Print
منذر مصري

القديس أغوسطينوس وشركاه

5 أكتوبر 2024
قراءات
"سأل الرب القديس أغوسطينوس عندما صعدت روحه إلى السماء: "من أنت؟"
أجابه: "كنت أظنّك تعرفني!".
"أنت دائمًا تكتب نفسك، وهذا أمر مهمّ لمن يعيش الكتابة والشعر خاصّة. ملاحظة صغيرة جدًا: قلّل من الطرافة والمزاح!". عاشور الطويبي
ـــــــــــــــ

لا بالأسلوب السردي للأناجيل الأربعة المتشابهة، متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا الإنجيلي، ولا بالأسلوب الوعظي لبولس الرسول ويعقوب وبطرس ويهوذا في رسائلهم التي يخاطبون فيها حديثيّ العهد بالمسيحيّة في البلدان والأصقاع القريبة والبعيدة التي بدأ ينتشر فيها الدين، ولا رؤيا يوحنا البطمسي خاتمة العهد الجديد، الأقرب للتهديد والوعيد، والتي تكاد تتلاشى بها صورة مسيح المحبة والرحمة والتسامح، ليحلّ بدلًا عنها صورة ابن الإنسان،  متسربلًا بثوب إلى الرجلين، ومتمنطقًا عند ثدييه بطوق من ذهب، وأمّا رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج، وعيناه كلهيب نار، ورجلاه كالنحاس النقي كأنّهما محميّتان في أتون، وصوته يهدر كمصبّ مياه. والرؤيا بصيغتها النبوئيّة هذه، إذا سمحت لنفسي بالحكم عليها، عودة ليهوديّة لم تستطع المسيحيّة رغم تعارضها الكلّي معها أن تستغني عنها، بل بأسلوب - أفتح الآن الكتاب المقدّس وأبحث فيه مقلّبًا بحرص أوراقه البالغة الرقّة، خوف أن بحركة خشنة، ولو قليلًا، أمزّقها، ما يعيد لذاكرتي تشبيهًا شعريًّا، أحفظه منذ زمن بعيد، ولكنّي لا أذكر قائله، ربّما أنسي الحاج، ربّما شوقي أبي شقرا، ربّما شاعر آخر: [أيّتها الرقيقة كأوراق الأناجيل]- أقول، بل بأسلوب سفر (أيّوب) الذي يخاطب فيه أيّوب الذي يبتليه الربّ لا لذنب، بل ليمتحنه! رافعًا كلّ كلفة بينهما، حتّى يكاد ينسب إليه جهالة: "يرضى اللّـه بأن يسحقني؟ يطلق يده فيقطعني! هل قوّتي قوّة الحجارة؟ هل لحمي من نحاس؟"6. و"إنّما أمرين لا تفعل بي، فحينئذ لا أختفي أمام وجهك، أبعد يدك عني، ولا تدع هيبتك ترعبني"13. إلّا إنّ سفر (المزامير)، هو الأشد تأثيرًا مظهرًا وفحوى على القديس أغوسطينوس، ما استدعى منه قبل وفاته بأشهر أن يطلب من تلامذته كتابة المزامير التوبيّة بخطّ ثخين على الجدران الأربعة لغرفته، حيث إنّ النبي داود، وقبل 2300 سنة، يقدم لشفيع التائبين، كما يلقّب، مثالًا جاهزًا للتوبة، وهو يعلن توبته من معاص ومفاسد: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ لماذا تباعدت عن خلاصي وعن سماع صوت تنهداتي؟ إلهي، أصرخ إليك مستغيثًا في النهار فلا تجيبني، وفي الليل فلا تدع لي راحة... أمّا أنا فدودة لا إنسان... عار في نظر البشر، ومنبوذ في عيني شعبي. جميع الذين يرونني يستهزئون بي، يفتحون شفاههم عليّ بالباطل، ويهزّون رؤوسهم قائلين: سلّم إلى الربّ أمره، فلينجده. لينقذه ما دام قد سرّ به". ثم ها أنذا أقع على عبارة: "من الأعماق صرخت إليك يا رب 130"، التي تعيد لي عنوان قصيدة توفيق صايغ الأخيرة: (من الأعماق صرخت لك يا موت) من مجموعته الشعريّة الثانية (القصيدة ك - 1960) التي تقول عنها عرّابة الشعر العربي الحديث سلمى الخضراء الجيوسي: "ذروة شامخة في شعرنا المعاصر بأجمعه". أذكر هذا في الوقت الذي، ربّما، لا يعرف توفيق صايغ ولا يعرف شعره شاعر عربي واحد من شعراء الأجيال الأخيرة منذ تسعينيّات القرن الماضي! إلّا إنّ ما يهمّنا الإشارة إليه هو أنّ المجموعة بمجملها شكوى وجدل ومحاجّة مع من يسمّه لمرّة واحدة فقط في المجموعة كلّها:          [مولاي مولاي
     من الذي تسمّيه أجيرك؟]
      و:
[أكلّما مسمر الوحل قدمَيّ
وشلّني
إلّا يدين رفعتهما إليك
تمسمرت وشللت يديك؟]
و:
[يدي في يدك
أو على فخذك
أيّها المحافظ العتيق
...
وشفتاي على أخمصيك]
يسأل القديس أوغسطينوس: "من أنا في عينيك حتّى تأمرني بأن أحبّك؟" ص9، ولا يسأل نفسه من هو حتّى يخاطب الرب بكلّ هذا الالحاح وهذه اللجاجة، ويأخذ من وقته كلّ هذا الوقت، وهو يحدّثه عن نفسه وعن أمه وأبيه وزوجه وابنه، وعن هذا وذاك من أصحابه ومعارفه، وما جرى له معهم في الماضي والحاضر؟ وعن معاصيه، التي بدل أن يذكرها بقدر ما من الخجل، يبالغ فيها ويزيد وكأنّه مصدر للفخر: "منّي انبثقت المعاصي"ص39، " تصاعدت من أتون شهوتي أبخرة غمرت قلبي، انسقت مع تيّار فحشي ولم تقل لي كلمة!"، يقول له! وكأنّ اللّـه لا يشغله في الكون، سوى سماع اعترافات هذا العاصي وإرهاصاته ومن ثمّ قبول توبته! أو، وبظنّي هذه هي الحقيقة الكبرى، أنّ أغوسطينوس كتب كلّ هذا، لا لأجل أن يعلم به اللّـه، فمن المفترض، إذا كان أغوسطينيوس يصدّق باللّـه، أن اللّـه قادر أن يعرفه بمجرّد أن يفكّر به أو يقوله لنفسه، بل لأجل أن نعلم به نحن، نحن البشر، الذين كنا نحيا معه تلك الأيّام، والذين جئنا بعده خلال كلّ هذه السنين، ولنا اليوم أنتم وأنا وجيروم شاهين، تؤرّقنا الأسئلة ذاتها.
أقحمت لتوّي اسم جيروم شاهين صاحب: (عمِّدوني فأعطى اسمًا) دار الطليعة 1978، لأنّه بدوره يقدّم نفسه كتائب آخر، كعائد من معاص من نوع آخر، كأوغسطينوس آخر، وهكذا نكتشف كثرة الأغوسطينوسين لدينا: "أمّا إعادة النظر في مساري القديم فإنّها تعني، وعيي ما فرض عليّ ولم أختره، ما علّموني أن أفعله ففعلته وعلّمته للآخرين"ص10! بعدها، عبورًا بأفكار، عن انكشاف الغرب الذي يعيش فيه: "كم هو بربري ما زال"ص11، استطاعت الحفاظ على راهنيتها كلّ هذا الزمن، يقول: "الكنيسة لا تستطيع أن تبرّر شموليّتها إلّا إذا وقفت موقفًا نبويًّا تفضح به الظلم وتنادي بالحقّ وتسمّي، على غرار مؤسّسها يسوع، كلّ هيرودوس، بالاسم الذي يستحق (ثعلبًا)"ص17! وبما أنّها سيرة وانفتحت، وبما أنّ لبنان الآن، هذه اللحظة، على حافّة عدم آخر، حياة أو موت، شبيه بعدم الحرب الأهليّة التي ينظر إليها جيروم شاهين نظرة إيمان ونبوّة: "ما انفكّ وجه جديد للمسيح يواكب خطاي ويتغلغل في نظراتي، ويتعقّب نهاراتي وليالي" اقرؤوا ما كتبه: "موت شكل معين للبنان هو استشهاد بالمعنى الديني بقدر ما هو موت بالمعنى الوطني... وتصبح العلاقة ما بين الأرض والدين وثيقة إلى حدّ أنّه يمكن الكلام عن (صهيونيّة لبنانيّة)!" أوف! هذا كلام سياسي ثقيل! وهو ما ليس شأننا هنا، فلنختم إذن بالشعر، لنرى مدى صواب فكرتي بأغوسطينوسيّة جيروم شاهين:
[أهرب منك، تتبعني. أين أذهب وأنت من أبحث عنه؟ أين أذهب وأنت الأنا الذي لا أكفّ عن التبرؤ منه ولا عن التشوّق إليه؟
     ماذا أفعل بظمأي للينبوع، حين، في المساء، متعبًا أجلس على ضفاف مستنقع؟
     نصبت خيمتي وبدأت أستمتع بأحلام ليل مريح، قبل أن يأتي المساء قلت لي: ارحلْ من جديد.



     كم أنت ثرثار! لو حكيت أكثر قليلًا، لما أثقل صمتك إلى هذا الحدّ.
لو كنت أكثر حضورًا بقليل، لما كان غيابك هذا الصراخ الثاقب الذي يتّهم غيابنا.
سكت المحارب، حمل سلاحه، نظر إلى الصليب الخشبي البلا مسيح، ملفوفًا بضباب كثيف كأبد يفتقد الوقت.
بغض البغض، عنف العنف، أليس هذا أيضًا وجهًا للحب؟ لحبك؟ أنت العنيف، أجل أنت بعنف عنيف.
تعال.. حين لا أنتظرك. تعال.. لم لست أبدًا على الموعد. تعال.. عمّدنا فنعطى اسمًا. تعال.. قبل أن تجفّ الدموع. تأخّر الوقت، تعال قبل أن يحاصر الأمل.]
ها نحن نعود، إلى اعترافات القديس أغوسطينوس، تمامًا من حيث انتهت الحلقة الأولى من قراءتنا المتأخّرة:
ص105- "كنت أعدّ رثاء للقيصر، أسرد فيه أخبارًا ملفّقة ليصفّق لها السامعون الذين يعرفونها كاذبة"! تهولني قدرة أغوسطينوس في التقاط الفكرة وفي التعبير المحكم الدقيق عنها، فهو هنا لم يكتف بالقول إنّ السامعين يصفقون للأخبار الملفّقة، بل الذين يعرفون أنها كاذبة!
ص125- "إن كانت من صنع الشيطان، فمن خلق الشيطان؟ وإن كان الشيطان قد انتقل من صورة ملاك إلى صورة شيطان بفعل إرادته، فمن أين أتت له هذه الإرادة التي جعلته شيطانًا، وقد خلق ملاكًا على يد من خلق كلّ صلاح؟".




يردّد أغوسطينوس هذا السؤال ويحاول عبثًا أن يجد جوابًا يقنعه هو بالذات قبل الآخرين، فنراه يستسلم ويقول: "ولم كثرة الكلام عن سبب عدم فساد جوهر اللّـه، فلو أنه قبلت الفساد، لما كان اللّـه؟".
ص126- "من أين يأتي الشر والله نفسه صالح وخالق لكلّ شيء صالح؟". يتساءل أغوسطينوس ذلك السؤال الذي ما زال يسأله الانسان ويجهد في الإجابة عليه. ما أعرفه أنّه في 2007، تحصل صديقي نجيب ج عوض على الدكتوراه في اللاهوت العقائدي، من الكلّيّة الملكيّة البريطانيّة، برسالته عن: (الله. الانسان. الشر). كما أنّي الآن أذكر، ما كان المفكر الراحل الياس مرقص 1927-1991، يردّد أمامي، بأنّ الشيطان قال للرب: "أنت من خلق العالم، ولكنّي من حرّكه". أمّا أنا، فبكلّ تواضع، فقد حدث يومًا وقمت بتفسير دنيويّ، للخطيئة التي وصمت التاريخ البشري، بقصيدة منها:
     [نادى المخلوقات بأسمائها
وأدخلها الحظائر
الجنّة لم يكن بها راضيًا
قطف التفّاحة وصنع مربّى
الأرض وجدها ناقصة
راح يكدّ ويشقى
ليجعل منها جنّته.]. (الصدى الذي أخطأ)
ص136- يعود أوغسطينوس ليناقش فكرة مصدر الشرّ، التي يصفها بأنّها غامضة ومستعصية، إلّا أنّه يقدّم تفسيره، مجنبًا إلهـه أي مسؤوليّة: "عن تنافر أعضائها (عناصر الخليقة) ينجم الشرّ، وعن تناسقها فيما بينها وبين سواها، ينتج الخير".
ص147- يروي أغوسطينوس قصّة شديدة النباهة، مستخدمًا براعته، القديمة ذاتها، لتبدو وكأنّها تقال اليوم: "أخبرني سمبليشيانوس عن لقائه بالشيخ (فيكتورينوس) وقوله له سرًّا لا جهرًا: أتعلم أنّني اعتنقت النصرانيّة؟" وجوابه له: لن أصدّق إلّا إذا شاهدتك بعيني في كنيسة المسيح. فيردّ الآخر مازحًا باسمًا: أجدران الكنيسة هي التي تجعلني مسيحيًّا؟" حقًّا أدهشني هذا الرد.
ص169- "لحسن حظّي بيني وبين قطاف العنب أيّام قلائل" عبارة موحية أخرى صالحة للاستخدام الشعري!
ص186- يذكّرني أوغسطينوس بقصصه عن أمه (مونيكا) قبيل رحيلها، بأمي (خالديّة) قبيل رحيلي بعيدًا عنها وهي مريضة، على أمل أن أعود، وتكون بمعجزة إلهيّة، وقد شفت. فعندما تقول له: ".. استنفدت كلّ آمالي الأرضيّة، وما كان يجعلني أتعلّق بها هو أن أراك مسيحيًّا كاثوليكيًّا، وها إنّي أراك بفيض المراحم، تقف مضحيًّا بأطايب الدنيا في خدمته. فماذا لي بعد على هذه الأرض". أتذكر ما خطّته أمي في إحدى رسائلها لي وأنا على الجبهة في حرب 1973: "لدي ابن، رسام وشاعر، ماذا أريد أكثر".
ص187- "ولما سألوها عمّا إذا لا تخشى أن تترك رفاتها بعيدًا عن مسقط راسها أجابتهم: "ليس من بعد على اللّـه، ولا خوف عليه ألّا يعرف في آخر الزمان، المكان الذي سيبعثني منه". جواب جميل يدل على رجاحة تفكير هذه المرأة البسيطة، بقدر ما يدل عن صدق الإيمان، بأنّ اللّـه لن تعوزه في آخر الزمان القدرة على معرفة في أيّ مكان سيكون قبرها، إذا ما رغب ببعثها، وأحسب أنّ هذا إضافة لصبرها على زوجها وابنها، والدموع التي ذرفتها خلال حياتها، لا ريب قد أخذ بالاعتبار عندما جرت المناقشات لتنصيبها قديسة ونقلت رفاتها إلى كنيسة القديس أغوسطينوس سنة 1430.



ص188- روعة هذه الاعترافات برأيي، أنّها لولا القليل، لكانت اعترافاتك أنت نفسك! يستفيض أغسطينوس في ذكرياته عن أمّه، فيقول إنّها كانت تدعوه: "ابني الحنون" ما أعادني إلى تلك اللحظات التي كنت أدعك قدمي أمّي في الماء المالح في مشفى حرستا بدمشق:
     [عندما أمسكت بيدي
وأدنيتها من فمك
لتقبّليها وتقولي بسعادة ظاهرة
ليس لتريني قدرتك على مجاراتي في الطريقة الّتي أكتب بها أشعاري فحسب
بل أيضًا
لكسر كأس هذا الأسى الّذي كلّما
أفرغناه يعود ويمتلئ:
"ما كنّا بحاجة لملاعق الملح
يكفينا دموعك"]. (بولونيزات)
مرّة أخرى أخلّ بوعدي الّا أستشهد بشعري، مستعيدًا عبارة كثيرًا ما تباهيت بها، مع أنّها لا تصلح بأيّ طريقة فهمتها لأيّ نوع من أنواع التباهي:
[قليلًا ما أفي بوعودي
وإن وفيت
فصدق غرائزي هي كلّ ما أفي به] (الشاي ليس بطيئًا)
نعم أعترف، أغوسطينوس مزيّف آخر أنا.
ص189- "سمعت أنّ كلمة حمّام (Bains) مشتقة من كلمة يونانيّة تعني طرد الحزن".
ص198- "سألت الأرض فقالت: لست إلهك. سألت البحر فقال: لست إلهك. سألت الرياح فقالت: لست إلهك. سألت السماء والشمس والقمر والنجوم فأجابت جميعها: لسنا إلهك". ما يذكرني بسؤال جبرا إبراهيم جبرا، إلى أغوسطينوس آخر هو توفيق صايغ، بقصيدته (رسالة إلى توفيق صايغ):
      [أوف
     لمن تروي عن عشقك الدامي لإلهك
     ومن تشبّه، ظلمًا، بإلهك؟] (المدار المغلق)
ص203- يطرح أغوسطينوس مسألة الذاكرة: "كلّ هذا يجري في قصر ذاكرتي الرحب...أتصرف بالسماء والأرض والبحر...عظيمة هي قدرة الذاكرة، عظيمة حقًا، إنّها لمعبد رحب لا حدّ له، من الذي اجتازه من أوّله حتّى آخره؟ لذاكرتي قوة شاملة تتعدّى الحقائق المعروفة لأنّها تستوعب أيضًا ما علّمتني إيّاه العلوم الحرّة بقدر ما لا أزال أذكره؛ وموضوع منعزل في مكان داخلي ليس مكانًا حقًا. وتلك ليست صورًا بسيطة، بل معارف وعلوم فيّ" ممّا يؤكّد لي أنّ أغوسطينوس رغم توبته الدينيّة بقي يستخدم المعارف والعلوم الحرّة التي خبرها أيّام ضلاله! وأحسب أنّ هذه الازدواجيّة، هذه الثنائية التي حملها من سنوات اتّباعه للمانويّة، هي ما جعل بعض مجايليه، وآخرون جاؤوا بعده، لا يصدّقون توبته!
ص207- ميول البشر الأربعة عند أغوسطينوس: "من ذاكرتي استخرج يقيني بوجود ميول أربعة: الشوق والفرح والخوف والحزن". مفرّقًا بينها وبين الغرائز المقترنة بالمعاصي، التي لا تحتاج للذاكرة، والتي لا يجد عموم الناس ولا خاصّتهم مفرًّا من الانصياع لها: "الجوع والعطش والشهوة والتملّك والسيطرة".
ص208- أمّا النسيان فيسأل أغوسطينوس: "ولكن ما النسيان؟ الهادم لكلّ تذكار! أهو عيب في الذاكرة؟". مرّة أخرى لا يحمّل أغوسطينوس الربّ الكلّي الصلاح والكلّي القدرة مسؤوليّة أيّ عيب أو نقص، وذلك بموجب أنّ الكمال، بعرفه، مقتصر على الربّ وحده! ولأنّ الربّ أعطى البشر حرّيّة الإرادة بأن يختاروا ويتحمّلوا مسؤوليّة أنفسهم.  
ص210- لا يستقرّ أغوسطينوس على فهم محدّد للذاكرة، فبعد أن قال أعلاه: "الذاكرة قصر رحب"، ها هو يقول: "في ذاكرتي حقول ومغاور وكهوف لا عدد لها"! هو جامع التضاديات في أغلب الأحيان.
ص216- "لأنّهم منهمكون كثيرًا بأشياء وأشياء تجعلهم أشدّ تعاسة ممّا يوفّر لهم من السعادة"، الفكرة التي أظنّها تصحّ على الجنس البشري اليوم أكثر مما كانت تصح عليه أيّام أغوسطينوس!  بعدها يكمل: "هذا التذكار الواهي، بأنّه ما دام لدى الناس نور خفيف، فليمشوا آه فليمشوا لئلّا يدركهم الظلام".
      [بينما كنت لا أفعل شيئًا
سمعت همهمات غامضة
واصطفاق أجنحة مضطربة
وأنين أبواب ثقيلة
تفتح
وتغلق.
/
كان هناك
بشر
لمحتهم ينسلّون بصمت
فوق أرصفة العتمة
كأنّهم يستعجلون النهار
أو ربّما
يريدون اللحاق بالليل..] (داكن)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ