Print
إدريس الخضراوي

"حرب الكوم".. عندما تفكّك الرواية مزاعم السّردية الاستعمارية

3 أغسطس 2022
عروض


 

بعد روايتين حظيتا بالترحيب النقدي من قبل القرّاء هما "رفيف الفصول" (2007) التي نال بها جائزة المغرب للكتاب، و"بأي ذنب رحلت؟" (2018) التي صنّفت ضمن روايات القائمة القصيرة لجائزة البوكر، أصدر الكاتب المغربي محمد المعزوز حديثًا عملًا جديدًا حمل عنوان "حرب الكوم" (المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2022).

يمكن أن نلاحظ منذ الوهلة الأولى أن المعزوز يتطلّع بهذه الرواية المتأصّلة في التاريخي والواقعي إلى أفق مغاير سمته الاحتفاء بالسّياسي والاجتماعي، وهو نهج يستطيع القارئ المتتبع للرواية المعاصرة وتحولاتها أن يتلمّس علاماته الكثيرة في العديد من تجاربها القوية[1]. ونعتقد أن هذا الأسلوب الذي يَنزاحُ عن الرؤية الجمالية التي تَختزلُ وظيفة الرواية في خلق عالم مستقل من خلال الكلمات، دون أن يؤطّر [=الأسلوب] نفسه في الحدود التقليدية لمفهوم "الالتزام" بدلالاته السّارترية، لا يرتدّ فقط إلى كون ما هو سياسي مرتبط أشدّ ما يكون الارتباط بالوجود، وإنما أيضًا إلى كون الأزمنة المعاصرة المطبوعة بالأحداث السياسية والتاريخية الكبرى لا تترك للكاتب أي منفذ للكتابة والإبداع بمنأى عن أي تماس مع القضايا السياسية التي تَعبرُ زمنه وتلقي بظلالها على كينونة الإنسان وبحثه اللاهث عن الحقيقة. فهل تشكّل "حرب الكوم"، وهي عمل يَندرجُ، على صعيد النوع الأدبي، ضمن روايات ما بعد الاستعمار، مرحلة جديدة في تجربة المعزوز؟

يُكثّفُ عُنوانُ الرّواية عالمًا من الدلالات السياسية والتاريخية التي تُحيلُ على حقبة مهمة من تاريخ المغرب الحديث، هي الحقبة التي أخضعت خلالها القوة الفرنسية المغرب لمعاهدة الحماية في 30 آذار/مارس 1912 وصولًا إلى الاستقلال 1956. مفردة "الكوم" تشير إلى المغاربة الذين جندتهم فرنسا قسرًا ليخوضوا القتال في صفوف جيشها في الحرب العالمية الأولى، وتُحيل هذه المفردة أيضًا في الرواية على الجيل الثاني؛ جيل الأبناء الذين تم تجنيدهم في المواجهة ضدّ ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية انطلاقًا من المغرب وتونس والجزائر، ولاحقًا انطلاقًا من إيطاليا. وتضمّ طوابير المقاتلين أيضًا الجنود الجزائريين الذين يطلق عليهم "صبايحية". وما تقوله الرواية على لسان شخصياتها هو أنّ "الكوم" لم يكونوا راغبين في خوض هذه الحرب، ولم يختاروا الانخراط فيها، ولم يعتبروا هذه الحرب حربهم، إنما الغطرسة الاستعمارية لفرنسا المسكونة بخلق غبطة القتال في بني مستعمراتها هي التي أجبرتهم على الذهاب نحو فوهات المدافع ولهيب النار، وهي التي أرغمتهم على أن يتوارثوا القتل بكل ما يولّده من الهواجس المتصارعة. يشبّه عيسى، وهو شخصية أساسية في الرواية، نفسه "كواحد من عبيد اليونان الذين كان يتفرّج عليهم في السينما، مقيّد الأرجل واليدين، محشوًّا في عربة متهالكة تحمله إلى حرب لا يعرف عنها شيئًا"(الرواية، ص91).

بهذا العنوان المشحون والمثقل بآلام "الكوم" ومعاناة أبنائهم يَضربُ الروائي المعزوز مستفيدًا من تكوينه الفلسفي والجمالي ومن ثقافته الروائية موعدًا جديدًا مع القارئ كي يَستكشفَ من خلال العالم الروائي وتفاصيله ومغامرات شخصياته، وأيضًا من خلال الفضاء والزمن، تجربة روائية ما فتئت تتجدّد من عمل لآخر، وخطًّا سرديًا مختلفًا من حيث الرؤية إلى الإنسان والوجود. وعندما نعتبر "حرب الكوم" رواية تنتمي إلى رواية ما بعد الاستعمار[2] التي نظّر لها العديد من النقاد من طراز إدوارد سعيد وبيل أشكروفت وإيف كلافارون وجون مارك مورا، فإننا نستند في هذا التصنيف إلى وظيفة الرّد وإعادة الكتابة التي يَنهضُ بها السّرد المعاصر في سياق ما بعد الاستعمار في مسعى لتصحيح الصورة النمطية السّائدة حتى الآن عن الجماعات التي تم تمثيلها في الثقافة الغربية بصورة سيئة بما في ذلك "الكوم" الذين مثّلوا كجماعة ارتكبت جرائم اغتصاب ضدّ النساء، لأسباب تاريخية ترتدّ إلى ضيق فرنسا من الدور المحوري الذي نهضوا به كقوة أساسية في التحرير ودحر النازية وانتصار الحلفاء عليها، ودينية تعود إلى الخوف المتأصّل في الكنيسة وموقفها من الإسلام، وهو الموقف الذي لا يَزالُ يعبّر عن نفسه في خطابات اليمين المتطرّف في صورة كراهية الإسلام أو الإسلاموفوبيا أو كراهية الأجانب. ومن ناحية أخرى، يستدعي هذا التصنيف، على مستوى التلقّي، دمج التجربة الإمبريالية في قراءة الرواية واستكشاف أبعاد عالمها والظروف التي تؤطّره. ويرى الناقد الفرنسي إيف كلافارون أن هذه القراءة تجد مبرّرها في هجنة الثقافات، و"بسبب ماضي الإمبريالية، فإن الثقافات برمتها متشابكة ومتداخلة بشكل معقد، وهيهات أن تكون الثقافة وحيدة ونقية، بل كلّ الثقافات هجينة مولّدة، مزيجة، مشوبة وغير نقية، وهيهات أن تكون وحدانية موحّدة ومستقلة ذاتيًا"[3].





تعبّر رواية "حرب الكوم" عن أطروحة مفادها أن التمثيل الثقافي السّلبي والمؤسس على التلفيق والافتراء لم يكن سوى محاولة يائسة لتجريد "الكوم" من المجد والتتويج الذي تحصّلوا عليه بين قادة العالم، وفي ضمير الشعوب الهاتفة باندحار النازية. أما الأحداث فتدور في فترة الأربعينيات في وجدة الواقعة شرق المغرب على الحدود الجزائرية المغربية، وتحديدًا في حي كولوش المعروف بالفيلاج. يقدّم السارد هذا الفضاء على أنه مختلف ومحظوظ. فهو "يحاذي وادي إيسلي الذي تفرّعت عنه غدران تعانق البقاع. أهلته قبائل مختلفة من مدينة وجدة كبني يزناسن وأنجاد ولماهية. أغلب أفرادها أجراء وخمّاسة عند المعمّرين. يسكنون بيوتًا من طين، إما متزاحمة أو متلاصقة على امتداد دروب ضيّقة، وإمّا متفرّقة ومشتتة يبعد بعضها عن بعض وسط الحقول والأراضي المزروعة والبور المهملة" (الرواية، ص8). ولفهم العالم الروائي والقناعات والمشاعر والأولويات التي يتم التركيز عليها من منظور ما بعد الاستعمار، لا بدّ من الانطلاق من سنوات الأربعينيات كمحطّة حاسمة ومفصلية من الناحية التاريخية، سواء في السّياق الفرنسي حيث تميزت هذه الفترة بنظام فيشي الذي تزعمه الماريشال فيليب بيتان، وهو نظام سلطوي تبنّت فيه الدولة سياسة "التعاون" مع النازية، كما برزت فيها كذلك النزعة "القومية المتكاملة" ذات الخلفية الموراسية (نسبة إلى شارل موراس) العنصرية والمعادية للسامية، وعلى مستوى المغرب تميزت هذه المرحلة بالجفاف والجوع والأوبئة: "أخبراه كيف مات الإمام، ووالد الميلود والساهرون على الزاوية، وكيف جاع الناس وتحوّلوا ذبيحة في المطبخ الكبير الذي أعدّته فرنسا" (الرواية، ص194)، كما أنها شكلت أيضًا بداية تبلور عمل وطني مناهض للاستعمار في شكل تنظيمات سياسية ترقى إلى ما يُمكنُ نعته بالأحزاب[4]. هذا السّياق مهم جدًا لفهم الأفكار التي تطرحها الرواية، والمصائر المحدّدة لشخصياتها، والقيم الإيجابية التي يدافع عنها المجنّدون "الكوم" في وجه الآلة الاستعمارية الغربية، وأعوانها في الداخل والخارج.


ما نلاحظه إذًا هو أن السرد يتركزُ حول أسرة مجنّد سابق في صفوف القوات الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، هو سليمان ابن فقيه الحي عبد السّلام الصّوفي، المكونة من ستة أفراد، الزّوجان سليمان وحليمة، والأبناء الأربعة: زوليخا وعليّ وعيسى وموسى. تتابع الرواية سيرة هذه العائلة بأجيالها الثلاثة من خلال مجموعة من الشخصيات تلتقي ليس فقط على مستوى المصير المأساوي الذي يخبئه لها القدر، وإنما أيضًا على صعيد التأمّل الذاتي الذي ينقلها تدريجيًا من خلال الوضعيات والمواقف الصعبة التي تواجهها إلى مستويات أرقى من الوعي الذاتي الذي يحرّرها وينزع عنها قيود التبعية والارتهان. وبهذا المعنى لا تتعيّن الذات عند المعزوز ثابتة أو مكتملة أو ناجزة بصورة نهائية، بل هي في حالة من المراجعة المستمرة في عملية معرفة نفسها، ومن التطور والنمو والتحول في وعيها الذاتي، وفي المواجهة مع الشّرط السائد. وإذا كان المسار السردي لبعض الشخصيات في الرّواية مثل سليمان وابنه عليّ يتوقفّ مبكرًا بصورة تراجيدية، فإن هذا الغياب الوجودي لا يغطي على دورهما الحيوي في دينامية السرد وتفرعاته، فالاستحضار المستمر لهما من خلال التذكر والتأمل الذي ينفذ إلى طوية الشخصية ويصدع بما يجول فيها، يولّد أثرًا عميقًا في وعي أفراد الأسرة، بمن في ذلك التوأمان موسى وعيسى، والأم حليمة وابنتها زليخة، الذين تنطوي ملفوظاتهم على رؤية واضحة عن الاستعمار بوصفه حالة مضادة للحرية، ولفرنسا بوصفها جرحًا عميقًا لا يندمل، وطعنة في الظهر يتطلّب اقتلاع أثرها الانغماس في كفاح بلا هوادة لاستعادة الوجود الأصيل.

الأحداث تدور في وجدة الواقعة شرق المغرب على الحدود الجزائرية المغربية، وتحديدًا في حي كولوش المعروف بالفيلاج



يشكّل عليّ مبتدأ السّرد في رواية "حرب الكوم". طالب درس في فرنسا وكان مبرّزًا في الرياضيات والفيزياء. وقد فتّح عينيه على الخفي من نوايا هذه القوة الاستعمارية التي تدمّر هوية الشعوب و"تقودها إلى حشود من الأشباح لا تعرف بعضها البعض، ولا ترى الوطن وطنها، بل مجرد عدم أو عدوان" (الرواية، ص77)، وفي كلّ مرة عندما يَعودُ إلى بلده كان يَخوضُ نقاشًا مع والده حول ألمانيا وفرنسا، ويعتبر إحداهما امتدادًا للأخرى. يفقد عليّ عقله، وبهذه الواقعة تدخل الأسرة حالة من الضياع والتيه والمعاناة لم يقو الوالد، وهو مجند قبلًا في الحرب العالمية الأولى، على تحمّلها بين أهل القرية، ليقدم على تصفية ولده رميًا بالرّصاص اعتقادًا منه أنه بهذا الفعل يحرّر ولده وينهي عذابه. لكنّ بعد ثلاثة أشهر من مقتل عليّ، يموت الأب متأثرًا بهول الصدمة والكآبة الظلماء التي أحاطت به وأفقدته الذاكرة والحركة. لا شكّ في أن الروائي لا يتيح للقارئ أن يتعرّف على أفكار عليّ المناهضة للاستعمار من خلال ملفوظاته، وإنما من خلال السّرد الاسترجاعي الذي يقوم به كل من موسى وعيسى وهما في قلب المعركة يستعيدان مروياته عن همجية الغرب، عن اغتصاب النساء في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، وعن مجازر الثورة الفرنسية وحروب نابليون، ومع ذلك فإن الأفكار والمشاعر والرؤى التي يتم التركيز عليها، والوعي الحاد بالمستعمر المستبطن في كلماته ومروياته، يجعل منه شخصية محورية تؤدّي دور العلامات التي شكّلت نقطة الارتكاز في قراءة دولوز لبروست. 

لكنّ قصّة الأسرة تأخذ منعطفًا آخر بإجبار السّلطة الاستعمارية الأخوين التوأمين موسى وعيسى على الالتحاق بقواتها للقتال ضمن التحالف ضدّ ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. تفتح الرواية من خلال الاستدعاء الذي حمله الشيخ حمّاد والجنود الفرنسيون لبيت سليمان ومفاده أن الدور قد جاء على عيسى وموسى ليتطوعا في الحرب العالمية الثانية كما هو شأن عمّهما ووالدهما في الحرب السابقة، الباب واسعًا على جرائم الاستعمار، وعنهجيته واستغلاله ومعاملته القاسية للأهالي. وفي الوقت الذي ينخرط فيه موسى وعيسى انخراطًا وجوديًا في المعارك ضدّ النازية في تونس وفي ألمانيا، مسلّحين بالإيمان بواجب دحر الشّر الذي تمثله هذه الحركة المتطرفة التي جعلت من هذا العصر عصر اللاإنسانية والعدوانية والإبادة الجماعية للبشر، فإن فرنسا الاستعمارية تقابل هذه التضحية بتعريض الأم وابنتها للتشرد والضياع ومواجهة المصير المحتوم بانتزاع الأرض الفلاحية التي باتت المصدر الوحيد للعيش. وفي مسعى لمواجهة الموت المهدّد، تضطرّ الأم إلى التخلّي عن الدور الموكول لها وتحمّل مسؤولية جديدة خارج البيت بالعمل في بيت مستوطنة فرنسية، وتنجو بأعجوبة من الاغتصاب من قبل زوجها، وهو الأمر الذي لم تستسغه زوليخا، ورأت فيه إهانة ومسا بشرف العائلة. هكذا تقبل زوليخا الزواج بالشيخ حمّاد الذي نصّبه المقيم الفرنسي بوجدة شيخًا على حيّ "كولوش" ليكون ظلّ فرنسا الذي يظلّل الحي بأكمله، لتواجه مصيرها، وتقتل على يديه بعد أن رفضت الشرط المظلم الذي خبأه لها.

بينما تبدأ الحرب في الرواية بفعل فعلها في نفوس "الكوم" وقادة جيوش الحلفاء، تفسح المعاناة والتجارب الوجودية القاسية، تجارب التشرّد والشتات المتولّدة من الحرب، مجالًا واسعًا للتدخّل الفعّال الذي يجلي القيّم الإيجابية الكونية التي تتعالى على الحدود الضيّقة التي يرسمها العرق أو الدين أو الثقافة، بشكل تتجسّد معه الفكرة الأنسنية التي يعطيها الشعور بألم الآخر دلالتها الملموسة. وإذا كانت هذه الحقيقة التي يعجز المستعمر عن هدمها، مليئة بالشقاء ولذلك يضمر لها البغض والمقت لأنها لا تكفّ عن تذكيره بعيوبه، فإنها بالنسبة للكوم إمكان ليس فقط لمساعدة الآخر، سواء أكان المحتل أو النازي، على التخلّص من الشّر الذي ليس في الحقيقة سوى إنكار أو جهل مطبق بتلك النقائص، وإنما أيضًا للذود عن الجدارة الشخصية بالتصرّف رغما عن كلّ شيء. في هذا السيّاق تظهر الرواية عيسى ومجموعة من الجنود الكوم بوصفهم نموذج المثال الأخلاقي من خلال التركيز على الدور الإنساني الذي نهضوا به سواء في تونس، عندما اندفعوا مغامرين بحياتهم لمساعدة أسرة يهودية كانت مهددة بالقتل من قبل النازية، وتهريبها إلى المغرب، والاستقرار بوجدة. في هذا الإطار تبرز الرواية الوضع المستقرّ الذي تمتع به اليهود في المغرب، والظروف الملائمة التي استفادوا منها، ما أتاح لهم "قطع أشواط بعيدة على مستوى التخفيف من أضرار الاستغلال الاستعماري الذي عانت منه الفئات المغربية العريضة"[5]، أو في إيطاليا عندما أنقذوا نساء من جرائم اغتصاب اقترفها جنود فرنسيون، بإيعاز من جنرال فرنسي، وكانوا يرتدون لباس الكوم بهدف الإساءة إليهم، وترسيخ صورة لهم كمجرمين في متخيل الناس العادين. وتشّكل علاقة الحبّ الناشئة مصادفة بين عيسى وأدارا، الشّابة اليهودية التي أصرّت على مواجهة والدها الذي تنكّر لعيسى وبات يرى فيه العدو الذي تجتمع فيه الآفات والمخاطر، ورفضت الزواج من اليهودي هارون مهما كان الثمن، وحرصت أشدّ ما يكون الحرص على خدمة والدة عيسى حتى من دون أن تعرف شيئًا عن مصيره، مثالًا لمعاني التضحية من أجل الحبّ الذي يشدّها إلى الإنسان في ذاته.   

دلالة السرد بضمير الغائب

تعتمد الرّواية السّرد بضمير الغائب، ورغم ما ينطوي عليه هذا الأسلوب من هيمنة الراوي العالم بكل شيء، كما سمّاه آلان روب غرييه، أو ذي المعرفة الكلية بالعالم، فإن الرواية تفتح مجالًا واسعًا للتذويت من خلال الرؤى والمواقف الخاصّة المعبّر عنها في ملفوظات الشخصيات. إن اعتماد هذا الأسلوب، يمنح النص بعدًا حواريًا متعدّد الأصوات، وهو ما مكّن الروائي من تجلية الدور الذي اضطلع به "الكوم" في الحربين الأولى والثانية، والدّين الكبير الذي تدين به فرنسا للمجنّدين من مستعمراتها في أفريقيا، ومن تسليط ضوء كثيف على الرؤية الغربية المسكونة بالتحيز العنصري والكراهية ضدّ الآخر، ولا يتجلى هذا من الأدوار القتالية التي يُرغمُ المجندون على القيام بها في الصفوف الأمامية بأسلحة بسيطة مقارنة بتلك التي يمتلكها الجنود الإنكليز والفرنسيون، وإنما يتجلّى أيضًا من طمس القيم الحضارية المتأصّلة التي يظهرونها في الحرب، وتجريدهم من دورهم المفصلي في النّصر على النازية الذي لا تريده فرنسا أن يُسمعَ ويُرى.

محمد المعزوز  وإدريس الخضراوي



من هذه الزاوية تقدّم الرواية نقدًا عميقًا للنزعة الامبريالية الفرنسية من خلال مواقف جنرالاتها وقادتها العسكريين من المجندين من المستعمرات في أفريقيا ومن "الكوم" بصورة خاصّة. وتبرز الرواية من خلال الدور الذي نهض به الأخوان عيسى وموسى في الحرب ضدّ ألمانيا في تونس، وفي إيطاليا، والصورة التي تمكنوا من نحتها بين الجنود وأيضًا في صفوف الإيطاليين كمقاتلين أشاوس، الضيق الذي شعر به القادة العسكريون الذي عملوا على التمويه ببطولات "الكوم" التي رأوا في صداها مساسا بهيبة جنود فرنسا، بنشر صور كاذبة ومضلّلة بوصفهم يغتصبون النساء ويقتلون الأطفال، وهو ما تمكّن عيسى مع مجموعة من المجندين المغاربة من فضحه، بعد أن اكتشفوا أن فرنسيين يرتدون اللباس المغربي يقومون بعمليات اغتصاب ونهب حتى يتم ترسيخ هذه الصورة عن "الكوم". وبما أن عيسى تمكّن من تحطيم الرواية الفرنسية المزيفة، وأدخل الجنرال جوان متاهة المخاوف والهواجس: "كنا نريد أن نستخدم الكوم في هذه الحرب، لكن العكس هو الذي حصل. إنهم يستعملوننا ليوطّدوا وجودهم الذي نكرهه وليثبتوا دينهم الذي يخيف. كأنهم يعودون إلى التاريخ في أشكال مخلوقات مقدّسة" (الرواية، ص180) فإنه يتم التخلي عنه باختلاق سردية مضلّلة مضمونها إصابته باختلال عقلي لم يعد معه قادرًا على مواصلة الحرب. هذه هي الصورة التي أراد الجنرال جوان أن يشكلها في أذهان الناس، حتى لا يصدقوا رواية عيسى عن الفرنسيين الذين ينتحلون صفة الكوم في اغتصاب الايطاليات.

تشكّل اختفاء موسى في ظروف غامضة، وعودة عيسى إلى المكان الأصل، الطريق المختلف لرواية الجانب الآخر من حكاية "الكوم"، وإعادة التفكير فيها على نحو يمكن معه إعادة تشكيلها وتوسيع آفاقها. ليس عيسى مثل أولئك الذين وصفهم سارتر في مقدمة كتاب "معذبو الأرض" لفرانز فانون بأنهم لا "يملكون ما يقولونه لإخوتهم، لأنهم لا يريدون أن يرجعوا ما يسمعون"[6]، بل هو من طينة أخرى إذ تتعين عودته تدشينًا لمرحلة جديدة منفتحة على الاحتمالات اللانهائية، وحساسة للعلاقة بالوطن التي يحملها في ذاته كلّ فرد من "الكوم". من هذا المنظور يمكن أن نفهم الدلالات الطباقية للرّحلة والانتقال والترحيل والهجرة كما عاشها عيسى سواء باتجاه مناطق القتال أو عند الترحيل إلى الوطن، حيث كلّما اختبرت الشخصيات تجارب جديدة، وواجهت وضعيات صعبة، وتعرّفت على أناس آخرين، كلما اشتدّ تحوّلها من وضع لآخر، ومن حالة لأخرى. لنقل إن ترحيل عيسى إلى أرضه، ينهض روائيًا بوظيفة تكريس القيم الإيجابية التي ترمي الرواية إلى التعبير عنها متكئة على قوتها الاستكشافية والمعارضة. لا شكّ في أن هذه القيم متأصلة في الديني والثقافي الذي يمتح منه عيسى، لكنّ نظرته إلى العالم تتعيّن بوصفها أوسع من أن ترتهن إلى هذه المحدّدات، لأن ما يحكمها هو مفهوم الواجب الذي يتوجه نحو الإنسان بوصفه هدفًا لا وسيلة. في هذا السياق، إذا، يمكن أن نفهم في ختام الرواية كيف يتمّ التركيز على وقوف عيسى في وجه الغطرسة الاستعمارية، وضدّ القتل الرمزي الذي يختلقه الاستعمار لتشويه هوية التابع وتفكيكها، والانحدار به إلى سفوح النسيان الأليم. وليس الانتقام من المستعمر بتقويض أركانه وقتل القائد والشيخ حمّاد والجنديين اللذين جرّعا سكان الحي كلّ صنوف العذاب، سوى تعبير عن ذلك التحول المستمر لوعي الذات الذاتي، حيث تتعيّن الحرية بوصفها ما يحدّد شرط الإنسان، ويكون "المعنى هو عزم الإنسان على فعل البطش ضدّ الباطل كلّما كان الحقّ مدركا بنور القلب وبصيرته" (الرواية، ص196). كما أن اتصال عيسى بأدارا التي ظلّت كلّ جوارحها مشدودة إلى صورته منذ رأته أول مرّة، ليس فحسب تكريسًا للحبّ كمبدأ أسمى للحياة، وإنما هو أيضًا تمثل لمقولة الجد ووصاياه: "الخضوع للانتظام، لوحدة الصّف عضل في بدن البشرية" (الرواية، ص17).

لا شكّ في أن التمثيل السّردي لقضية "الكوم" يظلّ من الجوانب المغمورة في التخييل الروائي المغربي، مقارنة بالحضور الذي يتمتع به هذا الموضوع في الحقل الإسطوغرافي، وإذا ما اعتبرنا أن رواية محمد المعزوز ربّما تكون أول محاولة تتقصّى هذا الموضوع بصورة شديدة الانتباه كما يتبدّى، على الأقل، من خلال عنوانها وعالمها الروائي، يتضح أن تخييل هذه الجماعة وإعادة بناء هويتها عبر وساطة السرد، والتعريف بالأدوار المختلفة التي لعبتها منذ القرن التاسع عشر، من شأنه أن يقدّم إضافات نوعية للرواية المغربية المعاصرة بصورة عامة، وللرواية التاريخية في مسعاها لإدراك السّمات البارزة لعصرها بواقعية جريئة وثاقبة.

هوامش:        

[1] انظر الدراسة التي أصدرها حديثا الباحث الفرنسي ألكسندر جيفين بعنوان: La littérature est une affaire politique

[2] يمكن الإشارة إلى الدراسات التالية: "الثقافة والإمبريالية" لـ إدوارد سعيد (الطبعة العربية)، "الرّد بالكتابة" لـ بيل أشكروفت وآخرين (الطبعة العربية)، "رواية ما بعد الكولونيالية" لـ إيف كلافارون (الطبعة الفرنسية)، وكتاب: "الفرنكفونية وآداب ما بعد الكولونيالية" لجون جاك مورا (الطبعة الفرنسية).

[3] إيف كلافارون: إدوارد سعيد الانتفاضة الثقافية، ترجمة محمد الجرطي، دار صفحات، دمشق 2017، ص113.

[4] براص محمد: الثابت والمتحول في علاقة الحزب الشيوعي باليهود المغاربة، مجلة هسبيريس- تمودا، المجلد الثالث 2016، كلية الآداب والعلوم الإنسانية: الرباط، ص35.

[5] تورية السعودي: المسلمات واليهوديات في مغرب الحماية من خلال مجلة "نساء المغرب" (1945-1948)، مجلة هسبريس- تمودا، المجلد الثالث، 2016، كلية الآداب والعلوم الإنسانية: الرباط، ص223.

[6] فرانز فانون: معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وزهير الأتاسي، الطبعة الثالثة، دار مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة 2017، ص19.