشّرت بميلاد كاتبٍ مُتفرّد، ثم "زغاريد الموت" سنة 1996، "رمّان المجانين" سنة 1998، تَلَتْها "زهرة الموريلا الصفراء" سنة 2003، ثم "كتيبة الخراب" سنة 2007، حيث كانت طفرةً في مساره السردي وبقيَت ضمن القائمة الطويلة لأول نسخة من جائزة البوكر العربية، وصولًا إلى  "المغاربة" سنة 2016، التي غيّرت أطوار التلقي الأدبي بالمغرب بعد أن كانت ضِمن القائمة الطويلة للبوكر وحازت جائزة المغرب للكتاب ونالت خمسَ طبعات وما لا يقلُّ عن مائتي مُتابعة ودراسة وحلقة نقاش وبحث جامعي. أما روايتُه قيدَ التحليل هنا "ثورة الأيام الأربعة"، فهي التي صدرت سنة 2021 عن المركز الثقافي العربي بعد طول اعتكاف وعميق اشتغال، في أُفق إصدار أجزائها الثلاثة الأخرى، إذ هي مشروع أول رُباعية مغربية.

ارتقـاء معرفـي بالجغرافيـا الثقافيـة    

خاض الروائي عُلُوًا أدبيًا شاهِقًا مبنى ومعنى، حيث وُعُورةُ الجبل المُرتفع بحوالي ألفين وخمسمائة كيلومتر على قدميه يَمُرُّ وادي إيرس، وذلك بحثًا وتنقيبًا مُضْنِيًا عن مادةٍ أدبية تخييلية تَرتقي بالشعرية المحلية، ليُحَقِّق ارتفاعًا جماليًا فريدًا، وتجديدًا في المِخْيال الأدبي المغربي. إنه يجعل من الجبل سبيلًا إلى فهم الجغرافيا الثقافية للأمة مُحاذِرًا الوقوع في المَطب الفولكلوري، بل يُقدِّم الجغرافيا الثقافية والفضاءَ الجبلي بإصغاءٍ وإنصاتٍ إنساني وارتقاء معرفي، ذلك أن هذا المجال إلى جانب الصحراء، يُعتبَر المكوِّنَ الأبرزَ في أحداث ومراحل التاريخ المغربي، بالتالي فهو أحد مُرتكزات وجدان ونفسية الإنسان. إن قوة أدب وطني ما، كما علّمَنا تاريخُ الأدب، تكمن في قدرته على بيان الخصوصية المحلية، وهو لا غيرُه ما قد تُسهم به الخصوصيةُ في الحوار الأدبي العالمي.

كَكُلِّ روايةٍ عميقة، وكَكُلِّ أدبٍ رفيع، فإن جويطي يُجاهد ليَرسُم ملامحَ شعبٍ في روايةٍ بموهبةِ الروائي وقُدرته على تأويل سيمياء العالم، وتحويل دَبْدَبَاتِ المجال إلى لغة. إنها الوسيلة الفنية التي أَبدَعها الروائي لمُواجهة العالم وسَبْر مَغالِقه وحَفْرِ جينالوجياه النفسية وخَوْضِ مُغامرةِ ما يُناهز أربعمائة صفحة يُقدِّم عَبْرَها يومًا واحدًا من ثورة الأيام الأربعة. إنه مِسْبَارٌ روائي رفيع، يَلتقط كيمياء أمّة بأنْبَل وأرذل ما فيها. لا يبدأ الكتابة من موقع أن يكون ضد أو مع، وإنما يكتب ليعرف، ليَبحث، ليُحلِّل، مُنطلِقًا من المعرفة وساعيًا إليها، يُقلّب زوايا الفهم، وما أن يبني قناعةً في نفسية القارئ، حتى يأتي ويُقلِّبها على الجوانب الأخرى. إن الكاتب يَختبر، ويدور مع المنظورات المُتعدِّدة، مُتحرِّرًا من إسار الإطلاقية، مُتَّكِئًا على القوة المعرفية والموهبة للقبض على المُتَفَلِّت واللامرئي في حركة العالم الذي يمُور بالدلالات من حولنا، بعيدًا عن الغنائيات اللغوية ضَحلة الغور، المُكْتَفِية بفَوْقِيات العالم كأي كلام عادي تَعوزُه التأملاتُ الاستبطانية في أعماق الفعل الإنساني المتفاعل مع المجال. إننا نقرأ نصًّا لكاتبٍ له قوة الكَشّاف، ومَقدرة هائلة على رصد وتأويل انعكاس السيكولوجية على الفسيولوجيا وإيماءات الذات لتجلية ما يتخفّى وراء أقنعة الكلمات والعبارات. إنه عمل إبداعي أساسُه الوعي النقدي المُزدوج، لا تُحرِّكه خطة أيديولوجية أحادية النظر، بل ينطلق من وعيٍ نقدي للسرديات الثورية المعارضة، وللأدبيات الرسمية الماضوية، كما يُعمِل إزميلَ الحفر المعرفي في أدبيات سيكولوجيا الجُموع، كلُّ ذلك بوعي إبستمولوجي يُفَكِّكُ إشكاليةَ بناء التاريخ وتغيير مراحله. وإذا انزوى ابن خلدون "في قلعة صغيرة بجوار تيارت أربع سنين، كتب أهم ما في تاريخه من عبر" (الرواية ص 167)، فمثله جويطي، انزوى في مدينته الصغيرة الأثيرة بني ملال أربع سنوات بعد رواية "المغاربة" وكَتب ربما أهم ما في زمن بلاده من عِبر سردية.





في هذه الرواية يُمارِس الروائي العصيانَ المعرفي، حسب عبارة المفكر الإنسي والتر ديمنيللو، والرد بالكتابة كما دعا إلى ذلك مُثقّفو المستعمرات السابقة فيما عُرف بأدب ما بعد الاستعمار، وذلك عبر تفكيك سرديات الحماية الفرنسية، وإعادة كتابة سرديات الهامش المغربي الجريح، بحيث يُعَرِّي آثامَ القوات الفرنسية أثناء وبعد الحماية من خلال فجائع الحرب وعبودية السواعد في شقاء السُّخرة بالمَهجر.

الكاتب يَرُدُّ بالكتابة على الموت عبر تَوْليفة المنظورات السردية، ويُحقق انتصارًا رمزيًا وقيميًا عليه، فهو يُجْلِي فضيحتَه عندما يَتخطَّف الشبابَ، وصغار السن من وادي إيريس، حينها يُظهرُ الموتَ غادرًا يَنقصُه جلالُ الشهامة، وخائنًا لنظام الطبيعة ومُغتالًا صيرورةَ الإنسانية ودينامية التاريخ والحياة. إن مرثية السارد للشباب، حتى يجعل لهم مقبرةً من الصور، ومساءلَتِه كلَّ سببٍ وراء هذه الفجيعة العظيمة، يُعتبر نقدًا للثورات التي أكلت الشبابَ ومَحقَتهم، كما يُعتبَر نقضًا للعنف الثوري وحُمّى الحماسة التاريخية التي جاءت على الإنسان والعُمران.

إن صاحب هذا الخيال الجَموح والقوة السردية الأثيلة قد تجاوَز شوفينية الكتابة ما بعد الاستعمارية التي تأتي غالبًا إما مع أو ضد، كما تَجاوز الاستلابَ في التبعية للبراديغم الاستعماري، فهو، كما سلف القولُ، ينهض على رؤية إبستمولوجية تدور حول مُساءلة المعرفة، ولا يَقع ضحية المنظور الأيديولوجي المُنحَسِرِ بين ثُنائية حدّية أساسُها التَّمَتْرُس الذهني المُصْمَت كما هو الشأنُ بالنسبة لكثيرٍ من أهل الرد بالكتابة. يرى الناقد والمفكر الأدبي الأميركي المعاصر جوناثان فرانتزن أن الأدب الجاد هو الذي يَهتم بالجوهر الإنساني، وليس التعامل المباشر مع الواقع الاجتماعي والسياسي. من هذا المنطلق، فإن جويطي يَكتب روايةً جادّة ويُقدّم اجتهادًا في المسار التخييلي المغربي.

جـدل الحقيقـة التاريخية والحقيقـة الفنيـة

إن الرواية وإنْ كانت تَستمد لُبَّ حبكتها من أثرٍ مرجعي في ثورةِ القائد البشير سنة 1961، وأحداث مولاي بوعزّة سنة 1973 وما أعقَبَهُما من حركاتِ تَمرُّدٍ على نظام الحكم في المغرب، فإنها بذلك الخيال الجموح، لا تسعى للتناسُخ مع حقائق الحدث التاريخي، بل إنها تسعى لمُجاراة الحقيقة الفنية بعبارة المفكر والناقد الإنكليزي تيري إيغلتون، وما تلك الأحداث إلا تَعِلّة فنية للتداوُل حول إشكاليةِ التغيير في التاريخ. إن الكاتب المرجعي يَتعلَّلُ بثورة الأيام الأربعة كما انطبعتْ أصداؤها في ذاته، وكما تفاعل مع وقائعها في ذاكرته طفلًا ويافعًا، وكما سَحبَتْهُ إلى استحضار واستذكار جوانب من سيرته وسِيَرِ شخصياتِ الرواية، لأنها البُؤرة المُوَلِّدة للسرد وتَشعُّباته الجَمّة، وذلك كي يرتِقَ بالتخييل سَدى الواقع الذي تَخرَّق، فيكون الخيالي جسرًا لإعادة فهم الواقعي. كما أنه يُراهِن على تكوين عقلٍ جيد للقارئ لا على شحنِ رأسِه، وجودةُ العقل هي دفعه عبر الإواليات السردية إلى ما وراء اليقينيات وتلقّي الأجوبة، وحَفْزُه على اكتسابِ منهجية النقد المُسْتدام لكل ما تقدّم وما تأخّر من السرد والمنظورات، هنا تَكمُن قوةُ الكتابة والرؤية التركيبية ذات الوعي المعرفي الإشكالي، وليست ذلك الضربَ من الوعي الأحادي الرَّكيك والتسطيحي للعالَم كما تُجسّده الرؤيةُ التبئيرية الواحِدية العالِمة بكل شيء.

إن هذا الجزء الأول من رُباعيةٍ وشيكةِ النشر والتعميم، قائمٌ بذاته كنص روائي، من ذلك أنه يَعتنق فكرةً أساسية تَعتمل في الإنسان والمكان على حد سواء، أي الارتباط. لكل شخصية هوسٌ وارتباط بشيء ما، كأن وجودَها لا يَتحقّق إلا بعُنصرِ الارتباط: نساء الربوة وانتظارُ أَوْبَة الغائبين، طموش وحبلُ الشاحنة التي أقَلّتْ وحيدَها إيعزا للتجنيد ضمن الجيش الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية، علال وقد تقمّصَ شخصيةَ الرئيس الفرنسي شارل ديغول، والثوارُ وهم يَنتظرون الإشارة بعد أن سيطروا على الثكنة النائية في عُنق الجبل... لذلك فإن الروائي ينسُج بنيةَ الرجاء والانتظار الذي يجعل الإنسانَ والمجالَ رهن الارتباط، ويُنجِزُ مأثرةً سردية تُعَظِّم ما يبدو لنا عاديًا يوميًا في نسغ الحياة النفسية والعيانية، ويكتب شعرًا نثريًا يَمنح التفاصيلَ شَأْوَ المعاني الخالدة، فيَرقى بها إلى مَصاف السُّمو الإنساني الخَلّاق.

إنه بهذه الطريقة الحَفْرية الوئيدة المُتَّئدة انتصر على ذاته، وتجاوزَها إبداعيًا، وتفادى أن يكون ضحية التملُّك النصي من خلال عمله السابق، فطُوبى للسرد المغربي بهذا الروائي الأريب.