Print
راسم المدهون

"مقام البياض": الحياة العسيرة في غزة المحاصرة

19 يونيو 2024
عروض


مجموعة الشاعر الفلسطيني جواد العقاد الثانية "مقام البياض" تنتمي للحياة العسيرة بل الباهظة في غزة المحاصرة وضحية الحروب التي لم تتوقف يومًا إلا كي تعود من جديد، وهي كذلك مثال حيوي، جميل ومعبّر، عن موهبة واحد من أبناء الجيل الشعري والأدبي في فلسطين اليوم، فالعقاد المولود في غزة عام 1998 أصدر من قبل مجموعة شعرية أولى ومعها دراسة نقدية، فيما حصل على شهادات أكاديمية عليا مارس من خلالها نشاطات مرموقة وفاعلة.

"مقام البياض" هي مجموعة الشاعر الثانية (منشورات دار عشتار للنشر والتوزيع- الشارقة-الإمارات العربية المتحدة- 2022) وهي تجربة خاصة حملت اهتمامًا مختلفًا في مقاربة موضوعاتها من خلال تأملات عميقة تمزج عالم الواقع بالرؤى الصوفية التي نرى بؤرتها الرئيسة في فكرة "البياض" التي يراها الشاعر في مكانة "المقام" الذي تنتمي له القصائد وتستغرق فيه انتباهاتها الشعرية وما تشير إليه من معان ومناخات تطاول الحياة كلها:

"يا بنت ما كنت شاعرًا

لكن جن عبقر "يجرُ" قلبي على المدى

ويغمس فيه أنهار الدهشة

حين تلعنه المسافة

فنفترق".

الشعر هنا يتجول في أقاليم الحب وعوالمه فيجعلها العنوان الأبرز والأشد سطوعًا للحياة ذاتها من خلال إعلاء مكانة "الرؤى" الذاتية المنسوجة من حدقة تتجول في المعنى الخفي، البعيد والماورائي والذي يقارب الحلم حينًا وتخوم الفلسفة حينًا آخر. جواد العقاد ينسج قصيدته من شغف بالفكرة في عبورها برزخ الألم بعدّة فنية تطمح إلى تجاوز الحيّز الضيق للعيش اليومي إلى حيّز يفور بصور وحالات تنتمي لقراءات مغايرة تقوم وتتأسّس على مفارقة التقليدي، المألوف والمكرر. ولعلنا نرى في إهدائه قصائد هذه المجموعة إلى "الفراهيدي" إشارة للرغبة في مفارقة اشتراطاته وأدواته الفنية والخروج عليها، وهو الإهداء الذي يقول للفراهيدي في صورة مباشرة: "عليك أن تبتكر لعبة أخرى للنجاة". سنرى في القصائد أن تلك "اللعبة الأخرى" لا تعني الخروج على عروض الشعر كقوام شكلي، بل تتجاوز ذلك إلى احتمالات أخرى تمسّ المعنى والمبنى معًا وتأتي بهما من عوالم ومفاهيم أخرى تقع في القلب والروح وتقودها المخيلة.

"مقام البياض" هي أيضًا قصائد العزف المنفرد لقضايا الروح الذاتية التي تعصف بها آلام وأوجاع الواقع وهي لوحات تأخذ من اليومي والعابر كما من الصعب والشائك، فتعيد تأملهما على نحو فيه كثير من أناقة الكلمة وتعبيرية الصورة التي نراها في هذه المجموعة، لوحات تتكامل خطوطها وسطورها:

"يا هند

العواصم،

كل العواصم غارقة فيك، وأنا أغرق

أنهزم أمام حضارتك الأنثوية

فتعزفينني جرحًا في صوت الكمان

صهيل فرس طعنه التاريخ".

موضوعات قصائد "مقام البياض" تبدو للوهلة العابرة "ملتبسة"، ومسكونة بضبابيتها، لكنها في القراءة المتأملة تنتمي إلى رغبة واعية في تقريب القصيدة من التشكيل، حيث تصغي المعاني والأفكار كما الأخيلة لنداء الصورة والرسم في استلهام واع لحضور الرغبة في تكوين مشهد ينبض على نحو حميم بالمشاعر والأفكار. هي قصائد تتنكب عن السرد المباشر وما يحمله من رغبة في "الإخبار" المحدد ويذهب نحو فضاء الصورة المفتوحة على أفق آخر تعصف به التفاصيل والجزئيات الصغيرة التي لا تكاد تتكامل حتى تعود إلى مراوغة المعنى والإفلات منه:

"من لم يعشق كهذا فلم يعشق بعد...

قالت

ونحن نخرج بياضًا من البياض".

اللوحة هنا تشتبك مع البياض ذاته في لعبة "استجرار" المعنى على نحو أوضح، لكنها تفعل ذلك في اشتراط الحفاظ على البياض، ليس باعتباره لونًا لواقع أو محيط، ولكن بوصفه "صفة" تسكن الروح وملاذًا يحتضن الشعر ويأخذ بسطوره نحو أفق فني مغاير تندلع منه حرائق التأمل وتندلع سردياتها غير المألوفة، بل المنسوجة من شغف جميل.

هي قصائد تنحاز إلى فردية الشاعر باعتبارها "بطلة" الحكاية كلها، حكاية الشاعر والشعر معًا، ونراها في قوامها هذا تبني لنفسها بيتًا شعريًا من حجارة المخيلة ومن جذوة الأحاسيس وعذوبة مخيلة شاعرها. ويلفت أن قصائد هذه المجموعة تنحاز بثقة وبتفاؤل بالشعر إلى تيار شعري فلسطيني يعيش لهيب الحرب واحتراب السلاح لكنه يكتب من تلك المناخات رؤاه العابقة بتفاؤل الحياة وسيرورتها نحو حياة تتجدد وتفوح من زهورها رائحة وعبق يقاوم دخان الحرائق ولهيبها:

"يا رفاقي القرابين

أحب هذا الليل الفائض مني

نحن أبناؤه الطيبون

نتعاطى العتمة

المسكونة بالشعر الهارب من غابات الأنوثة

ومن وصف الضحكات اليابسات

نلهث كالوعول وراء أي سراب

يتخلق على هيئة غانية".

هو "مقام البياض" وهو قرارة الموج الصاخب في لحظة توحد بالحياة بوصفها أفقا لليوم وللغد وما يتبعه من أيام تكون بالتأكيد أكثر جمالًا وعذوبة مع هذا التحديق البارع في البياض... البياض الذي يضمر غيابًا، ولكنه غياب هو الحضور الذي يرفل في حرير الكلمات ورونق الصور الشعرية.