Print
سليمان بختي

"من حرب إلى أخرى": قراءة سياسية وتاريخية لحروب العالم

23 ديسمبر 2023
عروض

يحدد إدغار موران المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي في كتابه "من حرب إلى أخرى: من حرب 1940 إلى حرب أوكرانيا" (دار صفحة 7، ترجمة د. علي يوسف أحمد) أن أول قصف جوي مدمر ومرعب شهدته أوروبا هو قصف القوات الجوية الألمانية الذي أدى إلى تدمير مدينة روتردام عام 1940. وتلاه قصف لندن بصيف 1940، ثم كان هنالك قصف الحلفاء للمدن الألمانية، مثل مانهايم، وهامبورغ، وبرلين. ويقارن كل ذلك بالدمار الذي شاهده للمنازل والقتلى في أوكرانيا. ويقدم موران في هذا الكتاب قراءة فلسفية تاريخية تأملية للحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. وإذا كانت محكمة نورنبرغ استحدثت المفهوم القانوني الجديد لجريمة الحرب، فإن موران يرى أن المفهوم بقي غامضًا، برغم المعايير الثلاثة العرضية والبنيوية والمنهجية. ورأيه أنه إذا كانت محكمة نورنبرغ أدانت النازية فقد تسترت على الستالينية، وعلى وحشية القصف الأميركي لمدن الحلفاء، وعلى مجازر فرنسا في مدينة سطيف الجزائرية، وحصيلتها مقتل خمسة وأربعين ألف جزائري عام 1945. يورد موران في كتابه ذكرياته عن الحرب التي شارك فيها، وكان مرتبطًا بهيئة الأركان في الجيش الفرنسي. يتذكر ما أسماه الهستيريا في الحرب، هستيريا الكراهية التي تتحول من عرض ذهني، أو وهمي، إلى عرض من أعراض الواقع. وماذا في الحرب أيضًا؟ هنالك غسل الدماغ والأكاذيب. ومن هستيريا الحرب تولد عقدة التجسس والجريمة الجماعية. هستيريا الحرب تطلق العنان للنشوة أثناء الغزو، وتضاعف جرائم الحرب، مثل قصف المستشفيات، والمدارس، وإعدام الرهائن. يتطرق موران إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وأنه من الممكن أن يجد الصراع حلًا: 1 ـ في بناء دولة ديمقراطية. 2 ـ حل الدولتين، والذي تم التخلص منه تدريجيًا. يعطي موران الأمثلة لمخاوفه من تطرف الحرب في كل مكان في العالم، وخصوصًا في أوكرانيا. ولكن الحرب الأوكرانية هي حرب معولمة سلفًا، وهي إحياء لحرب عالمية محلية مصغرة. ويستشهد بما قاله بوتين بأنها حرب ضد الغرب.
ناظرًا إلى القرن الماضي، وأسباب الحروب فيه، يرى موران أنها نشأت نتيجة أحداث ومفاجآت غير متوقعة، ويعطي أمثلة؛ اغتيال ولي عهد النمسا في الحرب العالمية الأولى 1914. الثورة الروسية، ووصول الحزب البلشفي إلى الحكم عام 1917. تأسيس الفاشية الإيطالية 1922. أزمة الركود الاقتصادي 1929. الانقلاب العسكري في إسبانيا 1936. الهجوم الألماني على فرنسا 1940، والهجوم الياباني غير المتوقع على بيرل هاربور، الذي أدخل أميركا إلى الحرب، واستخدام السلاح الذري في هيروشيما وناغازاكي.




هنالك أيضًا حصار برلين 1948، وقضية صواريخ كوبا 1962، وتقرير خروتشوف المندد بجرائم ستالين، وصولًا إلى عام 1989، وتحرير الاتحاد السوفياتي بقيادة غورباتشوف وانهيار اقتصاده. وإلى تدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك 2001، وإطلاق العنان للخلافة الإسلامية، وتطوير التقنيات الاقتصادية، والتدهور البيئي، وختامًا جائحة كورونا التي سببت أزمة سياسية واقتصادية وجودية غير متوقعة. يتحقق موران مما أسماه بيئة الفعل وردة الفعل التي أدت إلى كل ذلك. هنالك موت مخيم على البشرية منذ 1945، وفي كل حرب هنالك تكرار لأهوال الحروب السابقة، وغياب الوعي بغير المتوقع، وغياب الإحساس بالخطأ والوهم. وهذا يضعف وعينا بالسياق التاريخي والجيوسياسي.
يقارن موران من خلال الرؤية المركبة لدور الولايات المتحدة وروسيا واشتراكهما معًا في استعمار الشعوب، مع فوارق بأن روسيا لم تمارس إبادة الشعوب، لكنها لم تحقق الديمقراطية، أو الحريات والحقوق المدنية. ولكن أميركا لا تزال تحتفظ بالتفوق التقني والاقتصادي رغم مواجهتها التحديات من قبل روسيا والصين. ورأيه أن هنالك اليوم إرادتين استعماريتين تتنافسان على أوكرانيا، إحداهما تريد المحافظة على هيمنتها على العالم السلافي، وثانية تريد دمج أوكرانيا في الغرب، وإزالة لقب روسيا كقوة عظمى منافسة لها في العالم. وبالتالي، أصبحت أوكرانيا فريسة جيوسياسية واقتصادية بين جبارين. مما أدخل أوكرانيا في ثلاثة حروب داخلية مع الإقليم الانفصالي، وحرب روسية أوكرانية، وحرب سياسية اقتصادية مدولرة. ويسأل: هل سينتشر الصراع في أوكرانيا ويمتد إلى أوروبا؟ والنتيجة حتى الآن تقلص السيطرة الأميركية ووقوف روسيا والصين ضد أميركا. وهل يمكن الوصول إلى سلام. يلاحظ موران بأن هنالك القليل من الوعي، والقليل من الإرادة، في أوروبا، لأجل تصور السلام. وشروط السلام واضحة، وهي الاعتراف باستقلال أوكرانيا، ومنحها وضعًا حياديًا، أو دمجها بالاتحاد الأوروبي بضمانة عسكرية. كل شيء قابل للتفاوض والسلام يجلب التهدئة وإلا ستتفاقم كل أزمات العالم وشروره. ويبني أخيرًا على معلومة تفيد بأنه في عام 2017 كان هنالك 80 مليون إنسان على وشك المجاعة، وأصبحوا بعد الجائحة 340 مليون نسمة.
تنبع شهادة إدغار موران في هذا الكتاب من خبرة وتأمل وخوف، ومن قراءة سياسية وتاريخية لحروب هذا العالم وأزماته. وهكذا كلما ازدادت الحروب بات السلام صعبًا أو مستحيلًا. ولعله يحذر صادقًا بأنه دعونا نتجنب حربًا عالمية جديدة، لأنها ستكون أشد وأدهى. وبين الشهادة والذكريات، وخلاص العالم، يقدم إدغار موران نصًّا جارحًا، وعبرة مؤلمة لمواجهة الحاضر ببصيرة نافذة ووعي ثاقب وعمل دؤوب كي تحل قيم السلام في العالم.