Print
أحمد طمليه

"الصابرات": المرأة في منطقة الساحل الأفريقي

18 مايو 2024
عروض
الكاتبة الكاميرونية دجايلي أمادو أمل هي في الأصل ناشطة ومناضلة تدافع عن المرأة، وحقوقها، وترفع صوت المنسيين لتجعله مسموعًا عبر الكتابة عنهم. تغرف أفكارها من وحي تجارب عاشتها، أو سمعت عنها، وقد أهلها صدق تعبيرها، وعمق طرحها، وواقعية ما تطرح، لأن تكون واحدة من أهم الكاتبات في الكاميرون.
تعد روايتها "الصابرات" من أهم ما كتبت، إذ حظيت بحجم مبيعات كبير، قياسًا بواقع الحال في الكاميرون، حيث الكتاب ليس رائجًا هناك، وعلى الكاتب أن يبدع في الوسائل ليصل كتابه إلى القراء. والأهم من المبيعات إدراج رواية "الصابرات" ضمن المناهج الدراسية لفصول السنة النهائية في المدارس الثانوية في الكاميرون.
في عام 2021، وعن دار الفارابي، صدرت الترجمة العربية لرواية "الصابرات" للمترجمة ليندا بدر. هنا قراءة في الرواية.

الصبر ينضج الحجر

بهذا المثل الأفريقي، تفتتح دجايلي حمدو أمل روايتها "الصابرات"، لتحكي عن عالم نظن لو لم نقرأه بأنه عالم من صنع الخيال، لا مكان له على أرض الواقع، من فرط القسوة التي فيه. لكن صدق الكاتبة في التعبير، ونقلها المحترف لتفاصيل ما يحدث للمرأة في الساحل الأفريقي، يجعلنا نصدق ما نقرأ، ونقر به.
فور أن انتهيت من قراءة الرواية، تمنيت أن أتواصل مع المؤلفة لأسال: هل ما زالت الحال على ما هي عليه بالنسبة للمرأة في منطقة الساحل الأفريقي؟ هل الرواية تحكي راهنًا، أم تستحضر تاريخًا؟ ذلك أن حجم ما تعرضه الرواية مخيف في ما يتعلق بحال المرأة المقيدة بأكثر من قيد، تواجه وحدها جحيم تعدد الزوجات، والزواج القسري، منصاعة لسلطات لا قدرة لها على مواجهتها: سلطة الدين، سلطة الذكر، سلطة المجتمع، سلطة القبيلة، أو القوم، وهي وحدها. وحدها تمامًا تحمل عبء كونها أنثى، وتدفع ثمن أنها أنثى.
ظلم، قهر، سطوة الذكر، تهميش الأنثى، وعلى المرأة أن تتحمل، أن تصبر، والصبر هو الطريق إلى السماء.
ثلاث نساء يحكين قصتهن، كل واحدة تحكي قصتها بلسانها؛ رملة ابنة السابعة عشرة، المتعلمة، تتزوج قسرًا الرجل الخمسيني الحجي عيسى، رغم أنها تحب شابًا من سنها. والدها يعرف، ويعدهما أن يزوجهما، لكن سلطة القبيلة تحول دون ذلك. وبعد أن يقرر الأب، بتوجيه من شقيقه، تزويجها لرجل خمسيني ميسور الحال، لتكون الزوجة الثانية، الضرة، لـ سفيرة، وهي الشخصية الثانية في الرواية. أما الصوت الثالث فهو لـ هيندو، أخت رملة من أم ثانية، الفتاة الهادئة، المسالمة.
مع كل فصل، من ثلاثة فصول، تتحدث شخصية، وتفتتح الكاتبة الفصل بمثل متداول حول الصبر، وعند البدء مع الشخصية الأولى تفتتح الكاتبة المشهد بالمثل المتداول: عظيم هو القلب الصابر.
لا يأبه الأب لاعتراض ابنته رملة على الزواج من رجل يكبرها سنًا، والأهم لا تحبه، بل يدعوها أن تبيض وجهه أمام أخيه المشكور، كونه أحضر لها مثل هذا العريس، وينصحها النصائح المعتادة المعروفة عن ظهر قلب، وهي تختصر بتوصية واحدة ووحيدة تشمل العروس، وكل النساء الحاضرات: كن خاضعات. توصيات الأب كلها تتمحور حول: يجب أن تخضع الزوجة لزوجها، يجب أن تتجنب الزوجة انشغال ذهنها عن زوجها، يجب أن تكون أمته ليكون لها أسيرًا، يجب أن تكون له أرضًا ليكون لها سماء، يجب أن تكون له حقلًا ليكون لها مطرًا، يجب أن تكون له سريرًا ليكون لها منزلًا.
"واظبي على الصلوات الخمس، كوني مطيعة لزوجك، لا تضيعي الوقت هباء، تحاشي النكد وإبداء الاستياء، إياك والتشتت، لا تكوني سريعة الغضب، تفادي الثرثرة، لا تتوسلي شيئًا، ولا تطلبي شيئًا، كوني محتشمة، شاكرة، صابرة، كتومة".
تكشف الرواية أن هذه الدعوات والتوصيات ليست الغاية منها تمني الخير والسلام للفتيات المقبلات على الزواج، بل هي دعوات وتوصيات تعبر عن فرحة الأب في الخلاص من ابنته عبر تزويجها، فالبنت، كما توحي الرواية، وباء قد يجلب العار، والخلاص منه مهمة مقدسة للأب. هذا الأب في الساحل الأفريقي ليس واحدًا، بل إنهم آباء، الأعمام بالدرجة الأولى، يمارسون دور الآباء في مهمة الخلاص من بنات العائلة. وأبناء العم هم الأوصياء على حماية الشرف الرفيع. المقصود بالأب، كما توضح الرواية، ليس الأبوة بالمعنى الذي نعرفه، بل السلطة، بكل ما فيها من قسوة وظلم.




تخرج رملة مكسورة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، وهي تناجي ربها: "آه يا أبي، تقول إنك تعرف الإسلام تمام المعرفة. تجبرنا على ارتداء الحجاب، وعلى أداء صلواتنا، وعلى احترام تقاليدنا، لماذا تتجاهل عمدًا وصية النبي عليه السلام التي تشترط موافقة الفتاة على زواجها.
آه يا أبي، كبرياؤك ومصالحك يأتيان في المقام الأول.
آه يا أبي، لا أستطيع حتى أن أحقد عليك، أنا فتاة نذرت للعذاب الأكبر. وأنت يا أمي... أنت تحبيني بالتأكيد، لكنك لم تتمكني من فهمي، ومن الدفاع عني، لم تسمعي صرخة الضيق في صدري. آه يا أمي، لماذا هذه الدموع التي تمسحينها، لماذا كل مساحيق التجميل هذا اليوم، يوم عرسي، لماذا تخفين كل هذا الحزن في عينيك".

الصبر فن نتعلمه بصبر

تعدد زوجات يشعل النار في قلب سفيرة، الحاجة، الأمينة، أم الأولاد، التي تجد نفسها في منافسة غير عادلة مع الزوجة الجديدة، اليافعة، الطرية، التي يفطر جسدها بياضًا من فرط عذوبته، وسوف تمكث في سرير الحجي كثيرًا قبل أن يمل منها. فتبدأ سفيرة بإعداد المكائد بغية الإطاحة بحضور رملة في البيت، وهذا ما يتحقق لها بعد أن تزرع في رأس زوجها أن رملة خائنة، تستحق القتل، وليس الطرد فقط.
لكن فرحة سفيرة لا تطول، بعد أن تنجح في طرد رملة من البيت، فما هي إلا أيام، وإذ بالحجي يعد البيت لزوجة ثانية جديدة. على هذا النحو تنتهي الرواية، مع سفيرة وهي تتوعد الزوجة الجديدة القادمة، كأن الكاتبة تريد أن تقول في هذه الخاتمة أن الأوضاع سوف تبقى على حالها في الساحل الأفريقي.
وإذ تبدو رملة هي الشخصية الأكثر وعيًا، حيث تجد خلاصها من خلال التنسيق مع أخيها، وتبدو فرص عودتها إلى حبيبها واردة، فإن في هذا إشارة من المؤلفة إلى أن التعليم، تعليم المرأة، يعد خلاصًا من العيش في جحيم صبر لا نقدر عليه.

ما بعد الصبر إلا الفرج

الضحية الأكثر انتهاكًا في الرواية، هي هندو الفتاة المسكينة، المطيعة، التي يرغمونها على الزواج من ابن عمها، المخمور على الدوام، متعاطي الحبوب المخدرة، صاحب الشهوات المجنونة، والأهم أن هندو لا تحبه، بل تخاف منه، منذ أن حاول التهجم عليها في بيته، بيت عمها، وحين صدته، توعدها. هندو هي الوحيدة التي تكسر التقاليد الاجتماعية، وترجو أباها أن لا يزوجها ابن عمها، لكن من يسمع لامرأة في الساحل الأفريقي، عليها أن تطيع، وأن تصبر. الصبر هو الطريق إلى السماء.
المرأة سلعة باسم الدين، وباسم التقاليد الاجتماعية، وباسم المتعارف عليه، ولا يجوز في أي حال الخروج عنه. جميع النساء في الرواية مغلوب على أمرهن، يتم تهديدهن بالطلاق، إذا ما انصعن إلى رغبات الرجل التي لا تنتهي.
تصوير مذهل لواقع المرأة في الساحل الأفريقي، حتى الأم لا تستطيع أن تفتح فمها بكلمة، وهي ورقة للضغط على البنت إذا خالفت الأوامر، إذ يتم ضرب الأم أمام ابنتها، حتى تهدأ البنت وتعود إلى رشد القبيلة. والأم هي ضحية الزواج القسري، وتعدد الزوجات، فأم رملة تزوجت زوج أختها التي تُوفيت. بمجرد وفاة الأخت جاءوا بأختها الصغيرة للإنابة عن أختها في تربية الأولاد، والانصياع لشهوات الزوج التي لا تنتهي.
يبقى القلب مع هندو التي تعيش مع رجل لا يرحم، كل همه حشو بطنه بالطعام، وتفريغ شهواته، وإذا تأخر ما يشتهيه يلجأ فورًا إلى الضرب، ضرب مبرح الغايةُ منه إحداث إعاقة دائمة في المرأة، وهذا ما حدث مع هندو، فقد هربت إلى بيت أبيها حين ضربها أول مرة، لكن أحدًا لم يسمعها. في المرة الثانية، هربت إلى بلدة مجاورة، ليتم اتهامها حين أمسكوا بها في شرفها.

الكاتبة الكاميرونية دجايلي أمادو أمل (Getty)

وهندو لا تنسى ليلة دخلتها، فما حدث لم يكن دخولًا شرعيًا حسب ما هو متعارف عليه، بل كان اغتصابًا، كأن الغاية منه الانتقام، لقد سمع الجميع صراخ هندو ليلة دخلتها، وكلهم حاولوا إقناعها أن هذا ما يحدث، رغم أن الكل يعرف أن ما يحدث في ليلة الدخلة لا يحدث على هذا النحو البشع. وعلى هندو أن تصبر.
ذات ليلة، عاد زوجها مبارك ثملًا، طلب بقوة أن تحضر له طبق من مرق اللحم، انهمكت وهي في غاية الخوف في إعداد المطلوب، لكنها تأخرت، فطرحها بضربة عنيفة على ظهرها، صعقت، وتمكنت بغريزة البقاء من أن تصده وتحمي وجهها في اللحظة التي انهال عليها بالضرب. بالت على نفسها من شدة الخوف، وحين عاد من الغرفة ووجدها لم تعد الطعام بعد لم يضربها، بل طلب منها أن تلحق به إلى الغرفة. بالت مرة ثانية على نفسها، بلل السائل الدافئ ثوبها المبلل. طلب منها أن تنسى أمر الطعام، وأن تذهب إلى الاستحمام. لم يحتمل انتظارها وهي تستحم، فأخرجها من الحمام وهي ترتجف، مددها بقربه، ثم اغتصبها، كمبادرة للمصالحة، من دون أن يتوقف عن تذكيرها أن الذنب ذنبها، وأنها هي التي أخرجته عن طوره، ودعاها لأن تكون أكثر تفانيًا، وقال قبل أن يغفو أنه سامحها.

في مشهد الاغتصاب هذا تتجلى عقدة الرجل، أو أزمته النفسية إزاء المرأة، وإلا لماذا اشتهاها وهي مضرجة بدمائها وبولها، إنها عقدة الرجل، إذ يريد أن يرى كيف تكون لذتها وجسدها يتضور ألمًا، عالم ذكوري لا يكف عن البحث عن المرأة حتى وهي بين يديه، في قبضته.

لقد انتهت الحال بهندو لأن تجن، فتركوها لهلوساتها بعد أن ربطوها حتى لا تخرج من البيت. لم تقدر هندو أن تصبر أكثر ففقدت عقلها.
تنتهي الرواية مع سفيرة، وهي تحتفل بعروس زوجها الجديدة: "مهما حصل أنا السيدة. لا أحد يستطيع أن يحل محلي. هذا المساء تزينت كعروس. أعدت رسم وشومي بالحناء، وتهورت في رسم النقوش الأكثر غرابة، ارتديت الذهب، وأثوابًا فضفاضة من الحرير. أعشاب، مساحيق، سوائل، إكسير الحب، ترقد كلها سرًا في أعلى رف خزانتي. نساء العائلة يكررن على مسمعي مرة أخرى، الكلام الممل نفسه، والنصائح المعتادة لمواجهة العروس الجديدة: إنها أختك، أختك الصغرى، ابنتك. عليك يقع عاتق تعليمها، وإعطائها النصائح. أنت دادا ساري... أنت سيدة البيت. ولا تنسي منيال، منيال، أي الصبر، الصبر".
ما هذا يا دجايلي حمدو أمل، كيف أنعشت المخيلة، وطوعت الكلمات، لتنفيذ عمل مذهل كهذا.
جاء على الغلاف الخلفي للرواية "ثلاث نساء، ثلاث قصص، ثلاث وجهات مترابطة. تتعقب هذه الرواية مصير رملة التي سلخت عن حبيبها من أجل أن تتزوج زوج سفيرة، بينما أجبرت هندو أختها على الزواج من ابن عمها. صبرًا، هي النصيحة الوحيدة الممكنة من قبل محيطها، طالما لا يمكن تصور السير بعكس إرادة الله. وكما يقول المثل: في نهاية الصبر نلاقي السماء.
لكن السماء يمكن أن تصبح جحيمًا. الرواية تحكي عن الزواج القسري، والاغتصاب، وتعدد الزوجات. إنها رواية تخرق المحظورات بإدانة الشروط المتحكمة بالنساء في منطقة الساحل الأفريقي. دجايلي حمدو أمل تقدم رواية مذهلة عن عالم العنف ضد المرأة. عالم يبقى عالقًا في الذهن، حتى عندما تطوي الصفحة الأخيرة من الرواية".
ولدت دجالي حمدو أمل في أقصى شمال الكاميرون، من قوم الفولاني، وهي مسلمة. واجهت كامرأة في عمر 17 سنة كل ما يجعل حياة المرأة صعبة. عندما أصبحت كاتبة تبنت القضية النسوية كمناضلة. فازت بجائزة أفضل كاتبة أفريقية في عام 2019، وجائزة أورانج للكتاب في أفريقيا عام 2019. نشرت أولى رواياتها في فرنسا، وهي واحدة من الكاتبات المرموقات للأدب الأفريقي، وواحدة من أهم الكتاب في الكاميرون. صدر لها من الروايات: "ولا أندي... فن تقاسم الزوج"، و"منديل دموع الصبر"، و"قلب الساحر"، و"وسيترييجو... آكلة الروح".