Print
أوس يعقوب

"فولكلور السامر في فلسطين": تراث أصحاب الأرض الأصليّين

6 أكتوبر 2024
عروض


يركّز الباحث الفلسطينيّ محمد أحمد مصلح، في كتابه الجديد الموسوم بـ «فولكلور السامر في فلسطين مرفقًا بالدِحّية والدحاريج (بركوسيا والفالوجة نموذجًا)»، الصادر حديثًا عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "أطروحات الدكتوراه"، على "فولكلور السامر" الفلسطينيّ وملحقات له هي: "الدِحّية والدحاريج والسراية". و"السامر" فنٌ غنائيٌ تراثيٌ قديمٌ يتّسم بالطابع البدويّ، وهو قالب غنائيّ جمعيّ، رجاليّ ونسائيّ، يُعدُّ جزءًا أصيلًا من تراث أبناء الشعب الفلسطينيّ، أصحاب الأرض الأصليّين.
ويأتي اهتمام مؤلّف هذا الكتاب، الذي نستعرضه في هذه المقالة، بالتراث والفولكلور الفلسطينيّ؛ وبهذا الفنّ تحديدًا، حتّى لا يغمر تراثنا الفلسطينيّ النسيان بعد مرور 76 عامًا على النكبة عام 1948، وللوقوف في وجه حملات الاحتلال المستمرّة في تشويه الخاصيّة الفلسطينيّة لهذه الأرض وأصحابها، وطمسها، واختراع تراث يهوديّ وهمي ومتخيّل عبر الخديعة والتشويه واختلاق اكتشافات أثريّة.
"السامر"، بحسب ما جاء في الكتاب، من القوالب الغنائيّة الجمعيّة للرجال والنساء التي قلّ ذكرها في الكتب والموسوعات، أو جرى تناوله بإيجاز واختصار شديدين نصًّا وأداءً؛ ما أوهم القارئ بندرته أو انحسار جغرافيّته. و"بناءً عليه بات من الضرورة إزالة هذا اللبس عبر إخراج مؤلّف مستقلّ حول هذا القالب إلى النور".
ويمتاز "فولكلور السامر" بأنّه أكثر تعبيرًا عن الثقافة الشعبيّة قبل عام 1948، وسهل الحفظ والأداء والمحاكاة، ويؤدّى في الأماكن العامّة، وتمتاز نصوصه المتضمِّنةُ العادات والقيم والحوادث المهمّة بالثبات والاستقرار، وهي ميزات لا تتوافر في الغناء الفرديّ؛ ما جعله مرآةً لحياة القريّة الفلسطينيّة.

"السامر" مفهومًا ومدلولات ونشأة ومستقرّا
يقع الكتاب في 240 صفحة، مقسمًا على ثلاثة فصول شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا. ويتناول الفصل الأوّل أصل مصطلح "الفولكلور"، ومعناه العام ومدلولاته وما يتفرع منه من شفهيّات، ويتطرّق كذلك إلى توضيح معنى "الأغنية الفولكلوريّة" وخصائصها وأهمّيّتها، موردًا أمثلة لها، منتقلًا إلى توضيح طابعها في فلسطين، ثمّ إلى لغة الغناء الشعبيّ الفلسطينيّ البسيطة ذات اللهجة القرويّة الفلاحيّة الحيّة ومناسباتها المتعدّدة، وأهمّها الأعراس، لينتقل بعدها إلى بيت القصيد: "السامر"، مبيّنًا مفهومه ومدلولاته ونشأته في العراق ثمّ انتقاله إلى مصر واستقراره في وسط فلسطين وجنوبها، واصفًا أداء السامرين (البدّاع – القائد - الرديدة) رقصًا وسحجًا، ثمّ باحثًا في مضامين أغاني "السامر" المتعدّدة، كالغزل والمدح والذم والمعتقد الدينيّ والحكمة والفخر، مُتبِعًا كلّ مضمون بأمثلة شعريّة، ومتعرِّضًا في كلّ منها لنصّها واللحن والمقام والسلّم الموسيقيّين والبحر الشعريّ، وكيفيّة تغيّر مخارج الحروف أثناء الأداء والسحجة وحركات القدمين... وأخيرًا المبارزات الشعريّة الحيّة.
فيما خَصّص الباحث الفلسطينيّ، الفصل الثاني من الكتاب لنصوص "السامر" في قريتي بركوسيا والفالوجة، التي جمعها من المقابلات الشخصيّة، ودوّن فيها كلّ ما وقع على سمعه من مناسبات ووقائع أوردها في ملحق خاصّ بالكلمات العاميّة مع مرادفاتها العربيّة الفُصحَى؛ ما أظهر الهوة بين جيلَي ما قبل عام 1948 وما بعده، وقد أوضح الباحث ما أشكل وصَعُبَ في النصوص العاميّة الحيّة، ثمّ قدّم نماذج شعريّة تضمّ قرى جغرافيا انتشار "السامر" بالرجوع إلى المراجع المعنيّة بالفولكلور، مختصّةً وغير مختصّة.
واكتمالًا لألوان الطيف الفولكلوريّ الخاصّ بـ "سمر الرجال"، يشير المؤلّف في الفصل الثالث إلى نصوص ألوان غنائيّة مصاحبةٍ لـ "السامر" في بعض المناطق ولو كانت نادرةً.
أمّا الدِحّية، فبيّنَ محمد أحمد مصلح في هذا الفصل أصل تسميّتها، وطابع غنائها، وسلّمها الموسيقيّ، ووزنها العروضيّ، وكيفيّة أدائها، موردًا نصوصًا شعريّة لها من مراجع وبعض المقابلات الشخصيّة التي أجراها.




ويفرد الباحث الفلسطينيّ مساحة للحديث عن القالب الغنائيّ الأخير، ألا وهو "السراية"، فكان بمنزلة لقية أثريّة مهمّة، بسبب ندرة انتشاره جغرافيًّا، وانقطاعه مدّة طويلة، وكان مصدر الباحث في تناول هذا القالب فلسطينيّ واحد يدعى الحاج محمد العبسي من قرية الفالوجة.
ويتطرّق المؤلّف في الفصل الثالث أيضًا إلى "سامر النساء"، ويسمّى "الدحاريج"، الذي كان يؤدّى مع "سامر الرجال" في الأعراس، موضحًا معناه ومفهومه وكيفيّة أدائه وأنواعه وألوانه، وأورد نصوصًا لكلّ نوع منه من المقابلات الشخصيّة وبعض الكتب، معتمدًا على سيدتين فلسطينيّتين هما الحاجتان هنية مصلح وفاطمة رضوان، في جمع نصوص شفهيّة تُعتبر كنزًا لطبقات من لون نادر ومن أقدم الغناء الفولكلوريّ في فلسطين، وهو الـ "املالاه".
أخيرًا، أدرج المؤلّف الكلمات ذات الأصول غير العربيّة في التراث الفلسطينيّ، ونقح المصطلحات ليسهل نطقها، وأضاف في الهوامش كلمات فصيحة يغلب على الظن أنّها عاميّة.

تجذّر التراث والفولكلور الفلسطينيّ في هذه الأرض
 
في تفاصيل الكتاب، وكتمهيد تاريخيّ، فإنّ الإنسان استوطن فلسطين منذ زمن سحيق، لخصوبة أرضها واعتدال مناخها ووقوعها بين مصر وبلاد الرافدين، حتّى إنّه يقال إنّ مدينة أريحا الفلسطينيّة أوّلُ مدينة شُيدت في التاريخ الإنسانيّ عام 8000 ق. م. ومن الشعوب التي حلّت بفلسطين العرب الكنعانيّون عام 250 ق. م، فصبغوا هذه الأرض باسمهم حتّى عُرفت منذ عام 1800 ق. م بـ "أرض كنعان"، فذُكرت بهذا الاسم في تقارير القائد العسكريّ لجارة فلسطين "مملكة ماري" في الفرات الأوسط (أُنشئت حوالى عام 3000 ق. م، واكتشفت أنقاضها في عام 1933)، وعلى مسلة أدريمي ملك "الآلاخ" (مملكة عند مجرى نهر العاصي، جرى اكتشافها عند العثور على تمثال ملكها إدريمي عام 1939، منقوشًا عليه سيرة حياة هذا الملك)، كما وردت تسميّة كنعان بصيغة قريبة هي: Kinahna أو Kinahhi، في رسائل جرى اكتشافها في أخيتاتون القديمة Ancient Akhetaten بمصر (تسمّى حاليًّا تل العمارنة)، وفي وثائق مصريّة قديمة، كرسالة رب عدي ملك "جبيل" إلى الفرعون 1400ق. م، وكنقش الملك مرنفتاح (1212-1203 ق.م). ومن أبرز قبائل الكنعانيّين: اليبوسيّون، والعناقيّون، والحويّون، والعماليق، الذين شهد جنوب أرض كنعان خلال استيطانهم عام 1184 ق. م غزو "الفلستيّين" Philistines الذين أعطوا المنطقةَ الممتدّة من شمال حيفا إلى جنوب غزّة وحتّى حوض نهر الأردن الغربيّ، اسمًا جديدًا هو "فلستيّا" استمرّ منذ ذلك الحين، وقد ورد ذكره في السجلات الآشوريّة، حيث ذكرت مسلة الملك إدد نيرازي الثالث حوالي 800 ق. م إخضاع قواته "فلستو"، وترد في العهد القديم تسميّة "أرض الفلسطينيّين".

يُطلق الفلسطينيّون "السامر" على الغناء الشعبيّ الذي يُقال بشكلٍ أساسيّ في ليالي الفرح من قبل الرجال

وبناء على ما سلف، يُعتبر الكنعانيّون ومن تلاهم من الكيانات العربيّة سكان فلسطين التاريخيّة الأصليّين والأساسيّين؛ وقد أنشؤوا فيها ما لا يقلّ عن 200 مدينة وقرية وعمروها، ومن الكيانات التي استوطنت فلسطين قبل الإسلام أربعة رئيسة هي: "الأنباط وتدمر وقضاعة والغساسنة"، ومن أشهر قبائلها: "قضاعة وتنوخ وعذرة وكلب وعاملة ومذحج وجذام ولخم وقيس وكندة ومضر... وغيرها"، كان لكلّ منها فولكلورها الخاصّ، وهي فولكلورات فلسطينيّة حظيت باهتمام كثير من الباحثين والكتّاب، من أمثال نمر سرحان وعبد اللطيف البرغوثي وإبراهيم نصر الله، وجمعوا منها كتبًا ومؤلّفات موسوعيّة أبرزت تنوّعها الكبير والمتميّز.
يأتي هذا الكتاب، وما سبقه من مؤلّفات وأبحاث عدّة في التراث والفولكلور الفلسطينيّ للباحث محمد أحمد مصلح؛ منها: «الملالاه»؛ و«غناء الدحاريج»؛ و«غناء السامر»؛ استكمالًا لجهود من سبقه من الباحثين الذين ركّزوا جهودهم للحفاظ على هويّة هذا الشعب وعراقته عبر تاريخه الطويل، وإبراز تلاقح الثقافات والحضارات التي تعاقبت على أرضه فأكسبته تنوّعًا كبيرًا، ووضْعِ لبنة في جدار إظهار التراث الفلسطينيّ وتجذّره في هذه الأرض منذ بدء الصراع مع العدو الإسرائيليّ في مطالع القرن العشرين، ومحاولاته المستميّتة إثبات هويّة مزيفه له في هذه الأرض وطمس هويّة الشعب الفلسطينيّ، عبر محاولات لتزوير التاريخ والموروث العربيّين الفلسطينيّين، إضافة إلى ما شاب الفولكلور الفلسطينيّ من عناصر ليست من أرومة السكان الأصليّين، وتماهي بعض ألفاظه مع مستحدثات العيش تحت ظلّ الاحتلال، وهو ما أُتبع باندثار عادات وتقاليد جماعيّة... وقد ركّز بعض أصحاب هذه الجهود، أمثال: نمر سرحان؛ علي الخليلي؛ يسرى جوهرية عرنيطة؛ ومؤلّف هذا الكتاب، على حفظ التراث الفلسطينيّ الشعبيّ الشفويّ: كالغناء والرقص والدبكات والأمثال والحكايا والطقوس والأعياد.

انتشار "فولكلور السامر" وسط وجنوب فلسطين 

ورد في عدّة كتب وموسوعات تعنى بالتراث والفلكلور والفنون الشعبيّة الفلسطينيّة، أنّ "السامر" من السمر أيّ السهر، والسهر ليلًا، وفي اللغة، "السامر": الجماعة يسمرون ليلًا. وقد صار "السامر" اسمًا يدل على المكان الذي يجتمعون فيه للسهر والسمر، وكذلك يُقال "السامر" لما يُغنى في تلك السهرات. والنصيب الأكبر من "السامر" الفلسطينيّ هو للغزل، إضافة لوصف الطبيعة ومقارعة الأعداء والحنين للوطن. والأصل في "السامر" هو تلك الحفلة الشعبيّة الساهرة التي تقام في مناسبة العرس، ثمّ صارت كلمة "السامر" تطلق على ذلك النوع من شعر "المواليا"، الذي يؤدّى بطريقة جماعيّة وبالتناوب بين فريقين. وهذا النمط من الغناء الذي يصاحبه شكل بسيط من الرقص ينتمي إلى جنوب فلسطين ويحمل اسم "السامر." كما يخبرنا باحثون في الفولكلور الفلسطينيّ.
وفقًا للباحث الفلسطينيّ الراحل نمر سرحان، يُطلق الفلسطينيّون "السامر" على الغناء الشعبيّ الذي يُقال بشكلٍ أساسيّ في ليالي الفرح من قبل الرجال دون سواهم. وهو شعر مغنّى له وزن وقافية وله لحن خاصّ به، ولكلّ قرية لهجة وطريقة خاصّة في قوله وأدائه. 




وقد عرفت فلسطين أنواعًا كثيرة من القوالب اللحنيّة في غنائها الشعبيّ مع تفاوت في حضور وشهرة هذه القوالب، ومنها إلى جانب "السامر"، "الدِحّية؛ الترويد؛ الملالاة؛ العتابا؛ الميجنا؛ الدلعونا؛ الهجينيّ؛ الحدا؛ مْويل، ع الماني؛ المعنّى؛ زريف الطول؛ جفرا؛ العقيليّ؛ الجلوة؛ ريدها؛ الزجل؛ الشروقيّ؛، الشوباش؛ الطلعة؛ الواو؛ الموال البغداديّ؛ عاليادي؛ الاهزوجة؛ المثمّن؛ المهاهاة؛ البدع"... ولكلّ من هذه الأصناف ميزات وصفات تجعلها تنتظم في قالب لحني مميّز عن سواها.
وقد امتازت مناطق الوسط الفلسطينيّ والجنوب، بانتشار "فولكلور السامر"، هذا الأسلوب الغنائيّ الجماعيّ الذي ينضوي تحت ما يعرف بـ "التراويد"، وكان يُعدُّ بمثابة "سامر النساء". ولا يوجد للأغاني التي تصاحب هذا النوع من الغناء قالب لحنيّ واحد بل هي أنماط من القصائد يغنّيها ويردّدها صفان متقابلان من السامرين أو صف واحد ذو شقين. وهناك ما يعرف بـ "البدّاع"، ويسمّى أيضًا "القاصود" أو "القوال"، الذي يوجّه حركة الانتقال من بيت لآخر في الشعر المغنّى، ولكنّ دور "البدّاع" هو جزءٌ من الجماعة وليس متميّزًا تميّز دور "الحداء الشعبيّ" في السحجة الشماليّة.
وتختلف السحجات عن بعضها في "السامر"، من حيث الحركة وقوّتها وسرعتها وتكرارها ومدى انحناء الظهر، وترتيب الحركات في الأداء وإن كانت جميعها على تنوّعها تبقى بذات القالب واللون فهي دبكة خفيفة سهلة وحيويّة.
ويمكننا أن نميّز في "السامر" أدوارًا مثل دور "البدّاع"، وجماعة الانشاد "الرديدة" الذين يصطفّون على شكل هلال أو دائرة واسعة تتوسّطها النار أو المشاعل، وينقسمون إلى فريقين ثمّ يبدؤون بالسحج، فيقول فريق شطرًا من البيت ويتّبعه الفريق الثاني مردّدًا الشطر نفسه وهكذا. ويتناوب الفريقان التصفيق في الأثناء، فالفريق الذي يمارس التصفيق لا يغنّي إلّا بعد أن ينتقل الدور له وبعد أن يتوقّف الفريق الآخر ليتمّ تبادل الأدوار. ويشارك الجميع في الرقص البطيء والتصفيق.
ومن الأدوار أيضًا التي تميّز "السامر" دور "الحاشي" (بنت العشيرة التي تخرج لترقص أمام السامرين)، ولكن صار نادرًا فيما بعد ظهورها في "السامر". ومردّ ذلك، ربّما، إلى أنّ اختلاط أكثر من عشيرة في القرية لم يعد يسمح بظهور المرأة أمام الرجال، وهي التي كانت في الماضي ترقص في سامرٍ مخصّص للاحتفال بفرح عشيرتها فحسب.
أخيرًا، يُشار إلى أنّ مؤلّف كتاب «فولكلور السامر في فلسطين مرفقًا بالدِحّية والدحاريج (بركوسيا والفالوجة نموذجًا)»، الباحث الفلسطينيّ محمد أحمد مصلح، حاصل على ماجستير في التربية. وقد صدر له من الكتب إضافة إلى ما ذُكرَ أعلاه: «الأحداث السياسيّة وأثرها في مطرّزات الثوب الفلسطينيّ النسويّ»؛ و«مطرّزات الطيور في الثوب النسويّ التقليديّ القرويّ الفلسطينيّ، دراسة مقارنة بين الموروث والدخيل».

***

مراجع تمّت الاستعانة بها:
1)  نمر سرحان، موسوعة: «الفولكلور الفلسطينيّ» (ج2)، عمّان 1977.
2)  عبد المعطي عبد الرحمن الدرباشي، كتاب: «فنّ السامر في جنوب فلسطين: دراسة علميّة تحليليّة»، عمّان 1996.
3)  يسرى جوهرية عرنيطة، كتاب: «الفنون الشعبيّة في فلسطين»، بيروت، 1960.
4)  حمزة عقرباوي، مقالة: «السامر الشعبيّ في أعراس فلسطين... تاريخه وخصائصه»،
موقع "عربي 21"، تاريخ النشر: 12/ 11/ 2020.