Print
حسام معروف

"قمر 14": الحرب التي أفسدت كل شيء

24 أكتوبر 2024
عروض


لا بد للقصة القصيرة جدًا أن تُحدث صوتًا يتردّد فيحدث صدى، وطعمًا يلذع مثل الخل في الفم، كي تتحقق الهدفية التي كتبت من أجلها.

ذلك الطعم اللاذع يمكن الإحساس به خلال المجموعة القصصية "قمر 14"، للكاتبة الفلسطينية أصيل سلامة، والتي صدرت عام 2024، وخلال حرب الإبادة بغزة، عن دار "مكتبة كل شيء" بحيفا.

في مجموعتها يمكن ملامسة طقوس الحرب والتجويع والإبادة الجماعية والحصار والتشرّد، التي تتكرّر لمدة أكثر من عام، حتى اللحظة. كما يمكن رؤية ما هو بمثابة تحديث للشر القديم الذي كبرت من خلاله الحروب. وخلال هذه الحرب، لا يجد الفلسطيني سوى الحيرة في التفريق بين الموت والحياة، حقيقة، لا مجازًا.

ففي بيان لجيش إسرائيل ينشر على مواقع التواصل، يتم تهجير مئات آلاف الفلسطينيين، نحو المجهول، حيث لا مكان يخترع لك الأمان في غزة خلال الحرب. فلا يتواجد أحد في غزة إلا و"فكّ خيمته، تنهّد، ولم يدر أين سينزح مجددًا"، كما تكتب أصيل سلامة في قصة "حيرة".

لقد عزّز تسارع الحياة وتعميم التكنولوجيا من تواجد الأخبار والأحداث في حياتنا، وهو ما عزّز دور القصة، فأخبار الحرب في فلسطين ولبنان، وتجارب الإنسان خلالها، مرتبطة بقصص مشبعة بالألم والحزن.

ومع كثافة الأحداث برزت الحاجة إلى سرد أدبي دقيق وموجّه وسريع، كما في ومضات الشعر، والقصة القصيرة جدًا، والفارق بينهما يكاد يكون رقّ شعرة.

ذلك التنظير تلغيه قصة بسيطة، لا تلتزم بمعايير النقاد، وتتخطى القوالب الأدبية كانفجار، لذا يكون علينا سماع الصوت، والانطلاق معه حيث يريد. وهنا يمكن أن نختلف مع الناقد الإسباني روبرتو بولانيو حين يقول: "القصة القصيرة جدًا مثل السهم يجب أن تصيب هدفها بدقة، أو تضيع تمامًا". فلن تضيع قصص أصيل سلامة، لأنها تروي قصة شعب يتعرّض للإبادة، حتى وإن لم تكن كالسهم، ويمكن تقبلها لو جاءت بكاءً لا أكثر.

قافلة للموتى

تنطلق مجموعة أصيل سلامة بطريقة القافلة، تمضي في شوارع غزة، تجمع وجوه الناس، ترقب السؤال الكبير في اليد، وترصد ما يحملونه من أوراق ناشفة مصفرة في العين، حتى الأصوات تحفظها في ذاكرة اللغة، فلا شيء كاللغة يفضح قسوة صانعي الحروب.

تجمع قصص سلامة صرخات الناس التي لا تنتهي، وتتصاعد من بين الجموع، ولا كاتم صوت يصلح لمنعها. فلا يمكن أن تحدث الانفجارات بدون أن تهدم شيئًا حولها، على أقل تقدير هنالك أمل ما ستتكسّر في المحيط.

تبحث عما هو مستمر من الألم، وما هو غير قابل للتصديق من هدر الدم وهدم الضوابط الإنسانية. وهو ما يتفق مع ما يقوله الناقد والكاتب الأميركي جون بيرجر، في كتابه "Ways of Seeing": "في أزمنة الحرب، ما نراه ليس هو ما يحدث، بل ما تتركه تلك الأحداث في داخلنا". حيث تصف المجموعة السجن الكبير، غزة، الأول من نوعه في تاريخ البشرية، فهل ورد أن منع احتلال الطعام والماء والوقود عن شعب؟ بالإضافة إلى منعه من التحرك خارج حدود الحرب، والهرب التلقائي من حُفر الموت.

في البدء، تتحدث الكاتبة عن تفكيك النسيج الاجتماعي بغزة، بسبب النزوح الإجباري، وانقسام الناس بين جنوب القطاع وشماله، وبينهما حاجز نيتساريم، الأفعوان الذي يرعب المارّين، ويمنع عودة النازحين، ويقتل الأبرياء كل يوم. تكتب سلامة: "أنا بخير يا جدي وعلى أمل أن يعود الاتصال بالإنترنت، كي تصلك رسائلي". لكن كما تم إغلاق الطريق، تم قطع الاتصال، وصارت فكرة عزل الحياة عن الإنسان، أو العكس، أقرب للتحقق. فكيف يتحول هذا الجرم الصارخ إلى أدب؟ وكم من قصة يمكن نشرها على حبل ممتد بين النازح والباقي؟

تكمل أصيل سلامة بقصصها محاكاة الطريق الشائك، واصفة صوت الرصاص والانفجارات، والتشريد المفجع للعائلات، عبر النزوح داخل خيمة بلا مسند ظهر، لا تغني عن البيت ولا تأتي بأي صفة للحياة.

ففي قصة "عروس" رايتان، راية أولى للحياة، بسعي مستمر للإنسان نحو الفرح والبناء، فتأسيس عائلة في الحرب، وعروس تتجهّز بمرطبات الجسد لعريسها، وعريس ينتظر أن يبدأ حياة جديدة رغم "ترند الموت" في غزة، هذا كله بمثابة يد ممدودة للسلام.

أما الراية الثانية، فهي للموت، ففيها كسر للحلم، وضياع للألفة مع الحياة، وتشتيت لفرح بسيط يبحث عنه الإنسان.

تكتب سلامة: "تلك العروس قضت ليالي عدة، ترطب قدميها كي تغري فارسها بنعومة مثيرة، ولم تكن تعلم أن ساقها ستكون أولى فرائس الحرب المشؤومة".

خلال حرب الإبادة بغزة، تفاصيل صغيرة في البيت تم حذفها، كأن يطهو حبيبان حساءهما بالنظرات والدفء والتلامس، لكنها الحرب تنسف هذا المشهد كله، حين لا يتواجد رأس بصل في المدينة بأكملها، لحبيبين يودان صنع لحظة. تقول أصيل في قصة "أحلام": "لكن هذا لن يحدث كله، في بلاد لا تجد فيها رأس بصل حتى!".

أما في قصة "احتماء"، فتسرد سلامة مأساة استمرار الحرب، ففي لحظة في الماضي القريب يستشهد الأب، وفي اللحظة الآنية يهدّد القصف جسد الابن، وهو ما يعني استمرار الموت في أداء حصاده. هذا التشبيك بين لحظتين، يكشف عن قسوة مشاعر الناس في غزة، ويغرق في تكثيفها عبر كلمات قليلة. المشهد مشهد موت، أسود بلا أي إضافات، نقيّ إلى حدّ مرعب.

صوت آخر في القصة، يكشف عن خيوط لم تتقطع، بين الابن والأب، وعن لغة رقيقة تهزم كل مشاعر الكره التي تحملها الطائرة الحربية الاحتلالية. وها هي الحياة الغريبة تسرد لنا، في لحظة غير اعتيادية، كيف لجسد حيّ أن يحتمي بجثة! تقول القصة: "أثناء تشييع أبيه الشهيد، علا صوت القصف، فاحتمى بأبيه للمرة الأخيرة".


تفكيك رموز الحياة خلال الحرب

تتوزّع على مدار المجموعة الممتدة حتى 110 صفحات من القطع المتوسط، رموز كثيرة، تختصر فكرة الفلسطيني بوجوده وثباته على أرضه، من جانب، وتصف الحال الكارثية التي تسيطر في غزة بفعل حرب الإبادة.

إذ تمضي الحياة هنا بتلك الرموز تحديدًا، فعلاقة الابنة بالجد وارتباطها الشديد بذكرياتهما سوية، في قصة "انتظار"، ترمز لهوية الإنسان الفلسطيني على أرضه، وتمرير حب الحياة، والأرض، كصفة متوارثة من جيل لآخر. 

يظهر ذلك أيضًا في رمزية زهر الليمون، المرتبط بذاكرة الفلسطيني وعشق أرضه. صحيح أنها زهرة صغيرة في حرب كبيرة، لكنها تجسّد المستقبل الذي يسلّمه الجد للحفيدة بيد مرتعشة، وسط الحرب. هذه المفارقات الحسية ألقتها الكاتبة مثلما ألقيت العصا في حشد سحرة فرعون.

تقول سلامة في قصة "أزهار الليمون": "تلك الزهرة ستصبح يوما ما ثمرة".

ولا يغيب الحب كرمز للحياة في مجموعة أصيل سلامة، بالرغم من كثافة روائح الموت، فالخاتم يضحّي برسالة للقداسة والارتباط الأبدي، تحمله إصبع الإنسان، ليكون عهدًا بين شخصين، أو بين شخص وذاكرته. أما النقش على الخاتم، فهو عمق مرتبط بالتوثيق والرصد للحظة، وعقد موثق بين عاشقين يحلمان بحياة كاملة دون حرب. حتى حينما جاء الموت، لم يستطع قتل اللغة، وبقيت جملتا الحب تنبضان على خاتمي الزوجين للأبد.

كتبت سلامة: "جثتان لرجل وامرأة، في يمينيهما خاتمان، مكتوب في أولهما: على العهد، وفي ثانيهما: إلى الموت".

وبالرغم من ازدياد منسوب الموت بغزة، وتعرّض الجميع هناك للخطر، إلا أن الإحساس بالسلام يبقى طريقًا إنسانيًا لا يمكن ردمه. تسوء الأمور، ويتعاظم الدمار، ويشتد جنون إسرائيل، وتأتي حمامة بيضاء تفسد هذا الشر كله.

نعم إلى هذا الحدّ يشعر الفلسطيني بالأمل، وبحقه في الحياة والوجود. فالذي يلوّن ركام منزله، ويزيّن خيمته خلال تعرّضه للإبادة، ويمسك بيد الحياة من جديد، لا يمكن محوه بسهولة نزع عشبة من الأرض، فكل فلسطيني شجرة معمّرة على أرضه.

تكتب سلامة في قصتها "حمامة": "وجد رجال الإنقاذ تحت الأنقاض امرأة وطفلًا. تألموا للمشهد الحزين، تألموا أكثر حينما وجدوا على مسافة قريبة من الطفل حمامة بيضاء".

ولا تغيب رمزية الجوع عن قصص سلامة، ساردة عبر اللغة صرخات مئات آلاف الأطفال الغزّيين، المشرّدين في ساحات الحرب والشوارع، جوعى مثل قطط منزلية، ملقاة على الطريق.

لا تكية تعيد الشبع في هذه الإبادة، ولا أي شكل من أشكال الإعاشة يحقق للطفل هوية، كأن يعود لتعليمه، لهذا كانت التكية في سرد سلامة صوتًا، كلمة تختصر رداءة الحياة.

فتكتب في قصة جوع: "الأطفال المشرّدون يحملون علبًا بلاستيكية لتعبئتها بما تيسّر من طعام التكية".

أما عنوان مجموعتها "قمر 14" فلم أجد له تصريفًا بين أصوات كثيرة للألم تنطلق من مجموعتها، سوى أنه التوصيف الذي يتبادر لسكان غزة، حينما يتأملون شكل الحياة، وشوارع ومباني وأجواء غزة قبل الحرب.

في قصص سلامة القصيرة جدًا تتحقق شرطية القصة المكثفة، عبر اقتصاد اللغة، وطرح الألغاز التي تومض وتصنع الحركة اللازمة ليعمل الخيال. صحيح أن لا دهشة كبيرة تتواجد في سردها، لكن تفاصيل كثيرة مشبعة بالألم والحلم والذاكرة لو تم جمعها سنتعرّف على قصة حرب الإبادة الكبرى.