Print
حسام معروف

"الجراح تدلّ علينا": في رحلة البحث عن البقاء

15 نوفمبر 2024
عروض


ما يقدِّمه القاصّ الفلسطينيّ زياد خداش في مجموعته القصصية "الجراح تدلّ علينا" يتجاوز حدود السرد، بل يكشف عن عمق التصدُّعات في الذات الفلسطينية التي شوَّه الاحتلال الإسرائيليّ مكوِّناتها، خلال رحلة البحث المميت عن البقاء.
في لغة خداش البسيطة، المخادعة، يتشكَّل صراع نفسيّ مقترن بالهويّة والأمل والانتماء والثقافة والموت، وجدليّات حول الكلّ والجزء والمقسَّم والممتدّ، والشكّ واليقين، والجهد المبذول من أجل الحفاظ على الوجود وعدم الفناء، ومن أجل الرغبات، في حياة تتوسَّط حقل ألغام بدون خارطة.
يعمل خداش في مجموعته الصادرة عن منشورات المتوسط 2024، على استدراج القارئ للحيرة، واللعنات أحيانًا. فالخفيّ في قصته يبقى خفيًّا، حتى بعدما يفتح يده ليكشف السرّ القصصيّ، ويفضّ قوسه. وعندما تُبقيك قصص زياد حائرًا، فذلك لأنّ شخصيّاته دومًا محاطة بالغموض، يضع الأقنعة فوق وجوهها، ويحشوها بالألغاز، ويناديك: بأيّ لغز ستبدأ؟ ستبدأ، لكن كن متأكِّدًا، أينما وقعت عينك، ستجد الجراح تدلّ على الفلسطينيّ، ستجد الحياة أيضًا تدلّ عليه.

نهاية العالم
في قصة "الحقيبة ليست لي"، يسرد ألم الفلسطينيّ في رفض استيعاب الآخر لمظلوميّته، وتيهه العظيم بفعل سرقة أرضه. تلك محاولة مشحونة بالحسرة للحفاظ على هويّة لم تعد كما كانت، بفعل التنكيل والقتل والتشريد والحصار، لمدة ثمانين عامًا. وهي محاولة لإقناع الناس بالحقّ الذي لم يعد كما كان أيضًا.
يضع خداش الأشياء في غير أماكنها عمدًا، يركل المُسلَّمات، ليغيِّر شيئًا من اعتياديّة مشهد الموت المستمرّ لشعب بعينه، والمحاباة للطرف الآخر، وكأنه صانع الكون، ويُشعر القارئ بأنّ العالم إلى نهاية، إذا تكرَّرت نفس مشاعر الصمت والتهذيب، أمام ذات القاتل. فالحقيبة عنده ليست رمزًا للسفر، بل للانتهاء، والمغادرة الأبديّة. فمن يحمل حقيبة سفر فوق أرض فلسطين، يكون قد شارف دمه على التصفية، فهو ينزح قسرًا من مكان لآخر، ليحمي وجوده. وفي القصة محاولة لطرد الجنون، والإمساك بالعقل، أمام ما يحدث من جنون من الطرف الآخر.




ويمكن تحسُّس الإطارات السوداء الدائريّة للشكّ في كلّ القناعات، أمام إبادة متدحرجة على الأجساد، وصمت عالميّ، وكأنّ دحرجة الإطارات مجرَّد لعبة للتسلية. هذا دافع لأن يحاول الفلسطينيّ الاتصال بذاته، للتأكُّد من هويّته، ومن إنسانيّة الآخرين، ولمعرفة سبب تهميش الكلّ لسرديّته، جميعنا علينا الاتصال يا زياد.

جذر
لا يكتفي خداش بالسرد وإنما يضع شخصيّاته دومًا في منتصف الطريق، تعطِّل السير قليلًا، ولربّما يتغيّر مسارك بسبب لعبته مع اللغة.
دومًا قصته لها جذور من الزمن القديم، من لعب الأطفال وتجريبنا الأوّل. إلى هنالك يأخذنا زياد في قصة "أعمى المخيّم"، هناك هو حتى هذه اللحظة، تكبر جذوره مثل شجرة ترفض المغادرة.
جذر خداش في المخيّم، في الزقاق الضيّق، اللعب خلف نظر الجنديّ الإسرائيليّ، وكأنّ قصة الفلسطينيّ من المفترض أن يبدأ صراخها من الصغر: عليك أن تتعلّم كيف تسرق لحظة حلوة، في وجود الاحتلال، أو كيف تكتب على ظهر الجنديّ أو خوذته: أحبُّك يا حبيبتي الصغيرة، أحبّ الحياة.
يعرف زياد جيدًا أنّ القصة تاريخ وتوثيق، وعين لا تتوقّف عن التقاط المعنى. لذا يكرِّس في كلّ محاولة أهميّة الربط بين الخياليّ والواقعيّ، بين فلسطين ومأساة شعبها، والسرديّة المحكيّة عنها، وما يلتحق بها من مؤثِّرات فنيّة. لذلك يبحث عن عنصر الدهشة من خلال "خلط بقع الشخصيّات"، وتحميل كلّ جملة بدلالات وإسقاطات، غير اعتياديّة.
يكتب في قصة "لهاثي صغير": "شو يعني كسر زجاج نافذة، مهو انتوا كسرتو وطن كامل يا مجرم".

 زياد خداش


نحن في عصر يحمل قصصًا كثيرة متشابهة، ومتشابكة، وتبدو شخصيّات هذه القصص مكرَّرة، مع اختلاف الجغرافيا والأفكار والعقائد، وكأنّ هنالك دائرة شاسعة تدور حول الذات، فيها الكثير من القذارة والظلم والخداع، والكثيرون متماثلون بهذه الصفات. في قصة "ذباب" يضع زياد خدعة شخصيّاتها، كمن يضع "الشايب" مكرَّرًا في كلّ مرة، في لعبة الورق. على الأغلب سيكون هنالك سيِّئ واحد على الأقلّ في مكان ما، لكن سيكون من يقف ضدّه، ليتفعَّل الميزان، ولا يجب نسيان أنّ استنساخ الشرّ، وتجليسه على عدة كراسٍ، يعبِّر عن فساد، وقذارة يعتاش عليها الذباب.

تسرُّب اللغة
إنّ مهمة الكاتب تشغيل آلة اللغة، لإعادة إنتاج الواقع بطريقة يحدِّدها أسلوبه الخاصّ، وجينومه الإبداعيّ. واللغة عند خداش تعمل بطريقة التسرُّب، داخل إطار معقَّد سببه وجود الاحتلال، والذي يغيِّر خارطة الإنسان وإشكاليّاته. ففي الحالة الفلسطينيّة، لا يتوانى الاحتلال عن كونه وحشًا يلتهم الحياة. حتى الأمل في نظره، يصير تهمة تعرِّض الفلسطينيّ للمساءلة. فيكتب خداش حول الأمل والثورة، والخوف والجرأة، والجنس والجمال، والقناعة والشكّ، والملل من دور الضحيّة، والملل من السؤال عن الحال، وتفتيش الحواجز، والعيون التي تخزِّن الموت لتوزِّعه على الناس. كلّ هذه المشاعر نجدها أبطالًا، تصنعها لغته داخل القصة.
فتطرح "إصبعا صالح المنتصبان" أسئلة مُرهِقة، وتطرح غموضًا إشكاليًّا. فهل يمكن تعريف الثوريّ من حركاته؟ وكيف يمكن قتل الخوف ببتر جزء من الصورة؟ وإلى أين تصعد المعجزة إذا تحرَّكت في جسد المظلوم؟ هنالك، لا بدّ من أن تكون أسئلة عالقة في منتصف النهر، تحرِّكها إصبعا صالح في القصة، ومن البديهيّ عند الفلسطينيّ ألّا تمتدّ يد للسلام مع محتلٍّ مغتصبٍ قاتل، ولا يمكن اجتثاث الثورة من فوق أرض محتلة، فهذا النبض عنده، لابدّ له من أن يتحرَّك كما تفعل وردة في الحديقة.
من القصة: "نادى صالح على عزام صاحب مقهى الانشراح، وفورًا انتصب الإصبعان، ليس بالطبع استعجالًا لفنجانَي قهوة طلبناهما، كما سيتوقَّع عزام. ولكن استجابة لعادة جسديّة قديمة، بدأت إغاظة محتلٍّ حقير ما زال يطارد أصابعنا ووجوهنا وضحكاتنا في كلّ مكان"...

حاجز
حياة الفلسطينيّ مقسَّمة، ممتلئة بالحواجز. فبين غزة والضفة معبر وحدود وحواجز، وما بين الضفة والداخل كذلك. بين مدن الضفة وقراها حواجز أخرى. وفي غزة بعد حرب الإبادة حواجز أخرى. ويمكن القول بأنّ ثلث حياة الفلسطينيّ بالضفة الغربيّة، وقطاع غزة، تضيع على الحاجز. وخداش لا يترك هذا الثلث وحده، ففيه الكثير من الدراما، بفعل المواجهة المباشرة لثقافة الشعب المحتلّ، والجنديّ الموتور، الذي يتعامل مع شعب كامل بطريقة الاستعلاء والإذلال.




قصص كثيرة تتشكَّل عند الحاجز، ويكون على "كاتب قصة قصيرة لا ينفِّذ أوامر الجنود" أن يضع قصته مع المحتلّ قبل قصته مع الأرملة، ويغيِّر من أدوار البطولة داخل سرده، حيث يستنجد بالكاتب الإسرائيليّ إتغار كيرت ليمرّ عن الحاجز، وينجو من التفتيش المذلّ، والتعرية الجسديّة والضرب المهين. هكذا يواجه الفلسطينيّ مصيره أمام المحتلّ في الضفة، وفي غزة، وحتى داخل الخط الأخضر. فلا يهمّ الجنديّ لقبك، مكانتك الاجتماعيّة، أو جنسك. الكلّ في نظره إرهابيّ طالما أنه فلسطينيّ عربيّ.

لكن خداش يصنع دراماه الخاصة ولا يكتفي بختام القصة عند الحاجز، فبعد تخطّيه، يصرّ على أن تستمرّ الحياة وتثمر من جديد، حتى وإن اختلط الجسد بالجراح، حيث يكشف عن مصير الكاتب والأرملة، اللذين اتّفقا على لقاء غراميّ في مدينة نابلس، ويتمّ اللقاء، لكن بهيئتين غير اللتين كانتا قبل المرور بالحواجز، هكذا بكلّ بساطة، يغيّر الاحتلال سيناريو حياة الفلسطينيّ وقصته كلّ لحظة.
من القصة: "كنت أنتظر انفراجًا أو توقُّفًا في وجه الجنديّ. لكنه واصل تحقيقه المتعجرف معي حول زيارتي لنابلس، وبدأت أدرك بأنّ إتغار كيرت عاجز هذه المرة عن إنقاذي، طلب مني الجنديّ أن أعود إلى السيارات وأطلب من السائقين أن يطفئوا تشغيل سياراتهم".

سأختتم مقالي من حيث بدأ زياد مجموعته القصصيّة، حيث قصة "رجال غرباء" التي تلخِّص قصة الفلسطينيّ مع المحتلّ، فأناس يقفون أمام شرفات المنزل المنهوب، وأناس آخرون يحتلّونه، ويعتبرون نظرات الاشتياق إليه تهمة. هذا الوقوف حول محاولة لاستنطاق الأرض، وتعريفها بالنسل الجديد.
بالدموع يغسل الجدّ جدران منزله المسروق، وبالوقوف الطويل، يعلِّم أحفاده الصبر من أجل استعادة الأرض. في الجانب الآخر، يدلِّس السارق والقاتل والمحتلّ ويواصل التدليس بنقل الكذب لعقول أحفاده، لتستمرّ أكذوبة القويّ، وتغريبة الضعيف بدون أيّ تغيير.
من الضروريّ أن يعيش الفلسطينيّ على الرموز حتى لا تتوه أصول الجريمة، وتبقى حميميّة الأرض مفتوحة له. فتعود العائلة لمقارنة الصورة القديمة للبيت، بالشكل الجديد، وكأنّ الجدّ يأتي بحفيده، من أجل تحفيظه استعادة نفس هيئة البيت القديمة، مستقبلًا. وكأنّ العيون الممتلئة بالدموع هي الجزء الذي يحتفظ به الفلسطينيّ حين يحاول الجميع وأد صوته، فيعجز عن الكلام.