Print
مها عبد الله

امرأة الأندلس: أسوة وعبرة

26 مايو 2024
عروض


يقول أبو البقاء الرندي في مرثية الأندلس، متسائلًا وجلًا: أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ... فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ؟
وإن في هذا الكتاب من نبأ أهل الأندلس ما يسر تارة، وما يحزن تارة، وما يثير العجب تارات أُخر، فهو يتحدث عن أندلس المرأة التي قلّما يتطرق لها الكتّاب، أو تروى عنها الأدبيات، فضلًا عن المؤرخين! إنها المرأة العربية الجذور، الأندلسية الموطن والهوى... الطبيبة والشاعرة والخاطّة والكاتبة والصانعة والماشطة والمعلمة والفقيهة، بل (وصاحبة نبوة) كما كان يتدارس رجال الأندلس عنها في مجالسهم، في دليل حي على رقي مكانتها آنذاك. غير أن هذا الوضع لم يكن يخلو من شوائب تمس مكانتها كامرأة، دينيًا واجتماعيًا وأدبيًا... فقد كانت إضافة إلى ما سبق، جارية ومحظية ومغنية ونائحة وشاعرة متبجحة في لون من الشعر، أشبه بالإباحي!
تبدع المؤلفة أيما إبداع في التنقيب عن مكنونات الحضارة الإسلامية والمتمثلة في نسائها تحديدًا، كأنصاف المجتمع، وأمهات النصف الآخر، كما يحلو لها إطرائهن في مقدمة كتابها "المرأة الأندلسية: مرآة حضارة شعّت لحظة وتشظّت". إنها أ. د. دلال عباس، أستاذة الأدب المقارن في قسم الدراسات العليا في إحدى الجامعات اللبنانية، وقد وضعت كتابها هذا من أجل تسليط الضوء على ركام شعلة حضارية أنارت ظلمات قرون وسطى ما لبثت أن طُمست، ليرثها الأنجلوسكسون، ويرثيها أهلها مع أطلالها في المشرق والمغرب. والكتاب هو جزء من رسالة لدراسة عليا كانت قد أعدتها المؤلفة عام 1974 بدافع من طموح جامح لفتاة شابة آنذاك، وقد أتى دافعها اليوم لطباعته، حضاريًا أكثر منه عاطفيًا، فالكرة الأرضية التي على كف المرأة تدور ــ كما تقتبس من والدتها ــ لا تكتمل إذا كان نصف سكانها إماء، فتقول: "المرأة مرآة تنعكس على صفحتها صورة المجتمع: أهي حرة أم جارية؟ لا يظنّن أحد أن عصر الجواري قد انقضى". وهي إذ تعرض للمجتمع، لا تجافي الحق حين عابت تشرذم الوطن إلى دويلات مفككة ومبعثرة بين المشرق والمغرب، تتناحر في ما بينها، ولا تتوانى في موالاة عدوها إن لزم الأمر! تقول في المقدمة: "ليس التاريخ هو الذي يعيد نفسه، بل البشر هم أنفسهم، وإن تغيرت سحنهم وأزياؤهم وأسنّتهم".
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2019 عن (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، وهو ينقسم إلى ثلاثة أبواب رئيسية، يتطرق الأول منها (المرأة في الأندلس) إلى المرأة الأندلسية ودورها في الحياة العامة، بينما يتعرّض الثاني (المرأة والحياة الثقافية) إلى دورها في الحياة الثقافية تحديدًا، ومكانتها في الأدب الأندلسي، في حين يعرض الثالث (شعر النساء في الأندلس) عددًا من شواعر الأندلس في عصورها المختلفة، مع تحديد الخصائص العامة لشعرهن.
أثارت المرأة الأندلسية الفقيهة والعالمة بعلوم الدين انتباه وجدل علماء الأندلس حول علاقتها بالنبوة، وعلى رأسهم الإمام ابن حزم الأندلسي، الذي يعدّ من أكبر علماء الإسلام، فقد كان يدين بالفضل للنساء في تلقينه شخصيًا الدين واللغة. وفي حين كانت النظم والأعراف الاجتماعية محل احترام الجنسين، لم يخرج عليها أحد، لا سيما النساء اللاتي لم يفكرن بوضع أفضل مما كنّ عليه، فقد خرجت بعض النسوة على تلك الأنظمة، وأبين التسليم والتبعية! كان من أحد أشكالها عقد زواج إحداهن وقد اشترطت على زوجها عدم الزواج بأخرى، أو اتخاذ جارية، مع ضمان حق الطلاق متى أرادت. كذلك، يشير الإمام ابن حزم لأخيه متعجبًا من صنيعه، حين اكتفى بزوجته حتى مات، فحزنت عليه بدورها حزنًا شديدًا، ورفضت الزواج من بعده عرفانًا لإخلاصه. وهذا أيضًا القاضي ابن جبير، لا يطيب له المقام في مدينة سبتة بعد رحيل زوجته عن الحياة، فيرحل إلى مكة حتى يوافيه الأجل هناك! قد يكون هذا مما يثير العجب فعلًا لا سيما في مجتمع عُرف عنه التعدد.
من مظاهر التحرر الذي حظيت به بعض نساء الأندلس افتتاح الصالونات الأدبية، كما عُرف في ما بعد لدى الفرنسيات في القرنين السابع عشر، والثامن عشر، كأمثال الشاعرة ولادة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون، وعائشة بنت أحمد التي استعصت على الزواج مكتفية بذاتها، قائلة: "أنا لبوة، لكنني لا أرتضي... نفسي مناخًا طول دهري من أحد". غير أن تلك الثورة على التقاليد التي كان من شأنها تكبيل الحريات وكبت الموهبة والإبداع، قد جاوزت الحد في ما بدا من تهتك شعري عند بعضهن، فضلًا عن المجاهرة بالحزن على مقتل الحبيب، في مشهد من الثقة والاستقلالية. لقد برعت المرأة الأندلسية في مختلف الأغراض الشعرية، كالمدح والهجاء والغزل والرثاء، وقد عكس هذا التعدد من اللون الشعري صورتها في أروقة المجتمع الأندلسي، كامرأة ذات كيان حر ومستقل، وعلى قدر كبير من الاعتداد، بل والجرأة.
كان من حال المرأة الأندلسية التابعة لطبقة اجتماعية عليا ــ وقد فرغت حياتها من عمل ــ أن يتردى عقلها وسلوكها إذا لم تحظ بزوج، فإذا حظيت به أصبح الاستحواذ على قلبه شغلها الشاغل، وقد أحاطت به الجواري فضلًا عن الزوجات الشرعيات، كأعراف وشرائع سائدة حينئذ! فكانت إن لم تلجأ لأعمال السحر، أسرفت في استخدام العطور والحلي والخضاب ومستحضرات التجميل. كان هذا المأخذ مدعاة لانتكاس نظرة الرجل الأندلسي نحو نظيرته الأندلسية، فهي من الضعف ما يسهل إغواءها، وعلى قدر من الخبث ما يستلزم الحذر عند التعامل معها، أما في سبيل إشباع رغائبها العمياء فليس له سوى حبسها في البيت! لا غرو بعد ذلك ألا تساوي التشريعات بين الرجل والمرأة، وأن تقتضي تعيين أعوان للقضاة ممن يشهد لهم بالعفاف، أو ليكونوا شيوخًا، إذا أرادوا النظر في أمور النساء.




كان امتلاك الجاريات ــ واللاتي كنّ يلحقن بطبقة الرقيق ــ مظهرًا من مظاهر الترف، لا سيما لدى الأمراء وعلية القوم! وفي حين كانت الجاريات يصنفنّ ضمن صنفين لا ثالث لهما: (جواري الخدمة) المسخرات للأعمال المنزلية، و(جواري المتعة) المثقفات بثقافة خاصة لتسلية الأسياد، كان قصر الزهراء وحده إبان حكم عبد الرحمن الأوسط يضم ستة آلاف ونيف جارية يستهلكن أرطالًا هائلة من صنوف الطعام، فضلًا عن حماماتهن اللاتي وصل عددها آنذاك إلى ثلاثمائة حمام! لم يقتصر الأمر على الإنفاق عليهن فحسب، بل كان شراؤهن من تلك الأسواق يشهد نوعًا من المزايدات يتضاعف بتضاعف ما تملكه الجارية من حُسن وعلم وفنون وطرب، قد يفوق سعر إحداهن آلاف الدنانير، في حين يكاد المعدم يلقى قوت يومه من دينار يكسبه بشق النفس.
قدم زرياب من بغداد الشرق إلى أندلس الغرب، وقد حمل في جعبته ألوانًا من الفنون ساهمت إسهامًا كبيرًا في إثراء ما أسمته المؤلفة بـ"النهضة الغنائية الأندلسية"، من غناء وموسيقى وألحان ونظم أشعار، وغيرها، من قواعد الطبخ، والأزياء، وآداب السلوك، ما يُعرف اليوم بأصول الأتيكيت، حتى أضحت معه إشبيلية حاضرة المدنية، والسبّاقة في أصناف اللهو والترف والطرب. وفي هذا قال فيلسوف الأندلس ابن رشد، وقد كان يتولى منصب قاضي القضاة في قرطبة متهكمًا: "إذا مات عالم في إشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حُملت إلى إشبيلية". ترى المؤلفة أن مما ساهم في انتشار موجة الغناء في أرجاء الأندلس موقف الفقهاء غير المتشدد، بل المتناغم معه في واقع الحال. فهذا قاضي الجماعة قد خرج في جنازة وقد كتب على باطن يده أبياتًا شعرية أطربته بها جارية أحد أصحابه، وهذا ابن عبد ربه الأندلسي صاحب كتاب "العقد الفريد" قد استمالته (مصابيح) بغنائها الشجي حتى وقف منصتًا وجاد بعدها بأبيات تطري ذاك الصوت الذي "يجول مجال الروح في الجسد".
تفرد المؤلفة للجارية اعتماد الرميكية عددًا من الصفحات في أطروحتها! كيف لا وقد أخذت بلب ملك أشبيلية (المعتمد بن عباد) كل مأخذ، وهو سليل الملوك، بينما كانت تعمل كخادمة عند أحد الأعيان، في قصة أشبه بقصص الأساطير، حيث (ومن أول نظرة) انتقلت من غسل الثياب على النهر ــ حيث التقيا ــ إلى أميرة متمرغة في ديباج الحلل، بل وطين الكافور، في قصره، وقد اقتبس من اسمها لقبه حين شغف بها. قال في رثائها بعد نفيه وإياها وأبنائه وبناته إلى مدينة أغمات بالمغرب سجينًا ذليلًا، وقد استهل كل بيت بحروف اسمها:
أَغائِبَةَ الشَخصِ عَن ناظِري           وَحاضِرَةً في صَميمِ الفُؤادِ
عَلَيكِ السَلامُ بِقَدرِ الشُجون            وَدَمع الشُؤونِ وَقَدرِ السُهادِ
تملكتِ مِنّي صَعبَ المَرامي           وَصادَفتِ ودّي سَهلَ القيادِ
مُراديَ لُقياكِ في كُلِّ حين             فَيا لَيتَ أَنّي أَعطى مُرادي
أَقيمي عَلى العهدِ ما بَينَنا              وَلا تَستَحيلي لِطولِ البِعادِ
دسَستُ اِسمَكِ الحُلوَ في طيّ شِعري    وَألّفتُ فيهِ حُروفَ اِعتِمادِ
وبعيدًا عن شأن المحظيات والقيان من نساء الأندلس، فإن للزاهدات منهن شأنًا آخر! لقد خدم المتصوف الأشهر محي الدين بن عربي الأندلسي (فاطمة) ردحًا من الزمن كمريد راغب في العزلة، وقد تقدمت في العمر، واتخذت من كوخ القصب في ريف إشبيلية صومعة تتحنث بها، وقد رأى ابن عربي من أعاجيب حضور الجن بين يديها ومعرفتها بهم ما كان شاهدًا على حالها مع الله. قد سمعها ذات مرة في مناجاتها تقول: "عجيب لمن يقول إنه يحب الله ولا يفرح به وهو مشهوده وعينه إليه ناظرة في كل عين". وما برحت تذكّره بأنها أمه الإلهية، وأن (نورا) هي أمه الترابية.
لا يستقيم سرد تاريخ الأندلس من غير المرور على السيرة العطرة لعائشة الحرة. تلك المرأة الأبية ابنة السلاطين التي ما برحت تنافح عن مملكة غرناطة في أعظم ما تكون الشهامة، وقد لاقت من زوجها أسير سريته ما لاقت، ابتداءً من أسرها وولديها في برج قمارش، وانتهاءً بهروبها ليلًا وتأليب أهل البيازين على جور زوجها... سلطانهم! تُختتم أسطورة فتح الأندلس العظيم بـ (زفرة العربي الأخيرة)، والتي لا تزال أطلال ذلك الشاهد على أرض إسبانيا تردد صداها، وصدى والدته عائشة الحرة وقد أغلظت القول على ابنها في أقسى ما يكون التوبيخ، قائلة: "إبك كما تبكي النساء... ملكًا مضاعًا لم تحافظ عليه كالرجال".
وأختم في شجن مع لسان الدين بن الخطيب عند رحيل رفيقة دربه، يرنو لها وقد دُفنت في مدينة سلا بعد سقوط غرناطة، قائلًا:
سَقَى الْحَيَا قَبْرَك الْغَرِيبَ وَلاَ           زَالَ مُنَاخًا لِكلِّ هَطَّالِ
قّدْ كُنْتِ مَالِي لَمَّا اقْتَضَى زَمَنِي         ذَهَابَ مَالِي وَكُنْتِ آمَالِي
اَمَّا وَقَدْ غَابَ فِي تُرَابِ سَلاَ            وَجْهُكِ عَنِّي فَلَسْتُ بِالسَّالِي
وَاللَّهِ حُزْنِي لاَ كَانَ بَعْدُ عَلَى            ذَاكَ الشَّبَابِ الْجَدِيدِ بِالْبَالِي
فَانْتَظِرِينِي فالشَّوقُ يُقْلِقُنِي              وَيَقْتَضِي سُرَعَتِي وَإِعْجَالِي
وَمَهِّدِي لِي لَدَيْكِ مُضْطَجَعًا             فَعَنْ قَرِيبٍ يَكُونُ تَرْحَالِي
حقًا، لقد كانت حضارة كومضة، خمدت بعد أن شعّت لتضيء غياهب أوروبا المظلمة... وليتها تعود!