قد يخلق الإنسان من عاداته زنزانة يحصر نفسه بين زواياها المعتمة. وبينما يكون من العادات ما هو حسن محمود، فإن بعضها يأتي كنتاج سطوة موروث ديني، أو عرف اجتماعي، لا أصل لهما، تضعه في قيد يأسره مدى الحياة، فيعيش كمن لا عاش حياة! تبدو العادة وكأنها جندي مجهول يسيّر الإنسان ضمن جملة أفكار وأفعال تشكله، رغم أنه قد يكون في سريرته على خلاف ما يُظهر.
في كتاب "زنزانة: عادة مدى الحياة" (مؤسسة الإسلام اليوم للنشر والإنتاج، 2014)، يشير الكاتب إلى تلك الأغلال بإصبع الاتهام، في محاولة جادة للتحريض على فكّها والاستمتاع بالحياة ضمن حدود شرعية وأخلاقية واجتماعية، بلا إفراط ولا تفريط، وهو لا ينسى أن يحرّض في الوقت نفسه على التمسك بالعادات الحسنة، والإصرار على تحويلها من عادة إلى عبادة، إذ إن الإنسان حين ينتقي من (العادة) أحسنها، ويستحضرها مع النية الخالصة، تصبح (عبادة)، فيضرب مثلًا في صلاة الخاشع قلبه ويقول: "أصبحت الصلاة عادته وسرور قلبه وقرة عينه لا يشعر بثقلها بل بمتعتها. حتى الخشوع يكون عادة بعد المجاهدة الطويلة".
إنه د. سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، رجل دين بارز، ولد في منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية عام 1956، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراة في السنة النبوية، فعمل كأستاذ جامعي في كلية الشريعة وأصول الدين في بلده، بينما فاقت شهرته كداعية إسلامي، ومقدم برامج تلفزيونية، وكاتب عربي، إذ تربو مؤلفاته على الستين كتابًا. لقد خلع د. العودة جلباب الوعظ الذي يحرص كل عالم دين على الاتشاح به فسنحت له فرصة الحديث، وجاء كتابه في نسق سلس شائق وواسع غطى ما استطاع به من أصعدة الحياة، يحدّث فيه القارئ ـ لا سيما الشاب ـ كإنسان ناضج، وبلغة عفوية أبوية دافئة، لا تقرّع بقدر ما تدعو إلى الارتقاء بالذات، من خلال ترسيخ قيم المحاسبة الذاتية، وتحمّل المسؤولية، وصدق الرغبة في التغيير، لا على المستوى الفردي فحسب، بل أيضًا المجتمعي.
يستهل الكاتب، وقد رحبّ بالقارئ كـ "نزيل جديد"، ببعض الأقوال المأثورة عن العادة، يأتي الصيني منها عميق المعنى، إذ يقول: "ازرع فكرًا تحصد قولًا... ازرع قولًا تحصد عملًا... ازرع عملًا تحصد عادة... ازرع عادة تحصد طبعًا (خُلقًا)... ازرع طبعًا تحصد مصيرًا". ومع تكرار العادة، لا بد وأن يكتسب الإنسان مهارة ما، لكنها قد تكون في موضع آخر مجرّد تلقين. فيتحدث الكاتب عن أحد المهرة في الضرب على لوحة مفاتيح الحاسب الآلي دون النظر إليها، فإذا نظر إليها أخطأ. ثم يضرب مثلًا آخر في الحفظ، الذي يكون فيه كل مقطع ممهدًا للذي يليه من دون تفكير "والتكرار يرسّخ ذلك"، بحيث لو توقف القارئ عند مقطع ما يتأمله أو يتفكّر فيه "لتردد أو توقف أو ارتبك". لذا، ليس "قانون التجربة والخطأ"، وما قدمته نتائج البحوث على الحيوانات، سوى حصيلة التكرار مرات ومرات لأجل تثبيت الصواب وتنحية الخطأ. غير أن التكرار من ناحية أخرى له دور مغاير، إذ مع تكرار معاينة الآلام، تألف النفس العذاب، ويقسو القلب! قد تكون تلك القسوة مطلبًا عند الجرّاح لتأدية عمله، لكن ما بال النفس تستلذّ الطعام، والعين تبصر صور الدمار على محطات التلفاز؟ يقول الكاتب: "اعتياد رؤية القتل والدمار في نشرات الأخبار يجعل المشاهد أقل تفاعلًا وتأثرًا، وهذا ما وجدناه في متابعة الانهيارات الخطرة في العراق وسورية ومصر وبورما وبلاد أخرى". من ناحية أخرى، قد تصبح العادة سجية، كما ظهرت عند أحد لاعبي كرة السلة الذي اعتاد التسديد، والذي فشل لما طُلب منه الظهور في مشهد إعلاني يمثّل الخطأ "لأنه تعود أن يصيب". يقول الكاتب: "من تعود على الصواب يصعب عليه فعل الخطأ، ومن جرت سليقته العربية على الفصاحة لا يُمكّنه لسانه من اللحن". ثم يقول: "جميل أن يصبح الصواب عادة".
وفي حديثه عن القراءة كعادة محمودة، يعتقد الكاتب بأن "الإنسان القارئ هو إنسان مفعم بالحياة"، بل هي العادة التي تمنحه هو شخصيًا حياة أخرى ضمن حياته، فيقول محدّثًا عن نفسه: "ما زلت أجد الكتاب كنزًا يثير فيّ كل معاني الدهشة والفرح، ويأخذني من عالمي المثقل إلى أفق أرحب وأوسع". أما عن عادات القراءة، فيعتقد الكاتب بأن القراءة السريعة تساعد في زيادة حصيلة (عددية) لا (علمية)، إذ يحلو له تشبيهها بـ"الوجبات السريعة" التي "تسبب السمنة، ولا تفي بشروط الغذاء الصحي... لذيذة مشبعة بالدهون، قليلة الفائدة". لكنه يشبّه القراءة على متن الطائرة، أو على سرير النقاهة، كـ "استثمار في الزمن والحال". وفي حديثه عن عادة القراءة المثمرة، يفرّق الكاتب بين التعليم الإلزامي وبين التعليم الذاتي، إذ يعتقد أنه ليس للمتعلم سوى ما لُقنّ على مقاعد الدراسة، حيث ينشأ في جو من الجمود الفكري، أما المثقف فله من سعة الأفق ما يوازي سعة اطلاعه. وهو إذ يفرق بينهما يقول: "للمثقف رؤية ومرونة وسعة اطلاع واستعداد للتأمل في الفكرة الجديدة وإدراك وجه الصواب والخطأ فيها بحياد وهدوء. أما المتعلم فهو درس أمورًا ضمن نطاقه الفكري، ووفق معلومات محددة تقدم للجميع، وربما كانت سببًا في تصلبه وجموده".
ينتقل الكاتب للحديث عن واقع ليس بالضرورة مثاليًا، والذي يضرب له مثلًا من خلال ضفدع (ماو تسي تونغ)، حيث وهو يقبع في بئر ينظر من خلاله إلى السماء، يظنّ أنها بحجم فوهته، ولا يعلم أنه لو صعد نحوها سيتيقن بأن ما يراه لم يكن سوى جزء محدود من أطرافها المترامية. يُسقط الكاتب سلوك هذا الضفدع على بعض بني البشر، فيقول: "يتعمد المرتزق بقلمه ولسانه أن يرى الأشياء كما يراها سيده، ومن زاوية واحدة، أو من لا زاوية. المهم أن يستمر النقيق". وعن سقوط أسماء كانت تُعد أعلامًا عربية، يقول في خيبة: "العالم يدرّس أدبًا يحكي آلام البائسين، والعرب يدرّسون كتبًا تمجد الظالمين". لم يكن عرب التاريخ بأفضل حال من عرب اليوم، حيث سادت في العهد الفاطمي قيم الانتهازية كرمز للذكاء. يقول أحد شعرائه في الزلزال الذي أصاب وباله البلاد والعباد مخاطبًا واليهم: "ما زُلزلت مصر من كيد ألم بها... لكنها رقصت من عدلكم طربا".
يقود حديث ذو شجون كهذا الكاتب نحو الحديث بشكل أكثر صراحة عن الثقافة العربية. فبينما يُعنى علم الأنثروبولوجيا بالفروقات بين البشر، عرقيًا وثقافيًا وعقائديًا واجتماعيًا وجغرافيًا، يعرض الكاتب وصف عمرو بن العاص لقوم الروم، بأن "فيهم لخمس خصال. إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وأمنعهم من ظلم الملوك"، فيُثني على قراءة بن العاص الماهرة لعاداتهم وطبائعهم. ثم يستطرد في قول قد يكون فاضحًا عن واقع عرب اليوم، وهم لا يملكون أمامه حيلة سوى تمجيد ماضيهم مقابل تسيّد الحضارة الغربية، فيقول: "في مجتمعاتنا نعقد المقارنة لنبيّن تفوقنا، ونقارن أسوأ ما عندهم بأحسن ما عندنا، أو نجعل واقعهم الحالي في كفة وتاريخنا المجيد في الكفة الأخرى. قد تكون المقارنة نتيجة زيارة عابرة لسياحة أو تجارة لم يكتشف الإنسان فيها الكثير، وقد نحتمي بالشريعة وكأن كل ما لدينا هو شرعي، وكل ما لدى الآخر هو منكر". وهنا قد يتبادر سؤال عن أصل هذا النوع من ردود الأفعال! هل هي مروءة العربي، أم أنها عقدة نقص؟ يجيب الكاتب من وجهة نظره وهو يحلل شخصية الإنسان العربي المعاصر، فيقول منتقدًا: "يميل العقل العربي إلى حكاية أكاذيب وتوهمات وإخفاء الحقيقة حفاظًا على (الوجه)، لذا لا يقرّ بالهزيمة، ولا يحسن الاعتذار! يستخدم (الفهلوة) للتكيف لفظيًا مع الخطأ وتسليك الأمور".
ومن هنا، يجعل الكاتب للمرأة العربية نصيبًا سخيًّا في كتابه، وهو يصرّح ابتداءً أن للمرأة عقلًا قد يفوق المذكّر من العقول، كما أن للرجل عاطفة لا يجب أن تُعيبه البتة. يتمنى الكاتب أمنية فيقول: "ليت السائلين يرفعون الهم إلى ما فوق الحاجب، ويسألون عن تهذيب العقول وعاداتها الإبداعية، ليؤكدوا أن للمرأة عقلًا وقد تفوق به إحداهن عددًا من الرجال. وليتهم ينزلون من شعر اللحية إلى ما تحته، فيسألون عن رقة القلوب وصفائها وإيمانها وأخلاقها، ليؤكدوا أن للرجل قلبًا وعاطفة". يشهد الكاتب كـ (شاهد من أهله) على شيطنة بعض بني جنسه في قتل إناثهم، بشبهة علاقة حب، أو رفض ارتداء الحجاب، تصل في أقرب تقدير إلى عشرين ألف ضحية سنويًا تُدرج تحت جرائم الشرف. يقول الكاتب في نص واقعي قاسٍ: "الوسائل صادمة تتراوح بين قطع الرؤوس والحرق والطعن بالسكاكين والخناجر والصعق بالكهرباء ودفن البنت وهي حية، ورمي الأحماض على جسدها ووجهها". ثم وكأنه يصبّ فوق ذلك الوجه الملتهب ملحًا، فيقول: "القوانين في عدد من الدول العربية تخفضّ عقوبة الجاني، وكأنها تعمل لصالح العائلة ضد الضحية". لا يتورع الكاتب عن مقارعة أولي الحجج الواهية في تبخيس مكانة المرأة بحجج تعزز مكانتها دينيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا، فيوجع ويؤدب وهو يحدّث أحدهم: "قال لي: كلما تخيلت صور بائعات الهوى نفرت من الإناث. أجبته: كلما تذكرت أن بناتي الأربع ينتمين إلى الجنس نفسه الذي تنتمي إليه مريم ابنة عمران، وآسيا امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة، وعائشة، شعرت بالفخر، وأحسست بجميل النعمة، وقرأت سرّ التكريم، وشاهدت طرفًا من لطيف الحكمة". ثم يختم متعجبًا ازدواجيته: "يحترم الأم ويهين الزوجة". ويذكرّه بالحقيقة التي تبدو له صادمة "أمك زوجة رجل آخر... وزوجتك أم رجل آخر".
في هذه الحياة، تتسامى قيمة الإنسان من خلال عباداته لربه ومناجاته. كيف لا وقد خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته؟ يستطرد الكاتب في هذا المعنى ليقول: "عبودية الإنسان لربه وذله بين يديه تمنحه سموًا وارتفاعًا لهامته واعتزازًا بذاته، من دون كبر أو تعاظم". أما عن الصلاة، حيث جُعلت قرة الأعين، فلا حاجة للبحث هنا وهناك عمّا يستحضر الخشوع ويتمم الركوع والسجود، إنما ذلك عمل القلب. وعن الصيام والنور المتدفق مع استهلال هلال شهره الفضيل، يتفاضل الصائمون بين اغتنام نفحاته وبين التهافت على ما تعرضه الشاشات من غثّ وسمين. يأسى الكاتب لهكذا عادة، فيقول: "يأتي رمضان بروحانياته العالية وعاداته الجميلة في كل بلد إسلامي، ومعه عادة راسخة لا تتوافق مع سموه وتألقه! أن تزدحم الشاشات والأوقات بأعمال درامية محلية وعربية، منها التاريخي ومنها الاجتماعي. بعضها يجترأ على تجاوز المحرّم الاجتماعي ما لا يجترئ على الاقتراب من المحرّم السياسي، ويعاني فراغًا من البعد القيمي والحضاري".
قبل الختام، تأتي بعض كلمات الكاتب التي خطّها بيديه مدعاة للانتباه، يبدو فيها وكأنه يستشرف عرضًا ما قادمًا من المستقبل سيمسّه، حيث يقول في خواطره عن الاحتلال الإسرائيلي: "الاحتلال يرمي صديقي في السجن، فيجعل المسافة بينه وبين غرفة معيشته تقاس بالسنوات وبأعمار أبنائه وبناته الذين سيأتون له بأحفاد لن يراهم". وفي خواطره عن يوسف الصديق في سجنه الذي ظُلم به، يقول قولًا يكاد يشبهه في محنته التي لا تزال مستمرة: "عزلة فيها كمال الاتصال".
ختامًا، وفي لغة عاشق صوفي، يصدح الكاتب بترتيل عذب عن قيمة الحب، قائلًا: "الحب أساس كل خير، وأساس الحب حب الله، وهو شعور مقدس ومقدم على الخوف وعلى الرجاء... هو رأس الإيمان ولسان الميزان".
في كتاب "زنزانة: عادة مدى الحياة" (مؤسسة الإسلام اليوم للنشر والإنتاج، 2014)، يشير الكاتب إلى تلك الأغلال بإصبع الاتهام، في محاولة جادة للتحريض على فكّها والاستمتاع بالحياة ضمن حدود شرعية وأخلاقية واجتماعية، بلا إفراط ولا تفريط، وهو لا ينسى أن يحرّض في الوقت نفسه على التمسك بالعادات الحسنة، والإصرار على تحويلها من عادة إلى عبادة، إذ إن الإنسان حين ينتقي من (العادة) أحسنها، ويستحضرها مع النية الخالصة، تصبح (عبادة)، فيضرب مثلًا في صلاة الخاشع قلبه ويقول: "أصبحت الصلاة عادته وسرور قلبه وقرة عينه لا يشعر بثقلها بل بمتعتها. حتى الخشوع يكون عادة بعد المجاهدة الطويلة".
إنه د. سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، رجل دين بارز، ولد في منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية عام 1956، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراة في السنة النبوية، فعمل كأستاذ جامعي في كلية الشريعة وأصول الدين في بلده، بينما فاقت شهرته كداعية إسلامي، ومقدم برامج تلفزيونية، وكاتب عربي، إذ تربو مؤلفاته على الستين كتابًا. لقد خلع د. العودة جلباب الوعظ الذي يحرص كل عالم دين على الاتشاح به فسنحت له فرصة الحديث، وجاء كتابه في نسق سلس شائق وواسع غطى ما استطاع به من أصعدة الحياة، يحدّث فيه القارئ ـ لا سيما الشاب ـ كإنسان ناضج، وبلغة عفوية أبوية دافئة، لا تقرّع بقدر ما تدعو إلى الارتقاء بالذات، من خلال ترسيخ قيم المحاسبة الذاتية، وتحمّل المسؤولية، وصدق الرغبة في التغيير، لا على المستوى الفردي فحسب، بل أيضًا المجتمعي.
يستهل الكاتب، وقد رحبّ بالقارئ كـ "نزيل جديد"، ببعض الأقوال المأثورة عن العادة، يأتي الصيني منها عميق المعنى، إذ يقول: "ازرع فكرًا تحصد قولًا... ازرع قولًا تحصد عملًا... ازرع عملًا تحصد عادة... ازرع عادة تحصد طبعًا (خُلقًا)... ازرع طبعًا تحصد مصيرًا". ومع تكرار العادة، لا بد وأن يكتسب الإنسان مهارة ما، لكنها قد تكون في موضع آخر مجرّد تلقين. فيتحدث الكاتب عن أحد المهرة في الضرب على لوحة مفاتيح الحاسب الآلي دون النظر إليها، فإذا نظر إليها أخطأ. ثم يضرب مثلًا آخر في الحفظ، الذي يكون فيه كل مقطع ممهدًا للذي يليه من دون تفكير "والتكرار يرسّخ ذلك"، بحيث لو توقف القارئ عند مقطع ما يتأمله أو يتفكّر فيه "لتردد أو توقف أو ارتبك". لذا، ليس "قانون التجربة والخطأ"، وما قدمته نتائج البحوث على الحيوانات، سوى حصيلة التكرار مرات ومرات لأجل تثبيت الصواب وتنحية الخطأ. غير أن التكرار من ناحية أخرى له دور مغاير، إذ مع تكرار معاينة الآلام، تألف النفس العذاب، ويقسو القلب! قد تكون تلك القسوة مطلبًا عند الجرّاح لتأدية عمله، لكن ما بال النفس تستلذّ الطعام، والعين تبصر صور الدمار على محطات التلفاز؟ يقول الكاتب: "اعتياد رؤية القتل والدمار في نشرات الأخبار يجعل المشاهد أقل تفاعلًا وتأثرًا، وهذا ما وجدناه في متابعة الانهيارات الخطرة في العراق وسورية ومصر وبورما وبلاد أخرى". من ناحية أخرى، قد تصبح العادة سجية، كما ظهرت عند أحد لاعبي كرة السلة الذي اعتاد التسديد، والذي فشل لما طُلب منه الظهور في مشهد إعلاني يمثّل الخطأ "لأنه تعود أن يصيب". يقول الكاتب: "من تعود على الصواب يصعب عليه فعل الخطأ، ومن جرت سليقته العربية على الفصاحة لا يُمكّنه لسانه من اللحن". ثم يقول: "جميل أن يصبح الصواب عادة".
وفي حديثه عن القراءة كعادة محمودة، يعتقد الكاتب بأن "الإنسان القارئ هو إنسان مفعم بالحياة"، بل هي العادة التي تمنحه هو شخصيًا حياة أخرى ضمن حياته، فيقول محدّثًا عن نفسه: "ما زلت أجد الكتاب كنزًا يثير فيّ كل معاني الدهشة والفرح، ويأخذني من عالمي المثقل إلى أفق أرحب وأوسع". أما عن عادات القراءة، فيعتقد الكاتب بأن القراءة السريعة تساعد في زيادة حصيلة (عددية) لا (علمية)، إذ يحلو له تشبيهها بـ"الوجبات السريعة" التي "تسبب السمنة، ولا تفي بشروط الغذاء الصحي... لذيذة مشبعة بالدهون، قليلة الفائدة". لكنه يشبّه القراءة على متن الطائرة، أو على سرير النقاهة، كـ "استثمار في الزمن والحال". وفي حديثه عن عادة القراءة المثمرة، يفرّق الكاتب بين التعليم الإلزامي وبين التعليم الذاتي، إذ يعتقد أنه ليس للمتعلم سوى ما لُقنّ على مقاعد الدراسة، حيث ينشأ في جو من الجمود الفكري، أما المثقف فله من سعة الأفق ما يوازي سعة اطلاعه. وهو إذ يفرق بينهما يقول: "للمثقف رؤية ومرونة وسعة اطلاع واستعداد للتأمل في الفكرة الجديدة وإدراك وجه الصواب والخطأ فيها بحياد وهدوء. أما المتعلم فهو درس أمورًا ضمن نطاقه الفكري، ووفق معلومات محددة تقدم للجميع، وربما كانت سببًا في تصلبه وجموده".
ينتقل الكاتب للحديث عن واقع ليس بالضرورة مثاليًا، والذي يضرب له مثلًا من خلال ضفدع (ماو تسي تونغ)، حيث وهو يقبع في بئر ينظر من خلاله إلى السماء، يظنّ أنها بحجم فوهته، ولا يعلم أنه لو صعد نحوها سيتيقن بأن ما يراه لم يكن سوى جزء محدود من أطرافها المترامية. يُسقط الكاتب سلوك هذا الضفدع على بعض بني البشر، فيقول: "يتعمد المرتزق بقلمه ولسانه أن يرى الأشياء كما يراها سيده، ومن زاوية واحدة، أو من لا زاوية. المهم أن يستمر النقيق". وعن سقوط أسماء كانت تُعد أعلامًا عربية، يقول في خيبة: "العالم يدرّس أدبًا يحكي آلام البائسين، والعرب يدرّسون كتبًا تمجد الظالمين". لم يكن عرب التاريخ بأفضل حال من عرب اليوم، حيث سادت في العهد الفاطمي قيم الانتهازية كرمز للذكاء. يقول أحد شعرائه في الزلزال الذي أصاب وباله البلاد والعباد مخاطبًا واليهم: "ما زُلزلت مصر من كيد ألم بها... لكنها رقصت من عدلكم طربا".
يقود حديث ذو شجون كهذا الكاتب نحو الحديث بشكل أكثر صراحة عن الثقافة العربية. فبينما يُعنى علم الأنثروبولوجيا بالفروقات بين البشر، عرقيًا وثقافيًا وعقائديًا واجتماعيًا وجغرافيًا، يعرض الكاتب وصف عمرو بن العاص لقوم الروم، بأن "فيهم لخمس خصال. إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وأمنعهم من ظلم الملوك"، فيُثني على قراءة بن العاص الماهرة لعاداتهم وطبائعهم. ثم يستطرد في قول قد يكون فاضحًا عن واقع عرب اليوم، وهم لا يملكون أمامه حيلة سوى تمجيد ماضيهم مقابل تسيّد الحضارة الغربية، فيقول: "في مجتمعاتنا نعقد المقارنة لنبيّن تفوقنا، ونقارن أسوأ ما عندهم بأحسن ما عندنا، أو نجعل واقعهم الحالي في كفة وتاريخنا المجيد في الكفة الأخرى. قد تكون المقارنة نتيجة زيارة عابرة لسياحة أو تجارة لم يكتشف الإنسان فيها الكثير، وقد نحتمي بالشريعة وكأن كل ما لدينا هو شرعي، وكل ما لدى الآخر هو منكر". وهنا قد يتبادر سؤال عن أصل هذا النوع من ردود الأفعال! هل هي مروءة العربي، أم أنها عقدة نقص؟ يجيب الكاتب من وجهة نظره وهو يحلل شخصية الإنسان العربي المعاصر، فيقول منتقدًا: "يميل العقل العربي إلى حكاية أكاذيب وتوهمات وإخفاء الحقيقة حفاظًا على (الوجه)، لذا لا يقرّ بالهزيمة، ولا يحسن الاعتذار! يستخدم (الفهلوة) للتكيف لفظيًا مع الخطأ وتسليك الأمور".
ومن هنا، يجعل الكاتب للمرأة العربية نصيبًا سخيًّا في كتابه، وهو يصرّح ابتداءً أن للمرأة عقلًا قد يفوق المذكّر من العقول، كما أن للرجل عاطفة لا يجب أن تُعيبه البتة. يتمنى الكاتب أمنية فيقول: "ليت السائلين يرفعون الهم إلى ما فوق الحاجب، ويسألون عن تهذيب العقول وعاداتها الإبداعية، ليؤكدوا أن للمرأة عقلًا وقد تفوق به إحداهن عددًا من الرجال. وليتهم ينزلون من شعر اللحية إلى ما تحته، فيسألون عن رقة القلوب وصفائها وإيمانها وأخلاقها، ليؤكدوا أن للرجل قلبًا وعاطفة". يشهد الكاتب كـ (شاهد من أهله) على شيطنة بعض بني جنسه في قتل إناثهم، بشبهة علاقة حب، أو رفض ارتداء الحجاب، تصل في أقرب تقدير إلى عشرين ألف ضحية سنويًا تُدرج تحت جرائم الشرف. يقول الكاتب في نص واقعي قاسٍ: "الوسائل صادمة تتراوح بين قطع الرؤوس والحرق والطعن بالسكاكين والخناجر والصعق بالكهرباء ودفن البنت وهي حية، ورمي الأحماض على جسدها ووجهها". ثم وكأنه يصبّ فوق ذلك الوجه الملتهب ملحًا، فيقول: "القوانين في عدد من الدول العربية تخفضّ عقوبة الجاني، وكأنها تعمل لصالح العائلة ضد الضحية". لا يتورع الكاتب عن مقارعة أولي الحجج الواهية في تبخيس مكانة المرأة بحجج تعزز مكانتها دينيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا، فيوجع ويؤدب وهو يحدّث أحدهم: "قال لي: كلما تخيلت صور بائعات الهوى نفرت من الإناث. أجبته: كلما تذكرت أن بناتي الأربع ينتمين إلى الجنس نفسه الذي تنتمي إليه مريم ابنة عمران، وآسيا امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة، وعائشة، شعرت بالفخر، وأحسست بجميل النعمة، وقرأت سرّ التكريم، وشاهدت طرفًا من لطيف الحكمة". ثم يختم متعجبًا ازدواجيته: "يحترم الأم ويهين الزوجة". ويذكرّه بالحقيقة التي تبدو له صادمة "أمك زوجة رجل آخر... وزوجتك أم رجل آخر".
في هذه الحياة، تتسامى قيمة الإنسان من خلال عباداته لربه ومناجاته. كيف لا وقد خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته؟ يستطرد الكاتب في هذا المعنى ليقول: "عبودية الإنسان لربه وذله بين يديه تمنحه سموًا وارتفاعًا لهامته واعتزازًا بذاته، من دون كبر أو تعاظم". أما عن الصلاة، حيث جُعلت قرة الأعين، فلا حاجة للبحث هنا وهناك عمّا يستحضر الخشوع ويتمم الركوع والسجود، إنما ذلك عمل القلب. وعن الصيام والنور المتدفق مع استهلال هلال شهره الفضيل، يتفاضل الصائمون بين اغتنام نفحاته وبين التهافت على ما تعرضه الشاشات من غثّ وسمين. يأسى الكاتب لهكذا عادة، فيقول: "يأتي رمضان بروحانياته العالية وعاداته الجميلة في كل بلد إسلامي، ومعه عادة راسخة لا تتوافق مع سموه وتألقه! أن تزدحم الشاشات والأوقات بأعمال درامية محلية وعربية، منها التاريخي ومنها الاجتماعي. بعضها يجترأ على تجاوز المحرّم الاجتماعي ما لا يجترئ على الاقتراب من المحرّم السياسي، ويعاني فراغًا من البعد القيمي والحضاري".
قبل الختام، تأتي بعض كلمات الكاتب التي خطّها بيديه مدعاة للانتباه، يبدو فيها وكأنه يستشرف عرضًا ما قادمًا من المستقبل سيمسّه، حيث يقول في خواطره عن الاحتلال الإسرائيلي: "الاحتلال يرمي صديقي في السجن، فيجعل المسافة بينه وبين غرفة معيشته تقاس بالسنوات وبأعمار أبنائه وبناته الذين سيأتون له بأحفاد لن يراهم". وفي خواطره عن يوسف الصديق في سجنه الذي ظُلم به، يقول قولًا يكاد يشبهه في محنته التي لا تزال مستمرة: "عزلة فيها كمال الاتصال".
ختامًا، وفي لغة عاشق صوفي، يصدح الكاتب بترتيل عذب عن قيمة الحب، قائلًا: "الحب أساس كل خير، وأساس الحب حب الله، وهو شعور مقدس ومقدم على الخوف وعلى الرجاء... هو رأس الإيمان ولسان الميزان".