Print
دارين حوماني

"صور من ذاكرة لاجئ فلسطيني": أنتَ مكانكَ خارج المكان

12 نوفمبر 2024
عروض


في كتابه "صور من ذاكرة لاجئ فلسطيني" يقصّ علينا الكاتب الفلسطيني إحميد علي حكايات النكبة منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه الصهاينة يتوافدون إلى فلسطين، وهو يحكيها كما روتها له والدته وعاشتها تمامًا، ليقصّ علينا تاليًا سرديات اللجوء بين مخيّمات لبنان وسورية؛ يوميات من سيرة ذاتية تركت أثرًا عميقًا في قلبه وصولًا إلى اتخاذه قرار الهجرة إلى كندا عام 2005 ليترك العالم العربي "بكل ما فيه من تناقضات... ومنذ ذلك التاريخ تم إغلاق الستار عن رحلة العذاب المرافقة لسنوات اللجوء البغيض وتبعاته". وقد صدر الكتاب بالعربية عام 2021 في كندا، ثم صدر بالإنكليزية عام 2023 تحت عنوان Abandoned Palestine Refugee (ترجمة مطر صقر)، معزّزًا بصور لأشخاص وبأمكنة تقترن عذاباتهم بعذابات الكاتب. ويشكّل الإصدار بالإنكليزية خطوة مهمة كوثيقة إضافية في المكتبة الإنكليزية عن تاريخ الشتات الفلسطيني منذ عام 1948 وحتى اليوم، وأمام الرأي العام القارئ بالإنكليزية والمتأثر بالمتاجرة الإعلامية الغربية بالهولوكوست. يقول علي في حديثنا معه "إن الهدف من الكتاب أن يكون موجّهًا أولًا للقارئ الأجنبي، فالقارئ العربي يعرف القصة جيدًا".

يتوقف الكاتب في مقدّمته عند تاريخ قريته لوبية الفلسطينية الذي يرتبط بالعهد الكنعاني والعهد اليوناني، متوقفًا عند محطات من تاريخها، وصولًا إلى تحوّلها لمعقل للنضال البطولي بوجه الاحتلال البريطاني والاستيطان اليهودي، حيث تقع القرية على مفترق الطريق بين طبريا شرقًا والناصرة وحيفا غربًا. وفي منتصف شهر آذار/ مارس 1948 تمكن مقاتلو لوبية من سدّ الطريق أمام المستوطنين لوصولهم إلى طبريا فما كان من الصهاينة إلا أن قصفوها بالطائرات والمدفعية. وفي 8 حزيران/ يونيو 1948 هاجموها بالدبابات والمدرّعات وبفرق المشاة، ثم دخلوها في 21 حزيران/ يونيو وقصفوها بيتًا بيتًا، وهدموا ما تبقّى منها. رحل أهل لوبية عنها مشتتين بين مخيّمات الجليل وعين الحلوة في لبنان، واليرموك في سورية، أما من بقي في فلسطين فهم لاجئون في أكثر من مكان فيها، ومُنعوا من العودة إلى القرية التي تغيّر اسمها لتصبح مستوطنة صهيونية باسم "لافي".

تتحدث والدة الكاتب، فاطمة علي الياسين الكفري، عن تلك الأحداث ساردة كيف عاشتها، لما وصل اليهود إلى القرية، وكانوا يسمّونهم "أشكناز" ويساعدونهم باعتبارهم هاربين من بطش هتلر، وبنى لهم الإنكليز مستوطنة كبيرة بالطرف الجنوبي من القرية، ومع الأيام صاروا يظهرون بالزيّ العسكري، ثم صاروا يعترضون الفلاحين والحصادين ويطلقون النار باتجاههم، إلى أن هجم اليهود في ربيع العام 1948 على القرية بالدبابات وسقط شهداء. وتوالت هجمات العصابات الصهيونية على القرية وبدأت الطائرات تقصف القرية، فترك الأهالي بيوتهم ومن بينهم والدة الكاتب وصاروا يبيتون في المغاور. وبدأت تصلهم أخبار المجازر، منها مجزرة دير ياسين وقتل الأطفال واغتصاب الفتيات، ما أشعرهم برعب الأيام الآتية. وفي حزيران/ يونيو 1948 سينادي مختار القرية على الأهالي ويخبرهم بأن جيش الإنقاذ العربي طلب إخلاء القرية لأسبوعين فقط، فترك الأهالي كل شيء، الأثاث، أدوات الزراعة، الحصاد، المونة، كتب الأولاد، الصور، والذكريات، وتركوا الأغنام والأبقار والدواب مع ما يكفيهم من طعام لثلاثة أسابيع، "تلال القمح تركت كما هي على البيدر... أخذنا القليل... بعض الفرش والأغطية، والطناجر النحاسية التي ستظل ترافقنا في رحلات اللجوء اللاحقة من فلسطين إلى لبنان إلى مخيّم اليرموك"، ومنهم من قام بدفن عقود شراء الأراضي والزواج والإرث وغيرها في التراب كي لا يسرقها الصهاينة.

وتسرد الكفري معاناة رحلة اللجوء من لوبية إلى قرية بنت جبيل الحدودية في الجنوب اللبناني ثم إلى الساحل اللبناني على الدواب، ثم بقاطرة – بلا مقاعد- مخصصة لنقل الأغنام  إلى حلب ثم إلى مخيّم ويفل (مخيّم الجليل) في مدينة بعلبك. رحلة لجوء لا يمكن تفكيكها من ذاكرة كل فلسطينيّ الشتات، تشكّل إحدى إرهاصات الهوية القلقة التي وُلِد وكَبِر عليها أطفال هؤلاء اللاجئين ومن بينهم الكاتب.     

ويستشهد الكاتب بإيلان بابيه موردًا من كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" خطة تطهير فلسطين التي وضعها 11 عسكريًا صهيونيًا في 10 آذار/ مارس 1948 للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين، وتم تدمير 531 مدينة وقرية، والتي كان من بينها قرية لوبية. 

فقدان عميق للوطن

حكايات الكاتب إحميد علي في مخيّم ويفل/ الجليل، حيث ولد في عام 1955، كثيرة، وخاضعة للفقد العميق لـ"الوطن"، ولكثير من المعاناة والفقر الشديد. وإذ يوثّق تفاصيل من حياته إلا أنها تتشابك مع لاجئين آخرين لناحية نسيج الوجع المتواصل على امتداد جغرافيا الشتات الفلسطيني، وخصوصًا في لبنان، إذ كانت الحال في سورية أفضل منها في لبنان الذي شهد فيه الفلسطينيون على عنصرية غير مفهومة من قبل جهات لبنانية متعددة في ذلك الوقت، "مهمة الدرك اللبناني - أكاد أجزم أنها انحصرت بهدف واحد لا غير- أن تحوّل سكان المخيّم إلى مخلوقات لا حول لها ولا قوة كقطيع من الخرفان يسوقها دركي تافه"!

يتناول الكاتب وصفًا للمخيّم وللحياة الاجتماعية القوية بين قاطنيه، ولما كانت تقدّمه وكالة الغوث الدولية من إعانات وحصص غذائية، وللبرد القارس في شتاءات بعلبك القاسية، فالبيت يصبح "غرفة تبريد في مسلخ"، ومدرسة المخيّم- "مدرسة طبريا"- "معلّموها كانوا لاجئين... المهمة الإنسانية من وجهة نظرهم ليست مهمة التعليم فقط، بل نشأة جيل قادر على تحرير فلسطين"، وحماس أهالي المخيّم لتعليم أولادهم، ووصية أمي "يمه تعلموا، وعلموا أولادكم، بترجع فلسطين"، وحمل الكتب في كيس من القماش، و"المريول ممزق، المهم يكون نظيف"، وفي كتاب اللغة الإنكليزية "صورة انطبعت في ذاكرتي للأبد لعائلة إنكليزية في بيت فاخر... ما أقسى تلك الصورة المتربعة في ذلك البيت الحقير".

تهجير أهالي قرية لوبية عام 1948 


ويتذكر الكاتب من أيام المخيّم كيف يمرّ شهر رمضان: "رمضان لم يكن شهر التقوى في المخيّم، رمضان كان شهر المعاناة والبؤس الشديد. كنا نجوع فوق جوعنا، نعاني فوق معاناتنا، وكنا نتألم فوق ألمنا... كان موحشًا كوحشتنا. ما أقساك يا رمضان". ومن تلك اليوميات يتذكر يوم أرسلته أمه ليشتري صحنًا من الطحينية قبيل آذان المغرب، فما كان منه إلا أن التهم كل ما في الصحن عندما اشتراه، ولما وصل إلى البيت واجه غضب والده "الحرمان والفاقة كانا أقوى من الإحساس بالذنب تجاه العائلة التي تنتظر صحن الطحينية". أما العيد، فلم يكن يوم فرح على والده ورجالات المخيّم مستذكرين بأسى بالغ أيام العيد في فلسطين. ومن إحدى ذكريات العيد التي يسردها الكاتب، يوم وصل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة إلى بعلبك وتم منع التجول في المخيّم "لا عيد ولا من يحزنون.. أبو رقيبة اقترح على الفلسطينيين مشروع مفاوضات مع العدو الصهيوني واعتبره مجتمع اللاجئين خائنًا".  

رحلتان مدرسيتان كسرتا قلب الكاتب، إحداهما إلى حدود فلسطين، والثانية إلى جعيتا. كانت الرحلة إلى حدود فلسطين مقابل ليرة لبنانية، انتظر والده ليعود من العمل ليأخذ منه الليرة، ليتمكن من رؤية فلسطين من بعيد، لكن والده لم يعد في ذلك اليوم، إذ أن مسؤول مركز الدرك قرب المخيّم، واسمه "شليطة"، ألقى القبض على والده وحُكم عليه بالسجن لعشرة أيام بسبب مخالفة مرور، فلم يتمكن الكاتب من الذهاب في رحلة الحدود الفلسطينية، "كانت أحكام السجن بسبب أو بدون سبب سيفًا مسلّطًا فوق رأس اللاجئ الفلسطيني، فالاستماع إلى إذاعة دمشق أو صوت العرب كانا من المحرّمات التي تؤدي للسجن. الموالاة لنظام البعث في سورية ونظام عبد الناصر في مصر من المحرّمات. هكذا كان القانون اللبناني يومها". ومن المحرّمات تبديل سقف البيت "الزينكو" حيث منعهم شليطة من تبديل السقف يوم كان مخرومًا ينزف مطرًا فوق رؤوسهم. أما حادثة رحلة جعيتا، فهي الرحلة التي لم يخبر والداه عنها، وذهب بدون نقود، ليمنعه الرجل عند باب المغارة من دخولها بسبب عدم توفر تذكرة دخول معه، ولم يكن معه مال للحصول عليها، فهرول حزينًا باتجاه النهر، ولم يخبر أحدًا من الأساتذة بما حصل معه، وبقي هناك طوال النهار جائعًا يراقب الطلاب وهم يلتهمون طعامهم جماعات وأفراد، متذكرًا حديث أمه عن قريتهم التي تشبه جبالها جبال جعيتا "الفرق الوحيد أن فيها من الأكل ما يكفي لخمسة ملايين لاجئ أو يزيد".

أثار نكسة 1967

نكسة حزيران/ يونيو 1967 أثارت في نفس الكاتب، وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره، الحماس لتحرير فلسطين، وكان من نتائج النكسة أن على الشعب الفلسطيني الاعتماد على نفسه لتحرير وطنه، وصار اللاجئ الفلسطيني فدائيًا يحمل السلاح. يسرد الكاتب تفاصيل معركة الكرامة، و"أيلول الأسود"، وخروج منظمة التحرير من الأردن إلى لبنان، وإبعاد أبو صالح (الجيهة الشعبية) إلى مخيّم الجليل، وتفاصيل مشاجراته مع عناصر الدرك مردّدًا "أنا إن سقطت يا رفيق فخذ مكاني في الكفاح"، وصولًا إلى "تحرير" مخيّم الجليل على يد أبو صالح من شليطة والدرك. وفي عام 1971 سيتم إنشاء مراكز للفصائل الفلسطينية، فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية التي تدرّب معها الكاتب وهو لا يزال في المدرسة، بدون أن يميّز الكاتب الفرق بين هذه الفصائل الفلسطينية.

سرديات وتفاصيل مؤثرة متلاحقة نقرأها في سيرة الكاتب، من سرديات نجاحه في امتحانات البريفه، إلى مغادرة بيت أهله للدراسة في معهد سبلين للتدريب المهني قرب مدينة صيدا؛ رحلة سيخصّص لها الكاتب فصلًا واسعًا عن تخوّفه من تلك الرحلة "ألم يتم ضرب صديق بالسكين لمجرد أنه فلسطيني...". كان يراها رحلة لاجئ فلسطيني في المجهول، لكن ما حصل أنه ألف صيدا، وكوّن صداقات، حيث أن مخيّم عين الحلوة قريب من المعهد، مع وجود توترات أمنية بين منظمة التحرير والجيش اللبناني "كانت هناك أيدٍ خفية تثير كل تلك النعرات التي مهّدت للحرب الأهلية في لبنان...". ثم يقصّ الكاتب حكاية أخيه الأكبر فرحات، الذي أكمل تعليمه الجامعي في بغداد بمنحة، وعاد إلى لبنان ليلتحق بالفدائيين، "الحديث عن مسيرة أخي مؤلمة وموجعة كوجع اللجوء والقهر والمعاناة والذل لكل لاجئ فلسطيني في مخيّمات العار العربي والإنساني"، استشهد فرحات في عملية فدائية لم تكتمل، إذ اكتشف الصهاينة وجودهم وتمت تصفيتهم، في لحظة انتظارهم قطارًا يقلّ صهاينة على الحدود اللبنانية الفلسطينية السورية.

انتقلت العائلة إلى مخيّم اليرموك عام 1972 لأن التعليم الثانوي والجامعي كان متاحًا للفلسطينيين مجانًا في سورية، أما في لبنان فكان مجانيًا فقط حتى الصف التاسع، و"مخيّم اليرموك ليس مخيمًا عاديًا، كان وطنًا مصغّرًا للفقراء يختصر فلسطين... هناك شارع لوبية، وشارع حيفا، وشارع اللد...".

إحميد علي خلال ندوة توقيع الكتاب في المؤسسة الفلسطينية الكندية في مونتريال


تل الزعتر وصبرا وشاتيلا 

حكاية مخيّم تل الزعتر هي أحد عناوين التراجيديا الفلسطينية "خارج المكان". يفتح إحميد علي كتاب تل الزعتر على وسعه منذ حادثة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان/ أبريل 1975 التي قُتل فيها عدد من أهالي تل الزعتر، وكانت الشرارة لاشتعال الحرب الأهلية اللبنانية، وصولًا إلى حكاية الحصار لثمانية أشهر بمساندة من الجيش السوري للقوى "الانعزالية" بحصار المخيّم، حيث استشهد أكثر من خمسة آلاف فلسطيني، منهم أخ الكاتب يوسف، الذي كان قد عُيّن أستاذًا للرياضيات في المخيّم. وكان أن ترك الكاتب دراسته في سورية وشارك ضمن مجموعات قتالية في مواقع متعددة في جبل لبنان. يسرد الكاتب أيضًا دخول الجيش الإسرائيلي بيروت عام 1982 ومكوثه فيها لشهرين ثم مغادرة منظمة التحرير لبنان بعد مجزرة صبرا وشاتيلا.

هي مجزرة أخرى من تراجيديا التغريبة الفلسطينية سيرويها إحميد بتفاصيلها، مع شهادة شاهد عليها من أقارب الكاتب، شاب صغير كان يزور أقاربه في مخيّم شاتيلا، أصيب بثلاث طلقات في ظهره فيما كان يلعب مع رفاقه، ورغم ذلك شُفي بأعجوبة، ولكنه ما لبث بعد فترة أن أصيب برصاص قناص في مخيّم عين الحلوة. يحكي الشاب كيف طلب المسلحون منه ومن عائلته الخروج من البيت ثم أعدموهم دفعة واحدة. ولم تهدأ الأمور بخروج منظمة التحرير من بيروت، حيث "انطلقت حركة أمل تشحذ الروح العدوانية ضد الفلسطينيين... وتواصلت الهجمات على مخيّم برج البراجنة بدون مقدّمات أو مبرّر ملموس". لا بدّ أنه إحساس يفوق إحساس اللجوء والاقتلاع من الأرض وفقدان الوطن، بل أقسى من ذلك، هي ندبات سميكة على ظهر الجسد الفلسطيني بأيدٍ عربية "إن القوات الانعزالية المسيحية اليمينية وقوات أمل الشيعية والجيش السوري السني بغطاء أميركي وإسرائيلي تقاسموا الدم الفلسطيني".

زيارة فلسطين

محطات من حياة الكاتب يسردها مع سلسلة من تجارب الوجع الناجم عن امتلاكه الهوية الفلسطينية، منها تجربة دخوله سجن درعا. لكن ثمة محطة جميلة في حياته هي عمله كخبير تعليم مع الأونروا، وحصوله على فرصة تدريب في فلسطين لأسبوع. يفصّل الكاتب تجربة رحلة فلسطين من استجواب وإذلال العسكري الإسرائيلي له عند المعبر بين الأردن والضفة الغربية لأنه فلسطيني، إلى فرحه اللامتناهي وهو يقطع طرقات فلسطين، ويرى الفلسطينيين الطيبين، أريحا، القدس، من باب دمشق إلى الأسواق القديمة، حي النصارى، المسجد الأقصى، حيفا، الناصرة، دير حنا، غزة، وقريته لوبية؛ دخل إليها يحاول المطابقة بين ما حكاه له والده عنها وما يراه، كان ثمة بقايا لأحجار تشي بوجود زمن سابق لزمن المستوطنة المبنية فوقها. مقبرة نفض الاحتلال حجارتها وتاريخها، سعى لتغيير كل المعالم، الدوس على كل أثر فلسطيني في المكان.

عام 1993 سيعود الكاتب إلى لبنان مديرًا لمعهد سبلين الذي درس فيه سنتين: "كنت قادمًا إلى أرض محروقة، خاضت حربًا أهلية، أهلها غير أهلها الذين خبرتهم... صحيح أن الحرب وضعت أوزارها، إلا أن الناس ما يزالون في وضعية الاستعداد للحرب". وبعد 7 سنوات سيغادر لبنان للعمل في عمان، وهنا يقصّ الكاتب كيف أن الموظف عند معبر الحدود السورية الأردنية رفض مرور ولديه معه لأن جوازي سفرهما غير ممهورين بالفيزا الأردنية، اضطر للانفصال عنهما، على أن يذهبا إلى سورية لكن رحلتهما إلى سورية رافقتها مشقة كبيرة وإذلال، حتى وصلا إلى سهل حوران وناما في العراء خائفين. بعد تلك التجربة قرّر إحميد علي أن يتقدّم بطلب للهجرة إلى كندا: "لن أورث أولادي وأحفادي من بعد معاناتي كلاجئ... تركت منزلي في دمشق وفيه كل ما أملك من ذكريات... منزلي في دمشق حصيلة مجموعة ضخمة من الكتب التي جمعتها، والأهم من ذلك الطناجر النحاسية، طناجر أمي وأبي التي رافقتهم طوال رحلة اللجوء".

بعد سنوات حوصر مخيّم اليرموك "وحوصرت كتبي وطناجري ليكون مصيرها الحرق والتدمير، ومصير عائلتي هناك التهجير في رحلة شتات أخرى... تم اقتلاع سكان مخيّم اليرموك وقذفهم عبر البحار إلى أبعد نقطة ممكنة عن فلسطين"، إذ قصف الجيش السوري يوم السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2012 المخيّم، ثم ولأيام متتالية، تم قصف المخيّم بالمدفعية مما أدى إلى استشهاد أعداد كبيرة وهروب الفلسطينيين منه بشكل جماعي.

"خارج المكان: ليس أقرب من هذا الوصف الذي اختاره المفكر إدوارد سعيد... ماذا يعني أن تولد وربما يقدّر لك أن تموت خارج المكان..."- هكذا يكتب إحميد علي في خاتمة كتابه، فقد عاش في لبنان وسورية والأردن والدانمارك وكندا ولا يزال يشعر بأنه خارج المكان. ففي الأردن "تشعر أنك وجدت الوطن الذي كنت تبحث عنه... لكنك سرعان ما تكتشف أنك مخطئ وأنك ما اقتربت إلا لتبتعد أكثر. في لبنان صفة اللاجئ لا تفارق وجهك، تقاذفك الصراعات الطائفية ككرة المضرب، هناك أنت لا شيء ولا شيء فقط".

أما في مونتريال فيغمره شعور زائف بأنه وجد مكانه، "تنتفض عندما تركب الباص صباحًا وتسمع نشرة الأخبار بالفرنسية، ويتشدّق المتحاورون حول الحجاب واللاجئين القادمين من خلف البحار، تقول مرة ثانية إن هذا المكان لا يشبهني. فما زلت تحلم وتفكر بالعربية... أنت مكانك بالضبط خارج المكان"...

في حديثنا مع الكاتب إحميد علي يقول: "الكتاب هو شرح لمعاناة شعب أكثر منه شرح لمعاناة شخص. لم يكن الهدف أن أحكي قصتي كشخص بقدر ما كان هدفي أن أحكي للقارئ الأجنبي معاناة شعب، وهي معاناة مستمرة ومتكررة، ومعاناتي موجودة في كل بيت فلسطيني في الشتات، ومرّ الكثير من اللاجئين بتجارب مشابهة وبمنتهى القساوة".

أجرى إحميد علي عددًا من ندوات لتوقيع الكتاب هذا العام، في أميركا، وفي كندا، منها "المؤسسة الفلسطينية الكندية" في مونتريال وفي "البيت الفلسطيني" في تورونتو. والكتاب موجود حاليًا في المكتبة الوطنية الكندية وفي عدد من الجامعات الأميركية والكندية منها جامعة كاليفورنيا وجامعة ميشيغان وجامعة ألاسكا، وجامعة ويندسور في كندا، وفي عدد من مكتبات أميركا. كما يعمل علي حاليًا على كتابة تجربة أهله وإخوته الذين غادروا مخيّم اليرموك بعد الحرب في سورية، بعد أن خسروا كل شيء، ورحلة الموت عبر المتوسط إلى أوروبا فـ"كل واحد منهم عاش قصة مؤلمة وقاسية".