Print
محمد الحافظ الغابد

"دانشمند": فقه تجديدي وتاريخ ورسالة نهضوية

25 أكتوبر 2024
عروض

"دانشمند" عمل روائي يستعرض مختلف مراحل حياة حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، ذلك العلامة المتفرد في تاريخ الثقافة الإسلامية خلال الألف عام الماضية، و"دانشمند" لقبه بالفارسية وتعني المعلم عموما.
في هذه الراوية الصادرة حديثا عن دار مسكلياني (كانون الأول/ ديسمبر 2023 في 630 صفحة) يرى الروائي أحمد فال الدين الإمام الغزالي فاعلا مؤثرا عابرا للأجيال ويعالج نفس الإشكالات المعاصرة التي انبثقت في هذا العصر أكثر، ويبقى الغزالي أو "دانشمند" كما كان يدعوه تلامذته من أبرز الفقهاء والمتكلمين والعباد الذين لا يزال تأثيرهم ساريا في مختلف جوانب الثقافة العربية الإسلامية الآن وفي الزمن الآتي.

لماذا دانشمند

اختار فال الدين اسم العلم هذا (دانشمند) بالفارسية ليبعث من خلاله سيرة إمام، ظل مرجعا موجها في الفقه والكلام، والأصول والتصوف، والفلسفة الإسلامية، وهو إلى اليوم من الشخصيات الأعمق تأثيرا في الثقافة الإسلامية، بل إن هذا العمل الروائي وجّه فعلا نحو وجهة جديدة في تناول مثل هذه الشخصيات المؤثرة ليس في التاريخ وإنما أيضا في الحاضر كذلك. وتبرز الرواية من خلال تناولها لمجتمع بطل الرواية تحديات الصراع الفكري والمذهبي فضلا عن أحوال تاريخية مغيبة قد يكون من المفيد الإلمام بها وهي تتقاطع مع تحديات الواقع المعاصر للأمة، سلطات وسياسة واجتماعا وتدينا وحراكا ثقافيا.

الميلاد الثاني 

تبدأ الرواية بفصل أول عن الميلاد الثاني للغزالي (ص:07)، ذلك الميلاد الذي يعتبر المحرك الأكبر في حياة الإمام، حينما انسل الرجل من دنياه المقبلة عليه عطاء وافرا وجاها عزيزا متوجها للبحث في أغوار ذاته عن حقائق شرعية ودينية كثيرا ما قررها لطلابه في دروسه ومؤلفاته لعدة عقود ولكنه يتجه هذه المرة لبحث جديد في أعماق القلب والنفس بدون ارتهان لقوالب العقل والمنطق... إنها تجربة جديدة وكشف ورحلة جديدة ستؤسس لطريق جديد للعرفان بدون اعتماد كلي على أدوات الدرس التقليدي... "كان فرضك يومئذ أن تخرج من الدنيا لتجد قبلك وتجدد إيمانك. أما اليوم فواجب الوقت أن تفيد الأمة بما وجدت وتعلمها ما تعلمت! لا أن تدير لها ظهرك راهبا منشغلا بنفسك (...) أتظن الانشغال بالنفس ذروة الدين! لو كان الأمر كذلك لما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم من الإسراء، ولما خرج من غار حراء، ولما خرج من المدينة بعد بنائه المسجد لكنه لم يجلس فيها عاما كاملا منذ دخلها. بل كان في غزو دائم ودعوة لا تنقطع وكبد متواصل" (ص: 620) وهكذا سلك ذات الدرب صحابته الكرام فكانت مدافنهم في شتى بقاع الأرض.
يستعرض الكاتب فصول روايته عبر تشابك هندسي دائري مترابط، فالمعلومات الأولية عن بطل الرواية بدأت من المرحلة الأهم، وهي مرحلة سياحة الغزالي في الشام وزيارته بيت المقدس وكتابته لكتابه "المنقذ من الضلال" الذي سيودعه الغزالي خلاصات رؤيته الفلسفية للتصوف وتجربته مع العلوم المعيارية والعرفانية وواجب المؤمن الآخذ في مدارج السالكين والساعي لبلوغ غايات إياك نعبد وإياك نستعين، ورغم أن هذا التشابك مربك للقارئ الجديد على "دانشمند" وسيرته إلا أن الحبكة السردية لهذا العمل ستشغله خصوصا إذا كان من متذوقي الأدب ولغته العالية الرفيعة.

صراعات الغزالي
 
تناولت الرواية المشقة التي عانى منها بطل الرواية منذ طفولته ودراسته الأولى وسعيه الدائم للارتقاء بنفسه، وهو طموح ارتقى إليه بذكائه الحاد، وقدراته الذهنية العالية، وقد حققت الرواية نجاحا كبيرا في نسج التفاصيل الجزئية لحياة الغزالي، في مختلف المراحل، بشكل لافت.
فالسياق الثقافي لحياته كان إطارا زمنيا مفعما بالصراع الثقافي والفكري، فضلا عن التحولات السياسية الطارئة على الأمة، فدرجة الانقسام كبيرة جدا وغير مسبوقة، في تاريخ المسلمين السياسي والديني، وكان الرجل في قلب هذه التحولات، مستشعرا ثقل المسؤولية الواقعة على عاتقه، عن مصير الدين والتدين، وسط مجتمع متعدد اللغات، مقبلا على الحوادث والبدع، بتياراته الفكرية والدينية.
وعكست الرواية جوانب قوية من تاريخ التنافس الشرس، حتى بين المذاهب السنية، ففي بغداد كان الصراع السني على مراكز النفوذ قويا، بين أتباع المذهب الحنفي، والمذهب الشافعي، خصوصا وأن الملك المهيمن من مذهب، ووزيره من مذهب آخر، كما هي حالة السلطان ملك شاه الحنفي، ووزيره نظام الملك الشافعي، فقد كانت الأحداث الجارية، والمواقف منها تعمل عملها للتأثير على صناعة القرار الديني، خصوصا وذلك الزمن كان يعرف السجال والمناظرات، كما لم يعرفه زمن في تاريخ الدنيا، والعوامل الفاعلة في المناظرة ليست تؤثر عليها المواقف الاجتماعية أكثر من الأداء الحجاجي، بين المتناظرين.





برز الغزالي في المدرسة النظامية ببغداد، وانتهت إليه صدارة العلوم الشرعية بعد وفاة شيخه أبي المعالي الجويني، غير أنه وهو الذي تعود أن يسبر أغوار العلوم، العقلية والنقلية، وينتهي إلى مقاصدها، وما انتهت إليه، تحير في شأن المعايير المعرفية، ومباحثها إثر نجاحه في سبر أغوار التيارات الفكرية المعاصرة له، فقد بدأ متكلما أصوليا فقيها، تخرج وبرز على أيدي شيوخه في علوم الشريعة، ثم أكمل هو دراسة التيارات الفكرية في زمنه، فاتجه للفلسفة ودرسها، وشخص أحوالها، في كتابه: "مقاصد الفلاسفة"، ثم حاكم هذا التيار للمعايير الشرعية الفقهية، في "تهافت الفلاسفة"، وغسل يده من هؤلاء، واتجه للتيارات الصوفية المسيطرة في زمنه ودرس التصوف ومقولاته وشخص أحوالها وأبرز معايير العمل التديني ووفقا للمعايير الشرعية الفقهية في كتابه: "ميزان العمل".
غير أن رحلته هذه مع التيارات الفكرية، خرج منها بقلق معرفي هز كيانه، وجعله في أزمة، إذ دخل مرحلة مراجعة الذات، وتصفية الضمير، وتطلب منه ذلك الخروج الكلي من دنيا الناس، والبحث بأداة الذوق عن حقيقة المعرفة، والوصول لليقين وهي الرحلة التي استمرت عشر سنوات، خرج من بغداد سنة 488 هـ وكان يتردد بين الجامع الأموي بدمشق، وبيت المقدس، وكان في غالب وقته في عزلة وعبادة، والراجح أنه بدأ في منتصف هذه المرحلة بكتابة مشروعه الأعمق تأثيرا وهو كتاب: إحياء علوم الدين، والقسطاس المستقيم، وفيصل التفرقة، بين الإسلام والزندقة، والمنقذ من الضلال، وهو الكتاب الذي ضمنه خلاصة تجاربه، وعميق نظراته، في المعرفة والذوق والشك واليقين.

الغزالي 


مجتمع الرواية
 
تقدم الرواية استنطاقا تاريخيا واستعراضا مستفيضا للسياق الاجتماعي الذي عاش فيه "دانشمند"، فستتعرف من خلال هذه الرواية على شخصيات عديدة من أبرزها:
1-  نظام الملك: وهو وزير خطير له أدوار جليلة في مجابهة الحركات الباطنية التي كانت تعتمل في أحشاء الدولة الإسلامية وتنشر آراءها في المجتمعات الإسلامية في العراق وخراسان وبلاد الشام وشرق الجزيرة العربية وقوضت أكثر من مرة نظام الخلافة الإسلامية وكادت تهد أركانه.
2-  ترك خاتون: وهي زوجة الملك السلجوقي ملك شاه وكانت نافذة وذات بصر بالسياسة وكانت تكره الوزير نظام الملك وتعارض سياساته في المملكة، وتتضمن الرواية فقرات من كتاب سياسة نامه لنظام الملك يعرض فيها بالدور السياسي للمرأة خصوصا في صناعة القرار السياسي لما يتطلبه القرار الصائب من دقة نظر وبعد عن العاطفة.      
3-  ملك شاه وهو وأبوه أقاموا إمارة تستظل بالخليفة العباسي في بغداد ودانت لهم بلاد كثيرة واستمرت سلطتهم في التاريخ أكثر من مائتي عام.




4-  ترد أسماء كثيرة وأحداث ثانوية كثيرة في ثنايا التفاصيل كأسماء العباد والزهاد وقادة الفقرة وبعض الجواري والقادة.

تخييل وتفاصيل 

تخلل هذا العمل تخييل كثيف وتفاصيل رائعة متشعبة تقلق القارئ الذي لم يتمرس بقراءة الرواية كفن يعتمد على اصطياد التفاصيل الدقيقة، فضلا عن أسماء الأشخاص والأمكنة والتواريخ والإحالة على أحداث ووقائع وأحيانا فقرات من كتب ودروس على لسان بطل الرواية أو أي من الشخصيات التاريخية المؤثرة في مجتمع الرواية.          
ثراء الوصف

تمكن الكاتب من إحكام صياغته اللغوية للرواية، بأسلوب جزل، ومفردات من المعجم القديم، لغة صقيلة تلتحف الإغراب، وتتيه بإضافتها إلى لغة الرواية اليوم، إنها تبرز معجما لغويا بيانيا غير مسبوق، في اللغة الروائية لكتاب اليوم، وتلك ميزة وخصائص وميسم بارز في إنتاج فال الدين، ولعلها صلة رحم بينه والإرث الشنقيطي في المشرق.  

ملاحظات ختامية 
1-  تعمد الكاتب أن يضن على الكسالى بالاستمتاع الكلي بهذه الرواية، فقد أطال الجولان في التواريخ، لا في الأحداث العامة، كما تعودنا في دراسات التاريخ، ولكنه تجول بنا في الحواري ووقف عند السلالم، وعتبات المنازل، وصف لنا الأزقة والشوارع، وحركة الناس، حتى شرقنا من غبارها، ووصف حركة الناس في الجوامع، وفي حلق العلم، ووصف السابلة في التنقلات بين القرى والمدن، وانتقل بنا لمشاهد من ابتزاز العيارين، في مدن الطابران وأصبهان ونيسابور، وصف مداخل المعسكرات، وخيمها المضروبة، وأسمعنا صليل السيوف، وصهيل الخيول، وقرع نعال الجند والخدم، ونقل لنا جوانب من لغة المحادثة اليومية، بين الكبار، غاص بنا في خلجات نفوسهم وتأملاتهم، هواجسهم، وأسرارهم، حنقهم، حبهم، سرورهم وغضبهم على من حولهم، وفي تقديري أن الكاتب نجح بنسبة فائقة، في استنطاق شخصيات الرواية بشكل ممتاز، وأبرز حواراتهم: حكمتهم وحنكتهم وقراءاتهم لمكنونات بعضهم، بشكل يصعب تخيله، ولكنك قارئه في هذه الرواية التي، وإن - طالت نسبيا- إلا أنها ستعلمك وتذكرك بالكثير من الدر المنثور في صفحاتها مما لا تحصى فوائده، وهي بذلك ستصطف في رفوف العذب النمير من كتب الأدب العالي.
2-   البناء الروائي: يبقى البناء الروائي بحاجة لهندسة ومهارة في الحبكة والتأليف فالتصرف بالزمان والمكان والأشخاص، والتفاصيل الدقيقة لحركتهم قولا وفعلا تبقى عملا يتطلب من الكاتب حسا فنيا عاليا، وعندي أن كاتب "داشمند" وفق إلى حد كبير، في هندسة المعمار الفني للرواية، وإن كان أي قارئ مستوعب لحياة الغزالي ربما تشوش عليه البداية بالمرحلة الأخيرة من حياة بطل الرواية، بدل التمهيد لظهوره بشخصية والده وفصل عن هواجس الوالد، وهمه بأن يرزق بولد صالح، يكون من المجددين، فالجوهري في قصة الغزالي فعلا هو انسلاله من جاه بغداد ومكنتها نحو وجهة استكشافية جديدة... ولكن ليست هذه اللحظة تحديدا هي الأفضل للبداية لأنها مرتبطة من جانب آخر بالعقدة التي تنتظر الحل، وكان البدء بالعقدة ربما ليس من أفضل الخيارات.        
3-  المشهد المصور: نجح الكاتب إلى حد كبير في كتابة روايته على شكل مشاهد مصورة فكأنه كتبها بالصورة وبتقنية التصوير ثلاثي الأبعاد، وعلى كل يبقى هذا العمل رائعا وقابلا لتحويله لمشروع مسلسل تراثي قيم إن أنتج سيكون ذا قيمة، خصوصا إذا وجد قدرات تمثيلية.  
4-  فرحت كثيرا وأن أقرأ الفقرات التي صدرت بها الفصول فهي منتقاة بعناية وذات فائدة كبيرة للقارئ العادي وحتى المختص وبعضها عميق وكثيف الدلالات.
5-  اختار الكاتب الفقرات التي وضعها على لسان الغزالي بعناية، وكذلك برسالية تعكس الهم النهضوي الإصلاحي، وفيها مذاكرة وتبسيط لبعض المعضلات الكلامية بصياغة جميلة تنمي فعلا دروس الغزالي الوجيزة المختصرة في مجالات شتى، وتنطوي على فوائد متعدّدة في وقت واحد.